مجلة الرسالة/العدد 92/اليمامتان

مجلة الرسالة/العدد 92/اليمامتان

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1935


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

جاء في تاريخ الواقدي (أن (المقوقس) عظيم القبط في مصر زوج ابنته (أرمانوسة) من (قسطنطين بن هرقل) وجهزها بأموالها وحشمها لتسير إليه، حتى يبنى عليها في مدينة قيسارية (سورية) فخرجت إلى بلبيس وأقامت بها. . وجاء عمرو بن العاص إلى بلبيس فحاصرها حصارا شديدا وقاتل من بها، وقتل منهم زهاء ألف فارس، وانهزم من بقى إلى المقوقس، وأخذت أرمانوسة وجميع مالها، وأخذ كل ما كان للقبط في بلبيس. فأجب عمرو ملاطفة المقوقس، فسير إليه ابنته مكرمة في جميع مالها، (مع قيس بن أبي العاص السهمي)؛ فسر بقدومها. . .)

هذا ما أثبته الواقدي في روايته، ولم يكن معنيا إلا بأخبار المغازي والفتوح، فكان يقتصر عليها في الرواية؛ أما ما أغفله فهو ما نقصه نحن:

كانت لأرمانوسة وصيفة مولدة تسمى (مارية)، ذات جمال يوناني أتمته مصر ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصريا، ونقص الجمال اليوناني أن يكونه. ولمصر طبيعة خاصة في الحسن؛ فهي قد تهمل شيئا في جمال نسائها أو تشعث منه، وقد لا توفيه جهد محاسنها الرائعة؛ ولكن متى نشأ فيها جمال ينزع إلى أصل أجنبي، أفرغت فيه سحرها إفراغا، وأبت إلا أن تكون الغالبة عليه، وجعلته آيتها في المقابلة بينه وبين الطابع المصري، وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة ما كانت؛ تغار على سحرها أن يكون إلا الأعلى

وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته، وهو كان واليا وبطريريكا على مصر من قبل هرقل؛ وكان من عجائب صنع الله أن الفتح الإسلامي جاء في عهده، فجعل الله قلب هذا الرجل مفتاح القفل القبطي، فلم تكن أبوابهم تدافع إلا بمقدار ما تدفع، تقاتل شيئا من قتال غير كبير، أما الأبواب الرومية فبقيت مستغلقة حصينة لا تذعن إلا للتحطيم، ووراءها نحو مائة ألف رومي يقاتلون المعجزة الإسلامية التي جاءتهم من بلاد العرب أول ما جاءت في أربعة آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخر ما زادوا على أثنى عشر ألفا. كان الروم مائة ألف مقاتل بأسلحتهم ولم تكن المدافع معروفة، ولك روح الإسلام جعلت الجيش العربي كأنه اثنا عشر ألف مدفع بقنابلها؛ لا يقاتلون بقوة الإنسان، بل بقوة الروح الدينية التي جعلها الإسلام مادة منفجرة تشبه الديناميت قبل أن يعرف الديناميت!

ولما نزل عمرو بجيشه على بلبيس، جزعت مارية جزعا شديدا؛ إذ كان الروم قد أرجفوا أن هؤلاء العرب قوم جياع ينفضهم الجدب على البلاد نفض الرمال على الأعين في الريح العاصف؛ وأنهم جراد إنساني لا يغزو إلا لبطنه؛ وأنهم غلاظ الأكباد كالإبل التي يمتطونها؛ وأن النساء عندهم كالدواب يرتبطن على خسف؛ وأنهم لا عهد لهم ولا وفاء، ثقلت مطامعهم وخفت أمانتهم؛ وأن قائدهم عمرو بن العاص كان جزارا في الجاهلية، فما تدعه روح الجزار وطبيعته؛ وقد جاء بأربعة آلاف سالخ من أخلاط الناس وشذاذهم، لا أربعة آلاف مقاتل من جيش له نظام الجيش!

