مجلة الرسالة/العدد 919/الدين والسلوك الإنساني

مجلة الرسالة/العدد 919/الدين والسلوك الإنساني

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 02 - 1951


للأستاذ عمر حليق

- 3 -

لن يستطيع الباحث أن يمعن في دراسة الدين والسلوك الإنساني دون أن يتسلح بالنظريات والشطحات الفلسفية بالإضافة إلى تسجيله للظواهر الواقعية في علاقة الفرد بالمجتمع.

والباحث يجد نفسه والحالة هذه كدقات الساعة يميل تارة إلى النظريات وطوراً إلى الواقع، فهذا نهج أقل ما يقال فيه أنه سليم

فنظرة الماركسية إلى الدين - وهي نظرة مادية في كليتها - لا تعترف بتلك الناحية الأصلية في فلسفة الدين وهي ما أصطلح الناس في الغرب على تسميته بالاختبار الدين. والذي يؤكد صلاح هذا النهج في دراسة الدين كما شرحه الماركسيون بأنه وليد الأوضاع الاجتماعية؛ فمثلاً في سلوك الطبقات التي تمارسه والتي هي بدورها متأثرة مسيرة بنفوذ ذوي المصالح المادية من رجال الدين ومن يلوذ بهم من القوى والعناصر الاقتصادية التي يربطها بالنظم الدينية روابط تقليدية متينة. ففي طبيعة التعاليم الدينية (وفي الإسلام على وجه الخصوص) دعوة سافرة إلى تقييد الحد من سلطات المتاجرين باسم الدين والذين يدورون حولهم من أصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية؛ وخلوا الإسلام من الكهنوت قد جعل طبيعة التعاليم الدينية في متناول الناس، بها يستهدون دون الحاجة إلى الوساطة، ومنها يستمدون سياسة عملية لتحسين الأوضاع الاقتصادية وتحقيق المساواة والعدالة في العلاقات الإنسانية وقد تعرض ماكس ويبر لبحث هذا في أسلوب منطقي فريد في كتابه عن (التاريخ الاقتصادي العام).

وتاريخ الإنسانية سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً ملئ بالحوادث التي لعب الدين فيها دوراً إيجابياً في صميم المصلح المادية للكثرة من الناس وكم من عالم ديني حمل لواء الإصلاح السياسي والاقتصادي!

وفوق ذلك فإن للدين مزية تتعطش المجتمعات (والغربية منها على وجه الخصوص) لتحقيقها في هذا العصر القلق المتفكك وأعنا بها التكافل الاجتماعي. وتاريخ الإسلام الاجتماعي في هذا المضمار فريد؛ فقد صهر الشعوب المجتمعات التي اعتنقت في وحدة عاطفية واجتماعية وسياسية (ومن ثم اقتصادية) على نحو فشل الفكر السياسي المعاصر في تحقيقه في عصبة الأمم المنحلة سابقاً وفي هيئة الأمم المتحدة في الآونة الحاضرة.

وهنا يجدر بنا أن نتريث قليلاً لنتساءل عما إذا كان الدين أمراً يختص بالفرد دون المجتمع وعما إذا كان السلوك الإنساني هو سلوك سلبي أم إيجابي، بمعنى أنه مقصور على علاقة المرء بربه دون علاقة المرء بمجتمعه.

والجواب عن هذا التساؤل كان ولا يزال مثار نزاع. فالصوفية من المسلمين مثلاً اتجهوا في أقوالهم وسلوكهم الديني إلى أن وظيفة الدين هي وظيفة سلبية. ولعل هذا ما استدعى نقمة بعض أئمة المسلمين قديماً وحديثاً على الصوفية.

