مجلة الرسالة/العدد 917/القصص
مجلة الرسالة/العدد 917/القصص
حب في الشتاء
قصة للكاتب الروسي أنطون تشيكوف
للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
كان ذلك اليوم من أيام الشتاء المشرقة. . . والصقيع ينقصف في حدة، وقد كسا الجليد اللجيني خصلات شعر نادنكا المتهدلة على جبينها وحافة شفتها العليا.
وكانت ممسكة بذراعي ونحن واقفان على تل مرتفع، وقد امتد تحتنا المنحدر الأملس، تنعكس عليه أشعة الشمس كما لو أنه مرآة، وبجوارنا زاحفة مغطاة بقماش أحمر براق.
وقلت لها راجياً (فلننزلق يا نادبزدا بتروفنا! مرة واحدة فحسب! أؤكد لك أنك ستكونين بخير ولن تصابي بسوء).
بيد أن نادنكا ظلت مرتاعة، فقد كان يبدو لها المنحدر من موقع قدميها حتى سفح التل الثلجي وكأنه هوة مهولة عميقة الغور. وخانتها شجاعتها، وبهرت أنفاسها كلما حدقت إلى أسفل، في الوقت الذي كنت أقترح عليها مجرد ركوبها الزاحفة. إذن ماذا يكون حالها إذا ما جازفت بالاندفاع إلى الهاوية؟ فلعلها تهلك أو لربما تفقد وعيها.
وقلت (أرجوك! لا تخافي! إنها شجاعة واهنة منك! أنه خور وضعف!)
وأخيراً أذعنت دونكا. . ولاحظت من ملامحها أنها قد رضخت وهي في حالة من الخوف المميت. وأجلستها على الزاحفة شاحبة مرتجفة، وأحطتها بذراعي. ثم دفعت بي وبها إلى أسفل الهاوية.
واندفعت الزاحفة وكأنها القذيفة. ولطم الهواء وجهينا مزجراً، وهدر في آذاننا يتمزق حولنا، ويقرصنا غاضباً في قسوة، محاولاً أن ينتزع رأسينا من أكتافنا. وتعذر علينا التنفس من ضغط الريح.
كان يبدو كما لو أن الشيطان ذاته قد أمسكنا بمخالبه، يسحبنا إلى الجحيم في هدير. واستحال كل ما يحيط بنا خطاً واحداً متماسكاً ممتداً يسابقنا سباقاً هائلاً. . . وخيل إلينا في لحظة كما لو أننا في طريق الردى.
وهتفت قائلاً في همس (إني أحبك يا ناديا!)
ثم أخذت الزاحفة تقل سرعتها رويداً رويداً، ولم نعد نخشى هدير الريح. وسهل علينا التنفس. ثم إذا بنا في سفح الهضبة.
كانت نادنكا في حالة سيئة، شاحبة الوجه، تتنفس في صعوبة. . . وساعدتها على النهوض.
وأخيراً قالت وهي ترنو إلي بعينين واسعتين مفعمتين رعباً (ما من أحد في العالم يدفعني بعد ذلك إلى إعادة الكرة. لقد كدت أهلك!).
وإن هي إلا لحظة حتى استعادت رباطة جأشها، ثم تطلعت في عيني متسائلة، وقد لاح على محياها دلائل العجب: هل أنا تفوهت حقاً بهذه الكلمات الثلاث؟ أم كان ذلك وليد مخيلتها وسط زئير العاصفة؟ وكنت واقفاً بجوارها أدخن وأنا غارق في تأمل قفازي.
وأخذت بيدي، ثم قضينا وقتاً طويلاً نتجاذب أطراف الحديث على مقربة من التل الثلجي. وكان من الجلي أن اللغز لا يدع لها فترة للراحة. . . هل تفوهت بتلك الكلمات أو لم أتفوه؟. . . نعم أو لا؟. . . نعم أو لا؟ إنها مسألة كبرياء، شرف، حياة - إنها شيء ذو أهمية كبرى، أهم مسألة في العالم.