وتوهمت مارية أوهامها، وكانت شاعرة وقد درست هي وأرمانوسة أدب يونان وفلسفتهم، وكان لها خيال مشبوب متوقد يشعرها كل عاطفة أكبر مما هي، ويضاعف الأشياء في نفسها، وينز إلى طبيعته المؤنثة، فيبالغ في تهويل الحزن خاصة، ويجعل من بعض الألفاظ وقودا على الدم. . .

ومن ذلك استطير قلب مارية وأفزعتها الوسواس، فجعلت تندب نفسها وصنعت في ذلك شعرا هذه ترجمته:

جاءكِ أربعةُ آلافِ جزارٍ أيَّتُها الشاةُ المسكينة!

ستذوق كل شعرةٍ منكِ ألم الذبح قبل أن تُذبحي!

جاءكِ أربعُ آلافٍ خاطفٍ أيتها العذراءُ المسكينة!

ستموتين أربعةَ آلافِ ميتةٍ قبل الموت!

قَوِّني يا إلهي، لأغمد في صدري سكيناً تردُّ عني الجزّارين!

يا إلهي، قوِّ هذه العذراءَ لتتزوجَّ الموتَ قبل أن يتزوجها العربي. .!

وذهبت تتلو شعرها على أرمانوسة في صوت حزين يتوجع؛ فضحكت هذه وقالت: أنت واهمة يا مارية؛ أنسيت أن أبي قد أهدى إلى نبيهم بنت (أنصنا) فكانت عنده في مملكة بعضها السماء وبعضها القلب؟ لقد أخبرني أبي أنه بعث بها لتكشف له عن حقيقة هذا الدين وحقيقة هذا النبي؛ وأنها أنفذت إليه دسيسا يعلمه أن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وإن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وأنهم جميعا ينبعثون من حدود دينهم لا من حدود أنفسهم؛ وإذا سلوا السيف سلوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون. وقالت عن النساء: لأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي؛ فأنهم جميعا في واجبات القلب وواجبات العقل، ويكاد الضمير الإسلامي في الرجل منهم - يكون حاملا سلاحا يضرب به صاحبه إذا هم بمخالفته

وقال أبي: إنهم لا يغيرون على الأمم، ولا يحاربونها حرب الملك؛ وإنما تلك طبيعة الحركة للشريعة الجديدة تتقدم في الدنيا حاملة السلاح والأخلاق، قوية في ظاهرها وباطنها؛ فمن وراء أسلحتهم أخلاقهم؛ وبذلك تكون أسلحتهم نفسها ذات أخلاق!

وقال أبي: إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة الجرداء؛ طبيعة تعمل في طبيعة؛ فليس يمضي غير بعيد حتى تخضر الدنيا وترمي ظلالها؛ وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الميت ما يشبه طلاء الشجرة الجرداء بلون أخضر. . .! شتان بين عمل وعمل، وإن كان لون يشبه لون

فاستروحت مارية واطمأنت باطمئنان أرمانوسة، وقالت: فلا ضير علينا إذا فتحو البلد، ولا يكون ما نستضر به؟

قالت أرمانوسة: لا ضير يا مارية، ولا يكون إلا ما نحب لأنفسنا؛ فالمسلمون ليسوا كهؤلاء العلوج من الروم، يفهمون متاع الدنيا بفكرة الحرص والحاجة إلى حلاله وحرامه، فهم القساة الغلاظ المستكلبون كالبهائم، ولكنهم يفهمون متاع الدنيا بفكرة الاستغناء والتمييز بين حلاله وحرامه، فهم الإنسانيون الرحماء المتعففون

قالت مارية: وأبيك يا أرمانوسة إن هذا لعجيب؛ فقد مات سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة والحكماء، وما استطاعوا أن يؤدبوا بحكمتهم وفلسفتهم إلا الكتب التي كتبوها. . . فلم يخرجوا للدنيا جماعة تامة الإنسانية، فضلا عن أمة كما وصفت أنت من أمر المسلمين؛ فكيف استطاع نبيهم أن يخرج هذه الأمة وهم يقولون إنه كان أميا. أفتسخر الحقيقة من كبار الفلاسفة والحكماء وأهل السياسة والتدبير فتدعهم يعملون عبثا أو كالعبث، ثم تستسلم للرجل الأمي الذي لم يكتب ولم يقرأ ولم يدرس ولم يتعلم؟