ففي القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية وتراث السلف الصالح أجوبة عديدة على أن وظيفة الدين لا تقتصر على علاقة المرء بربه. والواقع أن طبيعة التعاليم الإسلامية نثبت وظيفة الدين الاجتماعية بجانب وظيفته الروحية؛ فهناك فقه إلى جانب التشريع. لقد أكتشف المسلمون ذلك وعملوا به. وكان الرسول عليه السلام أول من جاهر به. والقصة التي تروى عن عمر بن الخطاب وكيف أنتهر رجلاً كان يلازم المسجد ليل نهار مثل آخر على انتباه الإسلام إلى هذه الوظيفة المزدوجة للدين ويخيل إلى أن الاتجاه الجديد في الفكر الغربي حول وظيفة الدين يحذو حذو الإسلام.

وقد أخذ بذلك (فردريك هيجل) أحد جهابذة الفكر الغربي ودعائمه الذي قال (إن ممارسة طقوس العبادة والصلوات أقوى من الناحية الإيجابية في توجيه السلوك الإنساني من الشرائع والقوانين المدنية.

والواقع أن (هيجل) كان من أوائل من لفت النظر إلى وجود (المنطق اللولبي) في علاقة النظريات والحقائق الواقعة في موضوع الدين، فقال إن هناك تواكلاً مشتركاً بين النظم التي لها كيان إيجابي في المجتمع كالعائلة والقبيلة والدولة والشعب، وكلها حقائق ملموسة، وبين النظم الفكرية كالقانون والعلوم والدين. فالكيان الإيجابي المحسوس هو كالنظم الفكرية - وفي طليعتها الدين وكلاهما جزء من شجرة الحياة.

فالإنسان في المجتمعات البدائية لا يكتفي بأن يرث النظم الفكرية الدينية عن أسلافه، وإنما يسعى ما استطاع لأن يتخذ منها أسلحة يواجه بها مشاكله الدنيوية، هذه المشاكل التي تختلف طبيعتها باختلاف التطور الحضري. ومن هذا نتبين أمرين:

أولهما: أن السلوك الديني غريزة طبيعية يمتثل إلى ندائها الفرد لأنها خلقت فيه.

ثانيهما: أن هذه الغريزة تتخذ في بعض الأطوار شكلاً يجعل منها ذخيرة ثقافية تتحكم في الأوضاع الاجتماعية بالإضافة إلى كونها ذخيرة روحية تتحكم في علاقة المرء بربه سواء أكان هذا الرب صنما أم عجلاً كما هو الحال في المجتمعات البدائية، أم إلهاً فرداً صمداً كما هو في الأديان التوحيدية.

وإلى الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي (أميل دير كهايم) يعود فضل كبير في دراسة هذه الوظيفة المشتركة (الروحية والدنيوية) للدين دراسة علمية على ضوء ما ألم به من معرفة بالمجتمعات البدائية وتحليله للمجتمعات الحضرية.

فقد ثار دير كهاين ومعه (باريتو) على الفلسفة الواقعية التي سادة أوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي كانت ميالة إلى الحط من قيمة الدين إثر انتشار الفلسفة الدارونية (نسبة إلى داروين) وماركسية في أوربا، وفلسفة الذرائع (البرجماتز) في أمريكا.

قام دركهايم - وإلى حد ماربيتو - بدراسة وظيفة الدين المزدوجة على نهج جديد، فلم يعتمد دير كهايم على المتفلسف في دراسة الدين ولا على استنساخ الشواهد العلمية من التاريخ الديني، وإنما لجأ إلى دراسة الموضوع دراسة مفصلة في مجموعة إنسانية معينة من سكان استراليا الأصليين.

وأن يعنينا في هذا البحث أن نستعرض تفاصيله ودراسته، وإنما يهمنا أن نتعرف استنتاجاته الرئيسية.

واستنتاجات دير كهايم على نوعين: واحدة تعالج فلسفة المعرفة والأخرى تعالج علم الدين الاجتماعي. وكلاهما عند دير كهايم متواكل متشابك.

