مجلة الرسالة/العدد 919/رأي في تحديد العصر الجاهلي

مجلة الرسالة/العدد 919/رأي في تحديد العصر الجاهلي

مجلة الرسالة - العدد 919
رأي في تحديد العصر الجاهلي
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 02 - 1951



بحث قدمه إلى مؤتمر المجمع اللغوي

صاحب العزة للأستاذ إبراهيم مصطفى بك

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

يرجع أدبنا في أصوله إلى العصر الجاهلي - ألفاظ لغتنا، وطرق اشتقاقها، وبناء الجملة ونظم تأليفها، وأوزان الشعر وقوافيه وهيكل القصيدة.

ومثل البادية في العصر الجاهلي وصور الحياة فيها لم تزل منبثة في تفكيرنا وأيماننا ونظم حياتنا، وكل تنويه لهذه الحقبة من التاريخ يرجع بالإضاءة والكشف عن أصول أدبنا وتكوين حياتنا.

وهو عصر غامض حتى لا نعرف مداه ولا نقف على تحديده، ولهذا ترسل الحوادث فيه مبعثرة مضطربة غير مرتبطة بأوقاتها ويغشيها ستار من الخيال ومن المبالغة تتيه فيه الحوادث ويضل المؤرخون.

فحرب (داحس والغبراء) مثلاً وهي من أشهر حوادث هذا العصر يعدها بعض المؤرخون في أوائل القرن الخامس، ويراها آخرون من حوادث القرن السادس، ومنهم من يقول إنها امتدت أربعين سنة، ومنهم من يرى حصرها في عشر هذا الزمن أي نحو أربع سنوات.

وزهير بن جناب الكلبي عاش 300 سنة أو 400 سنة أو 450 سنة، وطي بن أد عاش 500 سنة.

وتحديد هذا العصر بمعالم من التاريخ أول واجب لتصوره والفهم مجرى حوادثه.

وآخر هذا العصر معروف محدد هو سنة 622 وهو بدء التاريخ الهجري.

وإذا نظرنا وجدناه لا يؤرخ بزوغ الدعوة الإسلامية وبدء ظهورها، فقد دعى الرسول إلى دينه سراً وجهراً وأعلن رسالته في الأسواق وهي مجامع العرب وعرض نفسه على القبائل، وتم ذلك كله قبل الهجرة ولم يعد شيء منه نهاية العصر الجاهلي.

وكذلك لا يؤرخ انتشار الإسلام وغلبته على الجزيرة العربية فقد كان الإسلام في المدينة وحدها بل في جزء منها، وسلطان الحياة الجاهلية لم يزل مبسوطاً في الجزيرة وأرجائ الواسعة. والمسلمون أقلية صغيرة ضئيلة كما كانوا أقلية بمكة.

ولكن أمير المؤمنين عمر والعرب معه لم يتخذوا هذا التاريخ اعتباطاً ولا حدوده تحكماً؛ بل رأوه تاريخ تكوين حكومة خضعت لها البلاد العربية وشملها سلطانها ونظامها، وقضت على حالة من الفوضى تنتهب فيها الأموال والأنفس. والضعيف نهب القوي.

ولم يتخذ تاريخاً حتى كان سلطان تلك الحكومة وطيداً شاملاً وأمنها مظلاً ورافاً.

وكان تكوين الحكومة عقب تلك الرحلة القاسية السعيدة الفاصلة وهي الهجرة فسمى التاريخ بالهجرة.

فهذه نهاية العصر الجاهلي قرنت بالهجرة وبتكوين الحكومة الإسلامية.

فما مبدأ هذا العصر؟ يحضر المؤرخون به إلى أول الخليقة ويجعلونه شاملاً لكل ما كان قبل الإسلام وهم بهذا يقررون أن العرب أو عرب الشمال على الأخص قد جاءهم الإسلام وهم على الفطرة وفي حالة بداءة لم يتصلوا قبلها بحضارة.

ونحن مضطرون هنا أن نشير إلى نوعين من الجاهلية: جاهلية الفطرة وتكون الأمة فيها بدائية متبربرة خشنة العيش لم ترث آثار مدينة سابقة. وجاهلية فترة وهي حال أمة كانت لها حضارة فقدتها بسلطان من طبيعة أو أحداث السياسة وتدهورت في حياتها درجات وبقى مستكناً فيها آثار ما تمتعت به من حضارة.

