مجلة الرسالة/العدد 921/روافع المجتمع. .
مجلة الرسالة/العدد 921/روافع المجتمع. .
للأستاذ محمد محمود زيتون
لم تعد الدراسات الاجتماعية عقوداً من إرشادات ونصائح، أو فرائد من أفكار مرتجلة هي بضاعة ذوي المآرب في الدعاية لأشخاصهم والترويح لمبادئهم أو أحزانهم. ومضى كل ذلك مع أمس الدابر، يوم أصبح المجتمع في نظر العلم الحديث موضوعاً للمقاييس ومجالاً للمناهج، وميداناً للقوانين العامة أقصى ما يكون العموم. . وبذلك كان الاجتماع البشري آخر معقل من معاقل العرفان غزته جيوش العلم واتخذت منه معسكراً.
وليس أدل على ذلك من قوانين الاقتصاد التي أصبحت رموزاً ومعادلات جبرية تسير بمقتضاها الظاهر الاجتماعية كما هو معروف في قوانين العرض والطلب، وقانون (ملتوس) في تزايد السكان. وانضوت البحوث السيكولوجية - هي الأخرى - تحت لواء العلم منذ وجدت النزعة العلمية الحديثة أرضاً خصبة لها في كل مكان.
وهذا علم الاجتماع لم يشذ عن هذا المضمار، فقد ميز فيه (دور كيم) جانبين هامين هما (الاستاتيكية) و (الديناميكية) شأنه في ذلك شأن الكهربائية في جانبيها (الذاتي) و (الانتقالي)، واعتبر النشاط الاجتماعي عن ظواهر أو وقائع ينظر إليها العلم على أنها (أشياء) من حيث خضوعها للحواس من جهة، وللمقاييس من جهة أخرى. ثم من حيث أنها تسير حسب قوانين صارمة لا تتخلف، وعلى الباحث أن يجد في كشف هذه القوانين المضارعة لقانون الضغط مثلاً، فإنه لم يكن قد اكتشف بعد، بينما آثار الظواهر لا تنكر.
وقد حرصت المدرسة الاجتماعية الفرنسية الحديثة على طبع فروع العلم الاجتماعي بهذا الطابع العلمي الخالص، وظهرت آثار هذه الحرص فعلاً في دراستها لعلوم الأخلاق والسياسة والدين والقضاء والجمال.
وإذا كان (دور كيم) قد اقتبس من الفلك والكهرباء والفيزياء والكيمياء على أوسع نطاق، فلا حرج علينا إذا اتخذنا من الميكانيكا استعارة صريحة نستعين بها على فهم المقومات العامة للمجتمع الموزون في قواه الداخلية والخارجية.
وتتركب الرافعة - وهي نوع من الميزان كما تعلم - من محور الارتكاز والقوة والمقاومة، ولا يستقيم الميزان إلا إذا تحققت المعادلة الآتية أياماً كانت الرافعة: القوة في ذراعه تساوي المقاومة في ذراعها.
والروافع ثلاث كنا نحفظها ونحن تلاميذ بالسنة الثالثة الابتدائية بناء على طلسم خاص هو (رمق). فالقاف رمز القوة. والميم رمز المقاومة والراء رمز محور الارتكاز، ثم إن هذا الطلسم بوضعه هذا يكون مفتاحاً لأنواع الروافع.
فالنوع الأول يكون فيه محور الارتكاز بين القوة والمقاومة والنوع الثاني تكون فيه المقاومة بين محور الارتكاز والقوة والنوع الثالث تكون القوة بين محور الارتكاز والمقاومة.
ولهذه الدوافع الآلية فوائد عملية للإنسان، فهي تنفعه في التغلب على القوى الكبيرة باستعمال قوى صغيرة. وروافع المجتمع أشبه بروافع الطبيعة في بساطتها وتعقيدها. وليس يخفى أن الحياة الاجتماعية إنما هي تفاعلات مستمرة بين عناصر لأحد لها ولا حصر، ومن أبرزها عوامل الجغرافيا والتاريخ والدين والاقتصاد والسياسة والأخلاق والعلم والصحة والجنس واللغة.
ومن العبث أن نعتبر المجتمع مكوناً من أفراد كما نعتبر الجدار مجموعة من قوالب مرصوصة على نحو أو آخر، ذلك بأن الإنسان شخص لا فرد، والفرق بين الشخصية والفردية مدارة تكامل الجهاز العصبي، ذلك التكامل الذي يبلغ أقصاه عند الإنسان، ويندرج تحته سائر الأحياء في سلم النشوء والارتقاء، ولذلك يقال في البيولوجيا إن الأرنب فرد لأن سلوكه طائفي، بينما الكلب شخص ذاتي. ومعنى ذلك أنه كلما كان سلوك الحي متدرجاً في الرقي مع مرونة الجهاز العصبي، كانت له شخصيته التي بها يعرف ويمتاز.