ويرسم دير كهايم خطين في مستهل دراسته فيطلق على الأول ما سماه (قدسي) ويطلق على الثاني (دنس) ويضيف دير كهايم تحت هذين الخطين أشياء ملموسة ومحسوسة. وهذا التصنيف لا يحدد الصفات الجسمانية بطبيعة تلك الأشياء وإنما يحصر ذلك لتحديد في مفهوم الناس لها ومبلغ تأثرهم بها وسلوكهم إزاءها.

فالأشياء القدسية في تعريف دير كهايم هي تلك التي ينطوي مفهوم الناس لها على فضائل فريدة تجلب السعادة والمنفعة. وسلوك الناس تجاه هذه الأشياء المقدسة لا يمكن أن يحسب في عداد السلوك الأعتيادي، إذ أن له مزايا خاصة وفيه الكثير من الاحترام الخالص الأصيل.

والناس لا تستخدم لأشياء المقدسة في الشؤون الاعتيادية وإنما تلجأ إليها في الأزمات التي لا تمت إلى المادة إلى بصلة بعيدة.

والشؤون الدنسة عند دير كهايم هي تلك التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنشاط الاقتصادي المادي في السلوك الإنساني.

فإذا قتل الهندي الأحمر من سكان أستراليا لحيوان المقدس ليأكله فأنه يفعل ذلك أثناء الطقوس الدينية. والناحية المادية في هذا العمل مرتبطة بالناحية المقدسة ولا دخل للمنفعة الاقتصادية المادية (أكل اللحم) في هذا العمل إذ أنها لا تتوفر إلا عن طريق القداسة. وأكل لحم الحيوان المقدسلا يتم إلا في ظروف من القداسة التي لها مواعيد ومواسمها الزمنية الخاصة. وحول هذه القداسة حالات من الطوطمية تحددها وتتحكم في سلوك الفرد إزاءها.

والدين في مفهوم الأقوام البدائية محصور العلاقة في الأشياء المقدسة.

ويصنف دير كهايم الظواهر الدينية في نوعين هما (العقائد) و (الطقوس)؛ فالعقيدة لون من التفكير، والطقوس نشاط عملي وكلاهما متشابك، فلا تتم معرفة الطقوس الدينية إلا بمعرفة العقيدة التي استدعت ممارستها واستوجبت القيام بها.

والدين عند دير كهايم نظام مستقر من العقائد، والطقوس تعيش عليها جماعة من الناس محورها بيت العبادة ومن يكون به من كهنة ورعية.

ويستنتج ديركهام من ذلك أن الدين الذي يتمكن تمكنناً قوياً متيناً في أتباعه لا يمكن أن تكون تعاليمه مجرد خيالات ورؤى لا تسندها الحقائق الواقعية.

وكما زاد تعلق الناس بتعاليم دينهم وطقوسه كانت تلك التعاليم أكثر صلة ووثوقاً بالحقائق المادية في العالم الذي تحيط به.

ولعل هذا الرأي يلقي ضوءاً على سر تعلق المسلمين بالتعاليم الجوهرية في دينهم الحنيف طوال هذه الأجيال والقرون.

وينتقد ديركهايم بناء على هذه النظرية ما قال به بعض مفكري عصره من أن وظيفة الدين هي الحياة الروحية التي لا تربطها بالواقع روابط وثيقة، وأن تعاليم الدين ما هي إلا أنطباعات الإنسان عن طبيعة الأشياء المادية التي تحيط به.

وركز ديركهايم انتقاده لهذه النظرية في أسلوب النفي المنطقي فقال: لو أننا افترضنا أن تعاليم الدين ليست إلا انطباعات الإنسان عن طبيعة الأشياء المادية التي تحيط به كالعواصف والبراكين والخوارق الطبيعية، فكيف تفسر تعلق الكثرة من العلماء الذين حافظوا على سلوكهم الديني مع أنهم استطاعوا تفسير طبائع لأشياء تفسيراً علمياً مستنداً إلى الاختبار والبحث والاستقراء؟ وعلوم النفس لم تفسر بعد تفسيراً عمياً مرضياً هذه الظاهرة التي تزداد رسوخاً بتعمق العالم في دراسة الكون ومعالمه.