وظلت نادنكا تتأمل وجهي في حزن واضح، وتخترق نظراتها النفاذة ملامحي في صبر نافذ، وتجيب على أسئلتي كيفما تعن لها الإجابة. أواه، يا لها من مشاعر تتلاعب على صفحة ذلك الوجه الجميل! شاهدت أنها تناضل مع نفسها، وتود أن تقضي بشيء، وتريد أن تسأل سؤالاً، دون أن تجد ما يسعفها من كلمات. تستشعر الارتباك والخوف والاضطراب. . .
وأخيراً قالت دون أن تنظر إلي (أتعرف ماذا؟)
قلت (ماذا؟)
قالت (دعنا ننزلق مرة أخرى!)
وتسلقنا الهضبة الثلجية وجلست نادنكا في الزاحفة شاحبة مرتجفة. ومرة أخرى اندفعنا شطر الهوة المخيفة. وزأرت الريح. ومرة أخرى همست والزاحفة تشق طريقها في سرعة مخيفة (إني أحبك يا ناديا!) وعندما توقفت الزاحفة عن المسير ألقت نادنكا نظرة على الهضبة حيث انزلقنا، ثم حدجتني بنظرة طويلة، تستمع إلي وأنا أتكلم في هدوء وبرود، ويعرب كل جزء من جسمها الصغير، حتى الفراء التي كانت تغطي به يديها، حتى غطاء رأسها، عن منتهى الحيرة، وكأنما قد سطر على وجهها (ماذا يعني ذلك؟ من الذي تفوه بتلك الكلمات؟ أنطق بها هو أو أني تخيلت ذلك فحسب؟)
وأصبح الشك يضايقها ويقصيها عن كل صبر. ولم تعد الفتاة المسكينة تجيب على أسئلتي، بل صمتت في غضب وكأنها على وشك البكاء.
وأخيراً سألتها (أليس من المستحسن أن نعود إلى الدار؟)
فقالت في خفر (حسن. أنا. . . إني أحب هذه الرياضة. ألا تود أن ننزلق مرة أخرى؟)
إنها تحب (هذه الرياضة)! ومع ذلك، فعندما امتطت الزاحفة، أصبحت - كما كانت في المرتين السابقتين - شاحبة الوجه مرتجفة، تلهث رعباً.
وانحدرنا للمرة الثالثة. ولاحظت أنها تحدق في وجهي وتراقب شفتي. ولكني وضعت منديلي على فمي وسعلت. وعندما بلغنا منتصف الهضبة، نجحت في التفوه قائلاً (إني أحبك يا ناديا!)
وظل السر غامضاً! كانت نادنكا صامتة، تنعم النظر في. . لا شيء. . وأوصلتها إلى دارها. كانت تسير الهويني، وتحاول أن تقصر من خطواتها، إلى أن تتحقق من أني تفوهت بهذه الكلمات. ولاحظت كيف كانت روحها تتعذب، وأي مجهود كانت تقوم به وهي تحدث نفسها قائلة (لا يمكن أن تكون الريح قد تفوهت بهذه الكلمة! إني لا أود أن تكون هي السبب!)
وفي صباح اليوم التالي تسلمت رقعة منها تقول فيها (إذا كنت تود التريض اليوم، فاحضر إلي).
ومنذ ذلك الوقت أخذت أذهب يومياً للانزلاق مع نادنكا، وكلما نزلنا بالزاحفة أهمس قائلاً (إني أحبك يا ناديا)
وسرعان ما اعتادت نادنكا هذه العبارة كما يعتاد المرء الخمر والمخدر، وأصبحت لا تستطيع العيش بدونها. وفي الحق، كان الانزلاق من التل الثلجي يرعبها دائماً بيد أن الإحساس المخيف والشعور بالخطر قد ولدا لها سحراً غريباً من كلمات الحب - كلمات كانت لا تزال لغزاً يعذب روحها. وكنا - أنا والريح - لا زلنا موضع شكها. . فقد كانت تجهل من منا الذي يغازلها. بيد أنه كان يبدو الآن أنها لم تعد تأبه بذلك أو تهتم. فشارب الخمر لا يعبأ من أي دن يستسقى ما دام أن ما يحتسيه يثمله.