قالت أرمانوسة: إن العلماء بهيئة السماء وأجرامها وحساب أفلاكها، ليسوا هم الذين يشقون الفجر ويطلعون الشمس؛ وأنا أرى أنه لا بد من أمة طبيعية بفطرتها يكون عملها في الحياة إيجاد الأفكار العملية الصحيحة التي يسير بها العالم، وقد درست المسيح وعمله وزمنه، فكان طيلة عمره يحاول أن يوجد هذه الأمة، غير أنه أوجدها مصغرة في نفسه وحوارييه، وكان عمله كالبدء في تحقيق الشيء العسير؛ حسبه أن يثبت معنى الإمكان فيه

وظهور الحقيقة من هذا الرجل الأمي هو تنبيه الحقيقة إلى نفسها، وبرهانها القاطع أنها بذلك في مظهرها الإلهي. والعجيب يا مارية، أن هذا النبي قد خذله قومه وناكروه وأجمعوا على خلافه، فكان في ذلك كالمسيح، غير أن المسيح انتهى عند ذلك؛ أما هذا فقد ثبت ثبات الواقع حين يقع؛ لا يرتد ولا يتغير؛ وهاجر من بلده فكان ذلك أول خطا الحقيقة التي أعلنت أنها ستمشي في الدنيا، وقد أخذت من يومئذ تمشي. ولو كانت حقيقة المسيح قد جاءت للدنيا كلها لهاجرت به، فهذا فرق آخر بينهما. والفرق الثالث أن المسيح لم يأت إلا بعبادة واحدة هي عبادة القلب، أما هذا الدين فعلمت من أبي أنه ثلاث عبادات يشد بعضها بعضا: إحداها للأعضاء، والثانية للقلب، والثالثة للنفس؛ فعبادة الأعضاء طهارتها واعتيادها الضبط؛ وعبادة القلب طهارته وحبه الخير؛ وعبادة النفس طهارتها وبذله في سبيل الإنسانية. وعند أبي أنهم بهذه الأخيرة سيملكون الدنيا؛ فلن تقهر أمة عقيدتها أن الموت أوسع الجانبين وأسعدهما

قالت مارية: إن هذا والله لسر إلهي يدل على نفسه؛ فمن طبيعة الإنسان ألا تنبعث نفسه غير مبالية الحياة والموت إلا في أحوال قليلة تكون طبيعة الإنسان فيها عمياء: كالغضب الأعمى، والحب الأعمى، والتكبر الأعمى. فإذا كانت هذه الأمة الإسلامية كما قلت، منبعثة هذا الانبعاث، ليس فيها إلا الشعور بذاتيتها العالية - فما بعد ذلك دليل على أن هذا الدين هو شعور الإنسان بسمو ذاتيته، وهذه هي نهاية النهايات في الفلسفة والحكمة

قالت أرمانوسة: وما بعد ذلك دليل على أنك تتهيئين أن تكوني مسلمة يا مارية!

فاستضحكتا معا وقالت مارية: إنما ألقيت كلاما جاريتك فيه بحسبه، فأنا وأنت فكرتان لا مسلمتان قال الراوي: وانهزم الروم عن بلبيس، وارتدوا إلى المقوقس في (منف)، وكان وحي أرمانوسة في مارية مدة الحصار - وهي نحو الشهر - كأنه فكر سكن فكرا وتمدد فيه؛ فقد مر ذلك الكلام بما في عقلها من حقائق النظر في الأدب والفلسفة، فصنع ما يصنع المؤلف بكتاب ينقحه، وأنشأ لها أخيلة تجادلها وتدفعها إلى التسليم بالصحيح لأنه صحيح، والمؤكد لأنه مؤكد

ومن طبيعة الكلام إذا أثر في النفس - أن ينتظم في مثل الحقائق الصغيرة التي تلقى للحفظ؛ فكان كلام أرمانوسة في عقل مارية هكذا: (المسيح بدء وللبدء تكملة، ما من ذلك بد. لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة لا تأخذ شيئا، والتي تبذل أرواحها فقط تأخذ كل شيء.)

