مجلة الرسالة/العدد 920/خطرات وذكريات

مجلة الرسالة/العدد 920/خطرات وذكريات

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 02 - 1951



في التفاؤل والتشاؤم

للأستاذ منصور جاب الله

كان رسول الله يتذمم التشاؤم ويبدئ القول ثم يعيده في تهجينه وتشبينه، إذ كان الإسلام قريب عهد بالجاهلية، وكان للتفاؤل والتشاؤم دولتهما في تسيير شؤون الناس. وكان عليه الصلاة والسلام خبيراً بطبائع الناس وأمور معايشهم، وإذ بصر بالتطير بينهم شائعاً في الخطب الجسام وفي الأمر الدون نهى عنه وبغضه تبغيضاً شديداً، حتى لقد قرن التشاؤم بوقوع الشؤم ذهاباً مع ما يستشعره الوجدان من خفي النوازع ومتضارب الخوالج، ثم يكون عليها بعد ذلك من صميم الواقع شهيد.

وللرسول الأعظم أحاديث كثيرة في ذم التشاؤم مبثوثة في الأسانيد الصحاح، وإنها لخير مرجع للرائد والباحث في علوم النفس. ولقد كان التفاؤل والتشاؤم أثرهما في حياة الكثيرين من أعيان الأدباء والساسة. وعرف عن ابن الرومي أنه كثير التطير والتوجس فأغرت به هذه الغمزة من الضعف عداته وحساده، وطوعت لهم أنفسهم أن يتخذوا له من هذه الرذيلة مقتلاً يفوقون من خلاله سهام حقدهم وكيدهم، ويغيضوه ويردوه عن مكاسبه، فكانوا إذا أرادوا به كيداً أرسلوا إليه من يتطير باسمه، فظل الرجل ثاوياً في داره لا يبرحها وحوله أولاد جياع وأكباد تحن إلى القدر.

ولقد أفسحت رقعة الحضارة واستقام ميزانها، وارتفعت العلوم وانبسط رواقها، وانفتقت الأذهان إلى غاية مداها، ولكن النفوس بقيت مطوية على ما كانت عليه قبل عهد ابن الرومي وقبل إعصار الجاهلية من التطير وعكسه، والإيمان بهما إيماناً أعمى ليملك على الإنسان نفسه من سائر أقطارها.

ذلك لأن التفاؤل والتشاؤم منزعان من منازع النفس البشرية جبلت عليهما فأصبحا من تلك العاد التي تتعلق بالفطر والطباع، وأمسى أمر اكتناهها مما يعي الإفهام ويتبهم على العقول. وليس يمكن الوصول إلى تجريد النفس من التطير مما ترى فيه نحساً ولو على سبيل التظني والتوهم، إلا إذا يسر النفاذ إلى قداس الخوالج النفسية، وهان الوصول إلى أعمق ما يتحرك به الحس في انطواء الروح، وهذا ولا ريب من بعض المحال، وهيهات أن يبلغه عقل بحال من الأحوال!

للتفاؤل والتشاؤم دوافع وأسباب قد تنحدر أصلابها إلى ما يقترن بالواعية الباطنة، أو ما وراء الوعي كما يقول علماء النفس، أو ترتد إلى مراجع أخرى لها مقوماتها في علم النفس التجريبي، وهذا ما لا نجرؤ على القول فيه في كثير ولا في قليل لئلا يزل القلم ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

وواقع الأمر أن المرء ما يستطيع مدافعة التطير بوحي من عقله الواعي إلا على مضاضة وتململ وبرم، كذلك الإنسان إذا عراه ما يضحك فلابد له من الأستضحاك، أود دهاه ما يبكي فلا عليه من الاستعبار وإذا هو كبح حبوره كبحاً، أو كبت نشيجه كبتاً فهو معاني الأمرين بغير مشاحة. وكثير من الناس يتطيرون ويسرفون في الطيرة ويحسبون أنهم مانعهم تشاؤمهم من وقوع الشؤم وهو لا يغني عنه شيئاً. وفي التطير ما فيه من الثورة بالقدر والاعتراض غير المجدي على حكمة الخالق، وتشنئي به جل وعلا. ولعل هذا المعنى هم ما قصد إليه سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام.

والتفاؤل هو الجانب الإيجابي الآخر، ولا يذهب في الضرر البالغ مذهب التشاؤم إلا إذا أسرف فيه حد يصيره إلى غاية الهوس أو الركون إلى الحياة الرتيبة الكسلى، أو التسليم بالأمر الواقع تسليماً يؤدي بالمجتمع إلى التداعي والخور، وعلى أي الحالين واجب الإنسان أن يكون قواماً بين التفاؤل والتشاؤم، وعدلاً بينهما ومقسطاً، فلا يسرف في جانب ولا يقتر في جانب، وإلا فالضرر واقع لا محالة.

