مجلة الرسالة/العدد 917/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 917/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 01 - 1951



تفسير جزء تبارك

لفضيلة الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

وضع هذا التفسير صديقنا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية. وقد حذا فيه حذو الأستاذ الإمام في تفسيره لجزء عم من حيث الاقتصار على ما فيه الفائدة ويحتاج إليه الحريص على فهم كلام الله وحده. وقد تحققت هذا من التفسير وزارة المعارف المصرية فطبعت منه نيفاً وثلاثين ألف نسخة ووزعتها بين أيدي الطلاب. ويكفي في التعريف بهذا التفسير ما قاله المرحوم الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر فيه (أنه مرجو النفع به: لما فيه من العناية بتقرير المسائل التي تمس إليها الحاجة، ولما هو عليه من سلامة الأسلوب وصفاء العبارة) وقال فيه الأستاذ الشيخ محمد بهجة الأثري كبير مفتشي المعارف في الوزارة العراقية، وقد أهدى إليه مؤلفه نسخة منه: (وأفاخر بأن أضمها إلى أمثالها في خزانة كتبي من أجلاد التفاسير لعلماء الأمة. ولها عليها جميعاً مزية الجدة في الرأي وجمال العرض وبراعة البيان) افتتح المفسر مقدمة تفسيره بقوله:

(نحمدك ربنا منزل القرآن. بحقائق الإيمان، وجليل العبر، وملهم الأذهان نواصع البيان، ودقيق النظر، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد المبعوث بأكرم الأديان، وقاطع البرهان، من ولد مضر، صلاة وسلاماً تتجددان، ما تجدد الزمان، وتعاقب الملوان. ولاح قمر، ولا أدل على تصوير مكانة هذا التفسير والتعريف بحسنه من أن نبسط تحت مواقع أبصار القارئ هذا النموذج منه: وهو ما حبره المؤلف تعليقاً على آية (كذلك يضل الله من يشاء ويهذي من يشاء) فقد قال بعد أن أبان ارتباط معنى الآية بمعنى ما سبقها وأزاح الستار عن معنى القضاء والقدر بما يمكن إليه ضمير القارئ المثقف قال ما نصه:

(على أن المقام ربما وسع كلمة نحب ألا تفوتنا عملاً بما أمرنا به القرآن من النظر في الأمم وحالاتها، ثم الاعتبار ببداياتها ونهاياتها، فنقول: أشرنا في أطواء كلامنا السابق إلى أن البشر قد تجذبهم إلى سعادتهم أو شقاوتهم (جواذب) وإن شئت سميتها (عوامل): من مثل الملة التي يمارسون شعائرها وأحكامها، والحكومة التي تسيطر عليهم، والعائلة التي تربي أطفالهم. والمدرسة التي تعلم أبناءهم، والمحفل أو النادي الذي يحتشدون فيه للحديث أو السمر أو اللهو أو البيع والشراء أو مختلف الأعمال والمصالح - فالمراد من المحفل أو النادي ما يريده علماء التربية بقولهم (جماعة الأصدقاء والمعاشرين) - والوراثة التي تنقل إلى أبدانهم دم آبائهم ومزاجهم وتكوينهم الجسماني، كما تنقل إلى نفوسهم طباع أولئك الآباء وغرائزهم وأخلاقهم وتكوينهم الروحاني، والإقليم الذي يشربون ماءه، ويستنشقون هواءه، ويذوقون حره وبرده، ويقتاتون بمحصولاته. وهذا المؤثر يسميه علماء علم النفس (البيئة الجغرافية)، ويسمون العوامل الأخرى (البيئة الاجتماعية).

هذه (الجواذب) أو (العوامل) هي التي تعمل في تكوين الأمم، وهي التي تعرف بها حالتها الاجتماعية، ودرجتها في سلم المدنية؛ فإن صلحت تلك العوامل واستقامت صلحت الأمم واستقامت في أفرادها وجماعاتها؛ إذ ليست الجماعات إلا فرداً متكرراً، وإن ساءت وفسدت ساءت أحوال الأمم، وانحط شأنها، وتقهقر عمرانها.

هذه الجواذب هي التي تجتذب البشر إلى ملابسة الخير أو مواقعة الشر؛ وتقودهم من أيديهم إلى مواطن السعادة، أو مواطن الشقاوة، وهي التي نستدل بها، ونمشي على أثرها في معرفة ما هو قضاء الله وقدره في هذه الأمة، أو تلك الأمة.

فمهما رأينا من كمال تلك العوامل وسدادها، وثبات أمرها، وحسن نظامها - فهناك فوز الأمة وفلاحها، وتجلى حكم القضاء والقدر فيها. ومهما رأينا من نقص (العوامل) وخطلها، واضطراب أمرها، وقبح نظامها - فهناك هلاك الأمة ودمارها، وحكم القضاء والقدر فيها.

هذه العوامل هي التي يعنى بها الأنبياء والحكماء والمشرعون والعلماء الاجتماعيون، فيجتهدون في إصلاحها، وتقويم أودها؛ حباً في إصلاح أممهم، وترقية شأن شعوبهم، ولم يأل الدين الإسلامي في النصح لأبنائه بوجوب توفيرها وتنقيتها من الشوائب؛ كي تبقى صالحة لسعادتهم في دنياهم، ونجاتهم في أخراهم.

قد يقال: إذا كانت هذه العوامل هي مظهر قضاء الله وقدره في البشر، وعلى سلمها ينزلهم ربهم ويصعدهم، ويشقيهم ويسعدهم، فأنى لنا الوصول إليها بالإصلاح والترميم، والتغيير والتبديل؟ وهل هذا إلا افتئات على القدر، وتداخل في وظيفته؟

والجواب على هذا آيات القرآن نفسها؛ فإنها إنما أمرتنا بالنظر في أحوال الأمم والاعتبار بما جرى؛ لنتمسك بما كان سبباً في نجاتها وسعادتها، ولنتجنب ما كان سبباً في هلاكها وشقاوتها. ونحن في كلتا الحالتين بالغون ما قضاه الله وقدره فينا (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).