ولقد حدث ظهر يوم أن ذهبت وحيداً إلى أرض الانزلاق واختلطت بالموجودين، فشاهدت نادنكا تصعد الهضبة وتنظر باحثة عني. . وكان يبدو عليها الخوف من الذهاب وحدها - أوه أي خوف! لقد كانت ناصعة البياض كالثلج، ترتجف وكأنها في طريقها إلى المقصلة. بيد أنها واصلت التسلق في عزم دون أن تلتفت خلفها. وكان من الجلي أنها صممت أن تتبين وحدها فيما إذا كانت ستستمع إلى تلك الكلمات العجيبة في أثناء غيابي.
وشاهدتها شاحبة الوجه منفرجة الشفتين، تمتطي الزاحفة وتغمض عينيها، ثم تندفع بها وكأنها تودع الأرض إلى الأبد.
ولست أدري هل سمعت نادنكا تلك الكلمات. كل ما أدريه أني شاهدتها تنهض من الزاحفة وقد بدت متخاذلة منهوكة. ولم يبد علي محياها ما ينبئ: أكانت قد سمعت شيئاً أو لم تسمع. فقد كان خوفها وهي تنحدر قد جردها من حاسة السمع أو تمييز الأصوات. فلم تؤد بها محاولتها الجبارة إلى حل ذلك اللغز اللطيف. . ولم تحاول مرة أخرى.
ثم أقبل شهر مارس. . . وكانت أشعة شمس الربيع أكثر حناناً وشفقة. . وتحولت هضبتنا الثلجية إلى لون قاتم، وفقدت بهاءها، وأخيراً ذاب الثلج وهجرنا الانزلاق: ولم يعد هناك ثمة موضع تستطيع فيه المسكينة نادنكا أن تستمع إلى تلك الكلمات وفي الحق، لا يوجد هناك من يتفوه بها الآن، فالريح قد ولت، وكنت أن الآخر على أهبة الرحيل قاصداً بطرسبرج لأقيم فيه مدة طويلة بل لعلها تكون إقامة مستمرة.
وحدث قبل رحيلي بيومين أن كنت جالساً يغمرني الظلام في الحديقة الصغيرة التي يفصل بينها وبين فناء نادنكا حاجز مرتفع. . . كان الجو لا يزال بارداً، ولم يعتد هناك جليد. وبدت الأشجار وكأنما قد فارقتها الحياة. بيد أن رائحة الربيع كانت تضوع في كل مكان، والغربان تنعب في صوت جهوري أثناء استقرارها في عشها. وذهبت إلى الحاجز، ووقفت مدة طويلة أتبصص خلال فرجة بالحاجز. وفجأة شعرت بالوحشة تنتابني. وبدافع يدفعني إلى العدول عن الرحيل.
ثم شاهدت نادنكا تقبل نحو الطنف، وتحدج السماء بنظرة حزينة والهة. كان النسيم يهب على وجهها الشاحب فيذكرها بالريح التي كانت تزأر في وجهينا فوق الهضبة الثلجية عندما كانت تستمع إلى تلك الكلمات الثلاث. وكسا وجهها حزن بالغ وانحدرت الدموع على خدها، ومدت الطفلة المسكينة ذراعها كما لو أنها تتوسل إلى النسيم أن يأتي بتلك الكلمات وفي هذه اللحظة همست قائلاً (إني أحبك يا ناديا!)
يا لرحمة الله! أي تغير ذلك الذي طرأ على نادنكا! لقد ندت عنها صرخة، ثم ابتسمت ابتسامة أشرقت على وجهها، وبدت تغمرها البهجة والسعادة والجمال. وجعلت تستقبل النسيم بذراعيها وذهبت أحزم أمتعتي. . .
كان ذلك منذ أمد بعيد. أما الآن فقد تزوجت نادنكا. . تزوجها سكرتير أحد النبلاء ولها الآن أولاد ثلاثة. .
ومع ذلك فإن ذكرى تلك الأيام التي كانت تذهب معي فيها للانزلاق، فتستمع إلى الريح تهمس إليها (إني أحبك يا ناديا!) هذه الذكرى لم تغب عن بالها مطلقاً، لأنها في عرفها أجمل وأسعد بل أكثر الذكريات تأثيراً في حياتها. . .
بيد أن، وقد بلغت الآن من الكبر عتيا، لا أستطيع أن أفهم لماذا تفوهت بتلك الكلمات، وماذا كان باعثي على هذه المزحة!؟
محمد فتحي عبد الوهاب