وجعلت هذه الحقائق الإسلامية وأمثالها تعرب هذا العقل اليوناني؛ فلما أراد عمرو بن العاص توجيه أرمانوسة إلى أبيها، وانتهى ذلك إلى مارية قالت لها: لا يجمل بمن كانت مثلك في شرفها وعقلها أن تكون كالأخيذة تتوجه حيث يسار بها؛ والرأي أن تبدئي هذا القائد قبل أن يبدأك؛ فأرسلي إليه فأعلميه أنك راجعة إلى أبيك، واسأليه أن يصحبك بعض رجاله؛ فتكوني الآمرة حتى في الأسر، وتصنعي صنع بنات الملوك!

قالت أرمانوسة: فلا أجد لذلك خيرا منك في لسانك ودهائك؛ فاذهبي إليه من قبلي، وسيصحبك الراهب (شطا)، وخذي معك كوكبة من فرساننا

قالت مارية وهي تقص على سيدتها: لقد أديت إليه رسالتك فقال: كيف ظنها بنا؟ قلت: ظنها بفعل رجل كريم يأمره اثنان: كرمه، ودينه. . فقال أبلغيها أن نبينا () قال: (استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم فيكم صهرا وذمة.) وأعلميها أننا لسنا على غارة نغيرها، بل على نفوس نغيرها

قالت: فصفيه لي يا مارية

قالت: كان آتيا في جماعة من فرسانه على خيولهم العراب، كأنها شياطين تحمل شياطين من جنس آخر، فلما صار بحيث أتبينه أومأ إليه الترجمان - وهو (وردان) مولاه - فنظرت، فإذا هو على فرس كميت أحم لم يخلص للأسود ولا للأحمر، طويل العنق مشرف له ذؤابة أعلى ناصيته كطرة المرأة، ذيال يتبختر بفارسه ويحمحم كأنه يريد أن يتكلم، مطهم. . .

فقطعت أرمانوسة عليها وقالت: ما سألتك صفة جواده

قالت مارية: أما سلاحه. . .

قالت: ولا سلاحه، صفيه كيف رأيته (هو)

قالت: رأيته قصير القامة علامة قوة، وافر الهامة علامة عقل، أدعج العينين. . .

فضحكت أرمانوسة وقالت: علامة ماذا. . .؟

. . . أبلج يشرق وجهه فيه كأن فيه لآلاء الذهب على الضوء، أيدا اجتمعت فيه القوة حتى لتكاد عيناه تأمران بنظرهما أمرا. . . داهية كتب دهاؤه على جبهته العريضة يجعل فيها معنى يأخذ من يراه؛ وكلما حاولت أن أتفرس في وجهه رأيت وجهه لا يفسره إلا تكرار النظر إليه. . .

وتضرجت وجنتاها، فكان ذلك حديثا بينها وبين عيني أرمانوسة. . . وقالت هذه: كذلك كل لذة لا يفسرها للنفس إلا تكرارها. . .

فغضت مارية من طرفها وقالت: هو والله ما وصفت، وإني ما ملأت عيني منه، وقد كدت أنكر أنه إنسان لما اعتراني من هيبته. . . . .