وإذا كان مسلك المؤرخين يفيد أن جاهلية العرب هذه كانت جاهلية فطرية فإن كل شيء في التاريخ وفي حيات العرب يشهد أنها كانت جاهلية فترة، جاهلية موقوتة تحمل آثاراً قوية من حضارة أو حضارات سابقة.

لغتهم وبيانهم لم تكن لغة أمة بدائية ولا قريبة من البدائية، وعملهم هو التجارة - والتجارة الخارجية خاصة - بعيد اشد البعد من أن يكون عمل أمة بدائية؛ وحكمهم للبلاد يوم فتحوها وسياستهم أهلها لا يمكن أن يتهيأ لمة فطرية.

حتى رذائل الجاهلية فيها ما يشهد ببعدها عن الحيات البدائية - هذا الربى الذي شدد الإسلام في النهي عنه والذي عني به الرسول في خطبة الوداع ووضعه عن الناس يشهد تعدد أنواعه والتشدد في تحريمه بتغلغله في الحيات الجاهلية - وما كان تقويم المال وتقديره وأرباحه عملاً من أعمال الأمم الفطرية.

وربا الفضل نوع من الاتجار في الأثمان وفي النقد وعمل من أعمال البرصة ومضاربتها وهو من علل حضارة غنية مرفهة؛ فقد كان نقد الفرس بأيد العرب يعلو ويهبط تبعاً لانتصارهم أو هزيمتهم، وكذلك نقد الروم، فتضطرب الثروة في أيدي الناس وينتهز الفرصة البصيرون النهازون كما يفعل اليوم تجار النقد. وقد عالج الإسلام أصلح علاج - الذهب بالذهب والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، يداً بيد.

والقرآن يشهد للعرب بحضارات سالفة بائدة - فهم على دين أبيهم إبراهيم، وأرسل إلى العرب من العرب رسل منهم هود وصالح وشعيب ولكل رسالة دين وفي كل دين حضارة.

وطبيعة البلاد العربية وموقعها في وسط الدنيا تأبى أن تكون بمنأى عن الحضارات وأن يعمرها قوم منعزلون متأبدون فطريون. فمنذ أقدم عصور التاريخ كانت الجزيرة العربية وبواديها قناة التجارة بين الشرق والغرب من قبل تقد قناة السويس؛ بل أن طبيعة الجزيرة اليوم تعمل في قوة وسرعة لتسترد قناة التجارة إلى مسالك بواديها. ولا يغفل عن ذلك إلا من سد أذنه وأغمض عينه. فالسيارات القوية العاتية والوثيرة المريحة ما بين البصرة وبيروت في يومين، وللسرعة حسابها في التجارات وفي هذه الأيام خاصة. وقناة السويس تنظر بخضوع وحسرة - أن لم تكن غافلة - إلى هذا المنافس الذي يحاول أن يسترد من بين يديها الثروة والغنى والمجد - والصحاري كالبحار تكون عازلة حتى إذا مهدت وذلك كانت سبيل القرب وهمزة الوصل والذين اجتازوا البوادي العربية ورأوا طبيعتها الحجرية لا الرملية دهشوا لهذا الفجاج التي مهدتها الطبيعة وسوتها يد الله. وقد شهدت عشرات من الرجال مهدوا بأيديهم أميالاً من الطرق لتمر بها سيارات الملك أبن السعود وسيارات جنده، كل ما عملوا أنهم كنسوها من صغار الحجارة التي تسمى عندهم (بالحراجل).

والمنقبون لا يزالون يكشفون عن آثار حضارات عظيمة في اليمن وشمال الحجاز وبطرة وتدمر والحيرة فهل يقبل أن تقوم هذه الحضارات في نواحي الجزيرة وإخوانهم في جوفها بدائيون غير متحضرين؟

والآثار تشهد أن تلك الحضارات كانت تجارية، من التجارة ثروتها وربحها، وعليها قيامها وبقاؤها. والتجارات تأتي من طرف الجزيرة إلى طرف وتمر في مسالكها، ولا بد لهذه المسالك من الاطمئنان والأمن، ولا يكون ذلك إلا في ظل حضارات وسلطان قوي.