وليست هذه (الشخصية العنصرية) حجر عثرة في سبيل (التكامل الاجتماعي) كما يبدو لأول وهلة، فإن الميول الفطرية العامة من أهم العوامل في تحقيق هذا التكامل بين الأشتات، وذلك التقارب بين العناصر. وإنه لمن اليسير أن تتلاقى الأهواء والميول وفاقاً لقانون (الجاذبية الاجتماعية) ذلك القانون المستمد من الطبيعة السيكولوجية. والذي يوحي بأن حياة المجتمع أشبه ما تكون بحياة القطيع، يرى الفرد نفسه منساقاً إليه، مدفوعاً معه مثل (خروف يانورج) في القصة المعروفة.
فإذا كانت الغرائز هي تلك القوى الفطرية والأسس الأولى للسلوك، فإن الميول العامة هي القوى التي ينبني عليها المجتمع، وهي لا تظهر بوادرها إلا بوجود الإنسان في المجال الاجتماعي، وتلك الميول هي ما يعبر عنها بالإيحاء والمحاكاة والمشاركة الوجدانية.
وأقرب مثل لذلك سرادق منصوب، فيه خطيب متحمس يخطب في جمهور من الناس مختلفين في الأفكار والنزعات والأهواء، ومع ذلك سرعان ما يتفق الجميع على رأي الخطيب عن طريق (الإيحاء) ويساير البعض رأي البعض الآخر في التصفيق والهتاف عن طريق (المحاكاة) ويتأثر الجميع بانفعالات الخطيب من غضب أو فرح أو حزن عن طريق (المشاركة الوجدانية) ولولا وجود هذا المجتمع ما كان لهذه المجتمع ما كان لهذه الميول أن تظهر في الفرد.
بهذا يسهل التقريب بين عناصر المجتمع، ويتم التكامل الذي به تختزل الصعاب أمام الإصلاح، ويتبلور الرأي العام، فيستطيع المشرعون أن يستمدوا منه القوانين الصالحة لأنها تطابق الآمال المشتركة والأهداف العامة.
وعلى ضوء هذا كله نتساءل: ما هي روافع المجتمع؟ أو بعبارة أخرى ما هي العوامل التي ترفع من شأن المجتمع حتى يكون الفرد والمجموع على وفاق تام بالنسبة للمثل العليا في مرافق الحياة الكريمة. فلا يضطرب الميزان الاجتماعي؟
أما المجتمع الأول فهو الذي يقوم (العلم) فيه مقام محور الارتكاز في الرافعة الأولى، وتكون (الأخلاق) بمثابة القوة، و (التاريخ القومي) بمثابة المقاومة. ولا شك أنه في مثل هذا المجتمع تتعادل مخلفات الماضي مع آمال المستقبل، كما تتعادل الكفتان في الميزان. ولا سبيل غلى ذلك إلا بالعلم الذي يبصر المواطنين بمآثر أسلافهم فيتخذون منها دعامة لصروح المجد الذي ينشدونه، ولا يدفع المجتمع بعيداً نحو أهدافه غير الأخلاق، فإذا كانت مهمة العلم تنوير العقل، فأن مهمة الأخلاق صقل الضمير ليبغي الخير وينشد الحق.
ولهذا يجب أن تكون (الكفالة الأخلاقية) واجباً عاماً يقوم به المسجد والكنيسة والجامعة والمدرسة والمنزل والشارع، والمسرح والسينما والصحافة والإذاعة، والمقهى والملهى، إذ الأخلاق في المجتمع قوة رافعة دافعة، مما يتحتم معه على هذه الدوائر أن تتولى أمرها جميعاً، فلا تختص بها هذه دون تلك، وللمجتمع وحده أن يحكم لأيها الفضل في تنقية الضمائر، وترقية الغرائز، وتعلية النوازع.
والمجتمع الرفيع هو الذي يدرك المعالي من أقرب طريق وأبسط جهد، ومن أجل هذا اخترنا له هذا النوع من الروافع الاجتماعية إذ تتكافأ القوة مع المقاومة ويتسبق إلى القمة تراث الأمس وهدف الغد على غير نفرة بينهما أو شذوذ؛ إذ هما أشبه بضلعين متساويين في مثلث متساوي الأضلاع، قاعدته الثابتة العلم الراسخ بحقائق الأمور.