قالت أرمانوسة: من هيبته أم من عينيه الدعجاوين. . .؟

ورجعت بنت المقوقس إلى أبيها في صحبة (قيس)، فلما كانوا في الطريق وجبت الظهر، فنزل قيس يصلي بمن معه والفتاتان تنظران؛ فلما صاحوا: (الله أكبر. . .!) ارتعش قلب مارية، وسألت الراهب (شطا): ماذا يقولون؟ قال: إن هذه كلمة يدخلون بها صلاتهم، كأنما يخاطبون بها الزمن أنهم الساعة في وقت ليس منه ولا من دنياهم، وكأنهم يعلنون أنهم بين يدي من هو أكبر من الوجود؛ فإذا أعلنوا انصرافهم عن الوقت ونزاع الوقت وشهوات الوقت، فذلك هو دخولهم في الصلاة؛ كأنهم يمحون الدنيا من النفس ساعة أو بعض ساعة؛ ومحوها من أنفسهم هو ارتفاعهم بأنفسهم عليها؛ أنظري، ألا ترين هذه الكلمة قد سحرتهم سحرا فهم لا يلتفتون في صلاتهم إلى شيء؛ وقد شملتهم السكينة، ورجعوا غير من كانوا، وخشعوا خشوع أعظم الفلاسفة في تأملهم

قالت مارية: ما أجمل هذه الفطرة الفلسفية! لقد تعبت الكتب لتجعل أهل الدنيا يستقرون ساعة في سكينة الله عليهم فما أفلحت، وجاءت الكنيسة فهولت على المصلين بالزخارف والصور والتماثيل والألوان لتوحي إلى نفوسهم ضربا من الشعور بسكينة الجمال وتقديس المعنى الديني، وهي بذلك تحتال في نقلهم من جوهم إلى جوها؛ فكانت كساقي الخمر؛ إن لم يعطك الخمر عجز عن إعطائك النشوة. ومن ذا الذي يستطيع أن يحمل معه كنيسة على جواد أو حمار؟

قالت أرمانوسة: نعم أن الكنيسة كالحديقة؛ هي حديقة في مكانها، وقلما توحي شيئا إلا في موضعها؛ فالكنيسة هي الجدران الأربعة، أما هؤلاء فمعبدهم بين جهات الأرض الأربع

قال الراهب شطا: ولكن هؤلاء المسلمين متى فتحت عليهم الدنيا وافتتنوا بها وانغمسوا فيها - فستكون هذه الصلاة بعينها ليس فيها صلاة يومئذ

قالت مارية: وهل تفتح عليهم الدنيا، وهل لهم قواد كثيرون كعمروا؟

قال: كيف لا تفتح الدنيا على قوم لا يحاربون الأمم بل يحاربون ما فيها من الظلم والكفر والرذيلة، وهم خارجون من الصحراء بطبيعة قوية كطبيعة الموج في المد المرتفع؛ ليس في داخلها إلا أنفس مندفعة إلى الخارج عنها؛ ثم يقاتلون بهذه الطبيعة أمما ليس في الداخل منها إلا النفوس المستعدة أن تهرب إلى الداخل. . .!

قالت مارية: والله لكأننا ثلاثتنا على دين عمروا. . .

وانفتل قيس من الصلاة، وأقبل يترحل، فلما حاذى مارية كان عندها كأنما سافر ورجع؛ وكانت ما تزال في أحلام قلبها؛ وكانت من الحلم في عالم أخذ يتلاشى إلا من عمروا وما يتصل بعمروا. وفي هذه الحياة أحوال (ثلاثة) يغيب فيها الكون بحقائقه؛ فيغيب عن السكران، والمخبول، والنائم؛ وفيها حالة رابعة يتلاشى فيها الكون إلا من حقيقة واحدة تتمثل في الإنسان

وقالت مارية للراهب شطا: سله: ما أربهم من هذه الحرب، وهل في سياستهم أن يكون القائد الذي يفتح بلدا حاكما على هذا البلد؟

قال قيس: حسبك أن تعلمي أن الرجل المسلم ليس إلا رجلا عاملا في تحقيق كلمة الله، أما حظ نفسه فهو في غير هذه الدنيا

وترجم الراهب كلامه هكذا: أما الفاتح فهو في الأكثر الحاكم المقيم، وأما الحرب فهي عندنا الفكرة المصلحة تريد أن تضرب في الأرض وتعمل، وليس حظ النفس شيئا يكون من الدنيا؛ وبهذا تكون النفس أكبر من غرائزها، وتنقلب معها الدنيا برعونتها وحماقاتها وشهواتها كالطفل بين يدي الرجل، فيهما قوة ضبطه وتصريفه. ولو كان في عقيدتنا أن ثواب أعمالنا في الدنيا، لا نعكس الأمر

قالت مارية: فسله: كيف يصنع عمروا بهذه القلة التي معه والروم لا يحصى عددهم؛ فإذا أخفق عمروا فمن عسى أن يستبدلوه منه؟ وهل هو أكبر قوادهم، أو فيهم أكبر منه؟

قال الرواي: ولكن فرس قيس تمطر وأسرع في لحاق الخيل على المقدمة كأنه يقول: لسنا في هذا. . .