هذه حقائق تمليها الطبيعة وتنطق بها الآثار ولكن روايات الأخبار التي بأيدينا تغطي هذا أو تطمسه لأن روايتها دونت بعد صدر من الإسلام وعمل في تدوينها العرب وغير العرب.

أما العرب فقد كان لدى أغلبهم أن الإسلام لا يظهر فضله حتى تكبر سيئات الجاهلية وحتى لا يكون في الجاهلية إلا شر قلبه الإسلام خيراً.

والإسلام رسالة ووحي ولكن الذين استجابوا له وقاموا به رجال ربتهم الجاهلية. لا بد أن تكون مواهبهم وتجاربهم قد أعدتهم لقبوله أو النهوض به والله أعلم حيث يجعل رسالته.

وأما غير العرب فقد حز في قلوبهم ضياع أممهم ودينهم ودولهم ولم يستطيعوا عيب العرب إلا أن ينالوا من جاهليتهم. وجهاد الشعوبية في هذا كبير ووسائله شتى ظاهرة وما كرة.

فلا ينكر متبصر أن الجزيرة العربية شهدت قبل الإسلام حضارات ذات شأن. وعلى هذا الأصل نحاول أن نحدد أول الجاهلية العربية قبل الإسلام وسبيل ذلك أن نعرف آخر حضارات قامت بالجزيرة ونحدد نهايتها فتكون بدء هذا العصر الجاهلي.

فإذا اقتصرنا على العصر التاريخي وعلى ما كشف من آثار حضارته ذكرنا حضارة الأنباط وقد كانت في شمال الجزيرة وامتدت من العراق إلى مصر ووصلنا في الجنوب إلى وادي القرى وورثت حضارة ثمود وأبقت آثاراً خالدة وصمدت للروم في حروب شديدة مريرة - ثم حان حينها فانقضى أمرها على يد (تراجان) سنة 106 من الميلاد وورثت مكانتها تدمر ووسع سلطنها الشام ومصر وما بين النهرين والأناضول إلى أنقرة، وجاء يومها؛ فانقضى ملكها سنة 271 على يد أرليان الروماني أيضاً.

وكانت الحروب الطويلة القاسية بين الروم والفرس سبب انقطاع التجارة بينهما، وكان لا بد للتجارة أن تشق لها مجرى إذا سد مجرى فاتخذت سبيلها في مفاوز البلاد العربية البعيدة عن سلطان الدولتين، وكان الروم اشد حسرة لانصراف التجارة إلى أيدي العرب ولا بد لها من هذه التجارة ولا بد للغرب أن ينال موارده وقوته من هذه البلاد المشمسة الممطرة الغزيرة الإنتاج فكان من عناصر سياسة الرمل وتصميمهم أن يصلوا إلى كنوز الهند وأن تكون تجارتها خالصة لسلطانهم.

ولهذا تجشموا الأهوال في القضاء على بطرة وعلى تدمر وحاولوا القضاء على دولة اليمن أيضاً، وأرسل أغسطس حملته المشهورة بقيادة قائده العظيم الياس جلاس فهلك في الصحراء جيشه وعاد بخيبة سجلها رفيقه وصديقه استرايون وأورثهم بأساً أبدياً من أن ينالوا بلاد اليمن عن طريق شمال الجزيرة.

وفي القرن الرابع كانت المسيحية قد انتشرت وصالحتها الدولة الرومية والبيزنطية واستعانت بها على مد سلطانها - وكان رسل هذه الديانة قد وصلوا إلى الحبشة وشروا فيها بدينهم فقامت بها دولة مسيحية حبشية تقابل في البلاد العربية دولة اليمن اليهودية. وقامت العداوة بين الأختين؛ فأحباش هذه الدولة من أصل عربي يمني ولكن المنافسة في التجارة والعداوة في الدين أججت نار الحرب بينهما. ومن آثار تلك العداوة حديث الأخدود والنار ذات الوقود. وأرسلت بيزنطة رسلها وسفنها إلى الأحباش فمكنتهم من القضاء على دولة الحميرية باليمن بعد حروب سجال وانتهى بذلك عهد آخر دولة مستقلة قامت قبل الإسلام في الجزيرة العربية وكان ذلك سنة 525 ميلادية.

البقية في العدد القادم

إبراهيم مصطفى