ولا يخفى أن البعد أو القرب من محور الارتكاز يرجع إلى مقدار تكافؤ القوة والمقاومة، وتبعاً لذلك تكون رسالة العلم سريعة الأداء إذا توافرت الذخيرة الأخلاقية، وتعددت القوى والأثقال، وعندئذ فقط تستجيب المقومات الحضارية، وتضطر إلى المعادلة، وإلا اضطرب الميزان، واختلت روافع المجتمع، وشالت كفة ورجحت أخرى.
والمجتمع الذي هو من هذا النوع يشبه (الكماشة) لأن محور ارتكازه (العدل) الذي يوطد أركانه قوة مطلقة من (القانون) وهنا فقط نستطيع التغلب على (الجريمة) التي لن تفلت من فكي الكماشة ما دامت عين القانون ساهرة، وقادرة على التوغل في كل وكر فتسلط أنوارها الكاشفة على جسم الجريمة بصرف النظر عن المجرم مهما تكن قرابته أو عصابته أو مكانته، بل الكل سواء بلا تفريق.
والمجتمع الثاني هو الذي تكتمل فيه عناصر الرافعة الثانية، فتكون المقاومة بين محور الارتكاز والقوة، كما في (كسارة البندق) حيث ترتكز على مفصلها، وتوضع البندقة قريباً من المحور، وتضغط اليد على أقصى الطرفين لتحاول كسر البندقة التي تقاوم حسب استعدادها، وتبعاً للضغوط المتتالية عليها.
وفي رافعة هذا المجتمع يكون (الاتحاد) قوة و (السياسة) مقاومة، ومحور ارتكازهما هو (الاستقلال) فإذا ارتكز المجتمع على الاستقلال التام استطاع أن يقاوم مقومات تقدمه، وأن يفك الأغلال والأصفاد التي تحول بينه وبين الانطلاق، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتضافر الأفراد واتحادهم جميعاً كأصابع اليد الواحدة في قبضتها على يد الكسارة، وعندئذ لا يكون لإصبع حق في ادعاء الظفر، وإنما الفضل للوحدة المتصلة لا للفرقة المنفصلة.
وعوامل الاتحاد في المجتمع الرفيع ميسورة لا تستعصي على الإمكان. أليس الدين يدعو إلى وحدانية الله واتحاد العباد ووحدة القبلة؟ أليس العلم في مجمله ومفصله يفترض العقل الذي هو أعدل الأشياء توزعاً بين الناس؟. . أليست الحقيقة متمثلة في حاصل جمع عددين أو باقي طرحهما، وإنه إذن لصواب أو خطأ، ولا مجال لجدال.
والاستقلال في ذاته رفعة، وبالنسبة للجهاد وسيلة رافعة، لأن الفرد المستقل هو المجتمع المستقل عاجلاً أو آجلاً، ولن يكون ذلك إلا بكشف الأغطية عن العقل المفكر، ورفع الكمائم عن الأنفاس الحرة، وطرح المخدرات الممقوتة عن الأنوف الشامخة، بعيداً بعيداً، والحذر من المسكنات التي لا يقصد منها غير الاستهلاك المحلي. ولابد من الارتكاز على الاستقلال في القوة واتحاد لإخماد التعصب والتحزب، وإحباط التعالي على الغير وازدراء أقدار الرجال إلى غير ذلك مما يقوم مقام البندقة من الكسارة ولا يعلم صلاحها أو فسادها إلا بالكسر.
ومكافحة المعوقات السياسية من أيسر اليسر، فليس أقل من التفرقة بين السياسة والاستغلال، والفصل بين الوطنية والحزبية، لهذا كان طول ذراع القوة مؤذناً بأن قليلاً من القليل يكفي لكسر البندقة التي قد يغري قربها من محور الارتكاز باحتقار شأنها، في حين أن قصر ذراعها يستلزم الضغط، وهو إن بدأ من بعيد غير شديد إلا أنه كفيل بتفتيت قنبلة ذرية، وليت الناس يعلمون حق العلم قانون الروافع الاجتماعية، إذن ما ضلوا سواء السبيل، ولا تكلفوا الشطط مع بعضهم بعضاً، ولا كلفوا أنفسهم وأوطانهم مشقة الاحتيال على المشاكل المعلقة بينهم وبين أعدائهم وخصومهم.
وهذا المجتمع يشبه (عربة الكناس) وقد امتلأت بالأقذار، وهو يدفعها أمامه، وهي تندفع على عجلة من حديد، وتميل ذات اليمين وذات الشمال، وهو من هزله يميل معها كما تميل، ويحاول أن يقاوم هذه القذارة الثقيلة، ولكنه مرغم على احتمال المكروه في سبيل الجلاء، الجلاء التام.