وفتحت مصر صلحا بين عمروا والقبط، وولى الروم مصعدين إلى الإسكندرية، وكانت مارية في ذلك تستقرئ أخبار الفاتح تطوف منها على أطلال من شخص بعيد؛ وكان عمروا من نفسها كالمملكة الحصينة من فاتح لا يملك إلا حبه أن يأخذها؛ وجعلت تذوي وشحب لونها، وبدأت تنظر النظرة التائهة، وبان عليها أثر الروح الظمأى، وحاطها اليأس بجوه الذي يحرق الدم، وبدت مجروحة المعاني؛ إذ كان يقاتل في نفسها الشعوران العدوان: شعور أنها عاشقة، أنها يائسة!

ورقت لها أرمانوسة، وكانت هي أيضا تتعلق فتى رومانيا، فسهرتا ليلة تديران الرأي في رسالة تحملها مارية من قبلها إلى عمروا كي تصل إليه، فإذا وصلت بلغت بعينيها رسالة نفسها. . .

واستقر الأمر أن تكون المسألة عن مارية القبطية وخبرها ونسلها وما يتعلق بها مما يطول الإخبار به إذا كان السؤال من امرأة عن امرأة. فلما أصبحتا وقع إليها أن عمرا قد سار إلى الإسكندرية لقتال الروم، وشاع الخبر أنه لما أمر بفسطاطه أن يقوض أصابوا يمامة قد باضت في أعلاه، فأخبروه فقال: (قد تحرمت في جوارنا، أقروا الفسطاط حتى تطير فراخها) فأقروه!

ولم يمض غير طويل حتى قضت مارية نحبها، وحفظت عنها أرمانوسة الشعر الذي أسمته: نشيد اليمامة:

على فسطاط الأمير يمامة حائمة تحضن بيضها.

تركها الأمير تصنع الحياة، وذهب هو يصنع الموت!

هي كأسعد امرأة؛ ترى وتلمس أحلامها.

إن سعادة المرأة أولها وآخرها بعض حقائق صغيرة كهذا البيض

على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.

لو سئلت عن هذا البيض لقالت: هذا كنزي.

هي كأهنأ امرأة، ملكت ملكها من الحياة ولم تفتقر.

هل أكلف الوجود شيئا كثيرا إذا كلفته رجلا واحدا أحبه!

على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحتضن بيضها

الشمس والقمر والنجوم، كلها أصغر في عينها من هذا البيض.

هي كأرق امرأة؛ عرفت الرقة مرتين: في الحب، والولادة

هل أكلف الوجود شيئا كثيرا إذا أردت أن أكون كهذه اليمامة!

على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها

تقول اليمامة: إن الوجود يحب أن يرى بلونين في عين الأنثى، مرة حبيبا كبيرا في رجلها، ومرة حبيبا صغيرا في أولادها.

كل شيء خاضع لقانونه؛ والأنثى لا تريد أن تخضع إلا لقانونها

أيتها اليمامة، لم تعرفي الأمير وترك لك فسطاطه!

هكذا الحظ: عدل مضاعف في ناحية، وظلم مضاعف في ناحية أخرى

إحمدي الله أيتها اليمامة، أن ليس عندكم لغات وأديان، عندكم فقط: الحب والطبعة والحياة

على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها،

يمامة سعيدة، ستكون في التاريخ كهدهد سليمان،

نسب الهدهد إلى سليمان، وستنسب اليمامة إلى عمرو.

واها لك يا عمرو! ما ضر لو عرفت اليمامة الأخرى. .!

طنطا

مصطفى صادق الرافعي