وليس ما تقدم به الكلام تمهيداً بين يدي بحث علمي فمالنا في هذا المجال يدان، وإنما هو تقدمة لبعض ما يتصل بموضوع التفاؤل والتشاؤم، فلقد عبرت بي حوادث جمة في هذا السياق، عفي الزمان على الكثير منها وبقى في لوحة الذاكرة نزر يسير. وما أنس لا أنس حادثين وقعا لي مع بعض أصدقائي في زمنين متفاوتين، وكان في نفسي منهما أثران قويان، أحدهما إيجابي والآخر يميل إلى الجانب السالب، وإني لمثبتهما فيها يجيء من السطور.

في إحدى غدواتي إلى القاهرة ثويت إلى متجر صديق لي، حائك ثياب، وما اقتدت ببابه حتى أقبل على بعد ديباجه من التحية بألوان من الشكاية والضجر، ذلك لأنه قد جازت به طائفة من الزمن ويداه صفر من المال، وبضاعته المزجاة ضربتها السوق بالبوار، فتبطلت أنامله عن لفق الثوب ومخيط الدثار.

وطفق يحدثني صاحبي عن مضانكه التي يلقاها في حياته وخصاصة موارده وعجف مكاسبه في أسلوب يستسقطر العبرات الغوالي، حتى لقد ذهب إلى أنه لا يصرف ذياك النهار ويتقدم مساؤه إلا وقد أتى الله على بنيان متجره من القواعد، أو أتى هو على مصاريعه الواحد تلو الآخر وتركه على عروشه خاوياً، وزين لي أن لو قد خرجت عن يد وجدت عليه من وفاضي الخاوي بجزء من عشرة من الدانق لتقبله مغتبطاً عطاء غير مردود ولا ممنون!

وإذ سادر شكايته، وأنا أصيخ غليه السمع متوجساً مستريباً على نكرة واستثقال، هبط علينا فتى أمرد تأخذه العين، تبدو عليه إمارات النعمة، ويبين النبل في أطرافه، ويضوع الطيب من أدرانه وأعطافه، فسلم ثم سلم على غير سابق استعراف، وجيء له بكرسي استوى عليه في استحياء الشباب، ثم أراد أن يبلغ الغاية من مبغاه، فذكر في صوت لا يكاد يبين أنه نازح عن هذه الديار فمتوجه تلقاء باريس في طلب أواسط العلم وأعاليه، وهذا ما قصد من أجله صاحبي الحائك، فهو يروم تجهيز أربعة أثواب على الأنماط الفرنجية، وراح يشرح في إسهاب فني لا يمت إلى علمه، بصلة، فهذا على صفة كيت وكيت، وهذا على هيئة ذيت وذيت، وهذا من الطراز الفلاني، وهذا حسب النموذج العلاني، وهكذا حتى استوفى بيانه الشافي وضرب موعداً لنتخاب طلبته لا يزيد على أسبوعين.

وبعد ما عاين صديقي الحائك جسد الفتى وسمته وقاسه من قدام ومن خلف، ومن يمين ومن شمال، تقدم غليه بالحساب الدقيق عن الأجر الذي يقتضيه لقاء صنعته، وما يستلحقها، وعند هذا الحد رأيت الشاب ينتزع حافظة نقوده من جيبه كلمح البصر، وينقد الحائك جملة من الدنانير خفي علي عديدها، وإن لم يخف علي ما أحدثت في نفس صاحبي من أثر إيجابي ما يقوى على وصفه حجر ولا يراع، فانبسطت غضون وجهه والتمعت حدقاته، وطار به الجذل أي مطار.

وما أن انصرف الشاب حتى نظر إلي صاحبي نظرة جمعت له الزمان كله، وكان أن هم بعناقي وكأن به جنة أو عراه هوس، ولكنه عاد يشرح لي مقدار تفاؤله بمقدمي إذ يسر له الأمر، وتفرج الكرب، وعلم الله ما كنت سبباً في شيء مما حدث، وإن كان مدعاة لسروري أن أرى صديقاً لي أثيراً عندي يزيح الله همه ويرزقه من حيث لا يحتسب.

ولا يغني اعتذاري عني شيئاً، ولا ارتباطي بموعد استبق هذه الزورة وعسير الفكاك منه، أن أمسي ضيقاً عنده، وكان أن ذبح لي دجاجة ليس كمثلها في الدجاج! وقعت عليها فطويتها وملحقاتها من المرق والإدم، حتى لحقني البشم وعييت عن التنفس والكلام!

ومن يوم هذه الواقعة أضحيت اثيراً عند صديقي الحائك، وزاد في إعزازي عن ذي قبل، فكان يجد في تعقبي كلما أطلت الغياب، ويترصد مظاني كنت حيث كنت، ورأيت هذا منه فأبيت إلا أدالاً عليه، لأعرف منزلتي عنده، فكنت أشيح عنه كلما رأيته، وأفر منه كلما رآني. وإن يشهد مني ذلك سيتضحك كثيراً ويصيح لي: أيها الخبيث المكار! وظلت هذه حالي معه حتى حالت بيني وبينه ظروف المكان، فنزحت الدار وشط المزار، وإني اليوم وإن كنت أستحس برجاء الألم لفراق ذياك الصديق ما برحت أجد في جوانب نفسي أثارة حلوة من بعض هذي الذكريات العذاب.