واستنتج دير كهايم من ذلك أن في الدين عنصراً ثالثاً بالإضافة إلى عنصري الروح والمادة. وأطلق ديركهايم على هذا العنصر الجديد أسم (الحقيقة الاجتماعية).

ومن ثم أندفع ديركهايم في دراسة الصلة بين الدين والكيان الاجتماعي فرأى أن الأشياء المقدسة (ومن ثم المثل الأخلاقية التي تبعث منها) لا تربطها بالمرء إلى روابط القداسة. فليست العبرة (في رأي ديركهايم) في أن يعبد أمرؤ شجرة أو عجلاً أو شمساً أو قمراً أو إلهاً فرداً صمداً إنما العبرة في إزاء هذه المؤلهات، وامتثاله للقيم الروحية والأخلاقية التي تحيطها بهالة من القداسة، ورأى ديركهايم في نظرية الطبيعيين إلى الدين عجزاً دعيا في تفسير الحقائق التي تتصل بالقداسة اتصالاً أصيلاً غريزياً. وكل ما فعله الطبيعيين أنهم وجه اهتمامهم إلى تفسير القداسة في الشؤون الطبيعية كالعواصف والبراكين والزلازل وتأثر العاطفة الإنسانية بها إحاطتها بهالة من (القداسة والألوهية) والشذوذ ندرة، والنادر لا حكم له.

ووجه الضلالة في تفسير الطبيعيين للسلوك الديني أنهم أخطئوا إدراك الحقيقة في مصدر القداسة والألوهية.

فخواص العنف في العواصف والزلازل والبراكين ليست الدافع الرئيسي لتقديسها في المجتمعات البدائية. فالأشياء المقدسة ليست إلا رموزاً. وخواص الرموز أنها تعبير للأهمية والقيم والمعاني التي يواجهها الفرد في نشاطه اليومي روحياً كان هذا النشاط أم مادياً.

والصلة بين الفرد والرمز الذي يقدسه هي صلة اجتماعية بالإضافة إلى كونها صلة روحية. والفرد لا يتلمس معنا لهذه الرموز بقدر ما يطلب فيها ملاذاً مما استعصى عليه من الأزمات الروحية والاجتماعية.

فليست العبر إذن في طبيعة الرمز المقدس؛ إنما العبرة في المثل والقيم والمعاني التي اصطلح الناس على إلحاقها به.

وبمثل هذا المنطق يشرح ديركهايم علاقة طقوس الدينية بالحقائق الاجتماعية، فلا يهمه أن يتعرف على طبيعة هذه الطقوس وإنما يتشوق إلى أدراك القيم والمثل والمعاني العميقة التي تمثلها وترمز لها.

وإصرار الطبيعيين على نعت السلوك الديني بأنه خال من المنطق السديد يعود إلى التباس الأمر عليهم وخلطهم بين طبيعة الرمز وبين ما يرمز إليه من قيم ومثل ومعاني روحية واجتماعية.

ويستخلص ديركهايم من ذلك أن العلوم الطبيعية لا تستطيع أن تدرك كنه الدين في مجالاته الروحية والاجتماعية؛ لأن العلوم الطبيعية مادية لا تقنع إلا بالملموس والمحسوس. وفي نظام الكون وفي طبيعة النفس البشرية احساسات ومشاعر لا تلمس لمساً.

وهذا يفسر اتجاه الجهابذة من علماء الطبيعة والرياضيات نحو التفاسير الدينية في أرقى مراحل البحث في طبيعة الأشياء عندما يستعصي عليهم التفسير الشامل الإيجابي المقنع.

نيويورك

(للبحث صلة)

عمر حليق