وهذه الأمم المعاصرة لنا - معشر المسلمين - ارتفعت وعزت وغلبت بما كان من عنايتها بأمر العوامل المذكورة؛ فليس الدين لديها اليوم، ولا طرز الحكومة، ولا نظام العائلة، ولا قوانين المدرسة والتربية العامة وسائر مقومات الاجتماع - كما كانت عليه في عصورها الوسطى.

تقول: والإقليم والوراثة كيف يكون إصلاحهما؟

فأما إصلاح (الإقليم) فيكون بتجفيف المستنقعات، وغرس الأشجار، وإنشاء الغابات والحراج، وحفر الترع، وجر المياه النقية للشرب.

وأما إصلاح (الوراثة) وتحسين حالة النسل والأخلاف فقد أخذ الغربيون في الأيام الأخيرة يعتنون به، ويستفيدون مما يرشدهم إليه العلم الصحيح، والتجربة القاطبة بشأنه.

وهذا، أو ذاك، أو ذلك - مما يدخل تحت الطاقة، ويستطيعه البشر وقد أصبحت المكابرة فيه ضرباً من الجهل والغباوة بعد ما رأينا حسن أثره واضحاً جلياً في الأمم التي غلبت علينا، وأصبحت المتحكمة فينا.

وعجيب من مسلم أن يجرؤ على القول بأن في إصلاح الدين، أو الحكومة، أو نظام العائلة، أو طريقة التعليم والتأليف، أو سائر عوامل الحضارة والعمران - مخالفة للدين، أو تدخلاً في وظيفة القضاء والقدر، وهذا الشارع الأعظم يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركناً من أركان الدين، وليس هو في الواقع ونفس الأمر إلا مراقبة دائمة على الدين والمتدينين به؛ فلا يتسرب إليه أو إليهم ما ليس منه في شيء فيفسد ويفسدون.

فالأمر والنهي إذن إصلاح، والآمرون الناهون مصلحون وكان بعض العارفين يقول: (ينبغي لأهل كل مذهب في كل عصر أن يكون فيهم عالم كبير ينقح مذهبهم، وذلك لأن الأحكام تتغير بتغير الزمان)

ومما يحسن إيراده هنا أن الشارع نبهنا إلى تأثير ناموس الوراثة، وأشار إلى أن في إصلاحه إصلاحاً للنسل والذرية مذ قال: (تخيروا لنطفكم، فإن العرق نزاع) يريد تزوجوا كرائم النساء؛ فإن أولادكم من زوجاتكم يرجعون في طيب الأخلاق وقبحها إلى أجدادهم من أمهاتهم، أما رجوعهم في أخلاقهم إلى أجدادهم من جهة آبائهم فبالطريق الأولى. وليس فوق هذا إرشاد وتعليم لنا في أن نصلح شؤوننا، وعوامل اجتماعنا، حتى ما يظن أنه مما لا يدخل تحت طاقتنا كمسألة الوراثة هذه. وقال أبو الأسود الدؤلي مخاطباً أولاده:

وأول إحساني إليكم تخيري ... لماجدة الأعراق باد عفافها

وبالجملة فإن الدين والعلم والتجربة والمشاهدة اتفقت كلها - وإن خالفها الجهل والتقليد والمكابرة - على أن سعادة الأمم وشقاءها أمران ميسوران لها، داخلان تحت طاقتها. وليس معنى أن الله يضلها ويهديها إلا أنه تعالى يمهد تحت مواقع أبصارها طريق الهدى والضلال؛ فهي إذا اختارت لنفسها طريق الهداية اختارته وسلكته بمشيئة الله وإرادته وسابق علمه، وإذا اختارت لنفسها طريق الضلال اختارته وسلكته أيضاً بمشيئته تعالى وإرادته وسابق علمه. وما أحسن ما قاله نبينا : (أيها الناس، إنهما نجدان: نجد الخير ونجد الشر؛ فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير؟)، ويشبه هذا ما قاله الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر: (إن الله أراد بنا شيئاً وأراد منا شيئاً، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟)

وأوضح السبل الموصلة إلى سعادة الأمم هو إصلاحها دينها! فلا يكون فيه حشو أو بدعة، أو تكليف مما لم يأت به وحي، ولا خبر صادق. ثم إصلاح بقية المقومات والعوامل التي قلنا إنها هي التي تجذب بضبع الأمم إلى مراقي الكمال والعزة والغلبة. كما أن أقرب الطرق التي تأخذ بالأمم توا إلى هاوية الذلة والمسكنة والدمار والاضمحلال - هو ترك الدين محشواً بالبدع، وبما لا يرضي الله ورسوله من الآراء والتعاليم والأقوال البين سقطها، الظاهر غلطها. ومثل ذلك في الضرر أن نترك كل قديم على قدمه من أوضاع حكوماتنا، ونظام عائلاتنا، وأصول التدريس والتأليف في مدارسنا ومؤلفاتنا، وسائر مقومات اجتماعنا. وقد تبين فساد ذلك كله وعدم إيصاله إلى بحابح الحياة السعيدة؛ فإن جميع ذلك سبل ضلال: بسطها الله تحت مواقع أبصارنا، وبالغ في تحذيرنا منها في محكم كتابه؛ فما علينا إلا التنكب عنها، والاستعاذة به تعالى منها! فنكون من الفائزين المهتدين إن شاء الله).