كان بيني وبين صديقي (فلان) ظل من الصداقة ممدود، فكنا لا نفترق إلا على ميعاد من لقاء، ما يكف أحدنا عن ازديار الآخر مهما تجيء الظروف، وحيث منت كانزاطوت على ذلك الحب البريء جملة من الزمن وهو لا يزداد إلا ينعاً وإيراقاً وازدهاراً، ذلك إلى ما بيني وبينه من المصالح المتبادلة من أخذ وعطاء.

كان صاحبي هذا لا يسافر إلا وأنا له مودع، ولا يؤوب إلا وأنا له مستقبل، وما كان يطوي عني شيئاً مما يخالج في قرارة نفسه من أمر. وهكذا كان شأني معه. فلما قضى الأمر وأريد له أن يبرح المدينة إلى الأقاليم ليقوم على أعماله المتشعبة، لحقني من الحزن على فراقه ما يتقاصر اليراع عن إثباته. بكى يومها وبكيت أنا امضاضة الافتراق، وكان بيننا ميثاق غليظ على التوافي والادكار. وقد بر بقسمه فلا يستدبر الأسبوع حتى يبرد إلى الكتاب والكاتبين، وما كانت كتبه تحوي إلا كل لفظ جميل يدل على معنى جميل يكون له في نفسي وقع جميل.

ولحتني في أحد الأعوام شكاة أزمت معي وتطاولت مدتها حتى اسيقنت أني في غايتها مستأثر بي الله أن حان حيني، ووالله ما آسف على شيء مما حولي فما خلقت من سبد ولا لبد، ولا مال عندي ولا ولد، ويحضرني اسم هذا الصديق فأستشعر المرارة لفراقه وأكتب إليه رسالة تفيض بمعاني الوجيعة وبرحاء الألم، راجياً أن يذكرني في نفسه فيمن يذكر من الصحب والصدقان. وإنه ليطالع كتابي فتفيض شجونه ويهبط بالإسكندرية ليلاً ثم يوفض إلى بيتي على غير موعد، ويراني في قراشي مسهداً تعرقني الحمى فيبكي ويستعبر، ويذكر أيامنا الحلوة التي طويناها في صداقة لا يزيدها اطراد الزمان إلا استحكاماً.

ويشاء الله العلي القدير أن أبل من مرضي، فنعود إلى ما كنا فيه من تراسل وتزاور بين حين وحين.

كان بعد ذلك أن بعثت إليه أوصيه بأمر عينته له، هو من بعض شأني، فأبطأ علي في الجواب حتى تداخلني الريب. وما هي إلا أيام حتى تلقيت منه كتاباً ينعى إلي فيه والده، وكان البقية الباقية من أصوله، فوقع مني النبأ موقع الصاعقة على الهشيم، ثم حوقلت واسترجعت وأرسلت أعوز به معتذراً عما فرط مني قبل هذا.

وعادت الأمور بيننا إلى مجاريها، وكنت كلما رأيت من صاحبي فتوراً عن ذي قبل صرفت الأمر عن جهته، وعدلت به إلى ما هو الأكرم بي وبه، وغدوت أبعث إليه بالرسائل فلا يجيب، وإذا ما تعجلته في أمر من الأمور، ادكر بعد أمة، وإذ ذاك أدركت أن الرجل تشاءم من رسائلي أو على الصحيح تشاءم بي.

ويشاء القدر أن أرسل إليه كتاباً أوصيه فيه بشخص أثير عندي، وأعلم بعد يوم أو يومين أنه احتسب طفلاً له.

لقد كان المصاب عندي ما يكاد يحتمل، حتى خيل إلي أن الولد ولدي وأن الفجيعة فجيعتي، وبكيت مريراً ثم عزيته عزاء دميلاً، وأنا أدرك أن منزلتي عنده قد بطت وأني صرت حياله لا صديقاً ولا شبه صديق.

وهبط بالإسكندرية في صيف من الأصياف ليقضي أياماً دون أن يبلغني بأوبته، وأستقصي عنه في جميع منازله فلا أدركه، وأراه يوماً ساعة الأصيل في مشرب من المشارب العامة فلا يكاد يبصرني من بعيد حتى يتطاير عن المائدة، ويفر إلى داخل المقهى كأنما كنت غولاً لاهم له إلا افتراس الأناسي!

لقد لحقني الإشفاق على الرجل وتألمت أشد الألم لذهاب صداقة مكينة كنت أعتز بها جد الاعتزاز وعلمت فيما بعد أن للتشاؤم أثره في حياة الأفراد، وأنه قد يذهب بالصداقة الصدوق وما يستلحقها من مصالح وأعمال.

منصور جاب الله