ذلك هو شأن المجتمع النحيل الذي يكافح الاستعمار والحماية والاحتلال، ويرتكز على عجلة الزمن: تدور فتطوي الطريق وراءها ليس له أن يسبقها أو يدعها تكر بين يديه من غير دفع مستمر.
يا له من كناس يقبض بيديه على نعش العدو، يشيعه إلى خارج البلد إلى غير رجعة، والأيام تطاوعه، فلا ينبغي له أن يستعجل الجلاء، ففي العجلة الندامة، وحسبه أن عجلة الظلم لا تدور مع الأيام، فليعتمد على ضعفه ليكون القوة. إن ذلك من عزم الأمور.
إن المقاومة القذرة، والبطش الكافر، والاستعباد العنيف، كل ذلك مطرود من كل بيت، ملفوظ من كل كوخ، ولا يستقيم مع نظافة العيش، وسلامة الطريق. وياليتنا نتفهم فلسفة هذا الكناس الذي عرف كيف يبدأ وأين ينتهي، لم يتكل على أن القذارة ستزول من بيته ما بين طرفة عين وانتباهها، بل نهض وشمر عن ساعد الفقر والجهل والمرض، لينعم بالغنى والعلم والصحة. . إنها حركة وفيها بركة، إنها كاسحة نازحة، وعما قريب تكون الفاتحة، والمجتمع المرفوع هو الذي خيره لا مقطوع ولا ممنوع، وشر عدوه دائماً مقلوع لا مزروع.
الزمن محور ارتكاز، وإن طالت الآماد بين حلو الشهاد وخرط القتاد، على أن المصير معروف مألوف. فالظلم والعدوان سينقلبان أسوأ منقلب، وبعدهما الحرية التي لا حدود لها، والنظافة التي لا بعدها، ومن ذا الذي لا يود أن يغدو ثقيلاً ليروح خفيفاً، أو أن يكافح عدوه ليعود سيد نفسه، أو أن تكرهه الأيام على جر العربات، لتكون له وحده الثمرات.
أما المجتمع الثالث المرفوع، فما أشبهه (بلاقطة الجمر)، ولن يستغني المجتمع عن هذه الرافعة في التقاط كل جمرة متقدة من العلوم والفنون، وكل ألوان الحضارة، ولا يكون ذلك إلا بالارتكاز على (الحرية) في الأخذ والعطاء، بحيث لا نأخذ بالجبر، ولا نعطي بالقهر، ولن تكون الحرية مكفولة إذا فتحت الأسواق لكل بضاعة من غير تدخل يراد منه الصيد في الماء العكر، لكساد بضاعة صالحة، والترويج لأخرى فاسدة، وليكن قانون الجميع (البقاء للأصلح).
هذه الحرية التي لا بد منها في تبادل النفع المشترك بين الشعوب الراغبة في السلام، والساعية في الخير، ومع هذا فإن (الشر) سيقاوم هذه الغاية النبيلة، ولن يكون عنصراً فعالاً في المقاومة إلا إذا طال واستطال، وأدمن في المطال، كلما تقاضته الإنسانية ضريبة الحياة، والشر قوة لا محالة، ولكن سرعان ما يمحى في ظلال الحرية، وعلى جمرات العلوم والمعارف.
مجتمع هذه رافعته جدير بأن يكون أفراده يداً واحدة، تقاوم الرذائل والشرور بل تبطش بها البطشة الكبرى حتى لا يضار بها المجتمع. ولعمري لئن كانت هذه اليد بمثابة المقاومة في الرافعة فإن محور الارتكاز اللازم هنا إنما يكون الدين المتين، الدين الذي يمتد سلطانه المشروع إلى كل مرفق من مرافق الحياة المعلقة بيد الله، وعندئذ تكون (الأمانة العلمية) هي القوة الدافعة للمغريات حينما تتكاثر وتتثاقل على اليد البيضاء بالرشوة والسرقة والاحتكار والاستغلال، فتدفعها عنها في إباء وترفع يرتفع بهما المجتمع بأفراده إلى المثل العليا.
هذه هي روافع المجتمع، فلينتظر كل فرد أين هو من هذه المجتمعات، وعليه أن يرتفع بالتدريج إلى المقام الرفيع الذي يكون فيه المجتمع وأفراده متكافئين في الميزان. وذلك هو الهدف الذي لا مطمع بعده من رفعة، ولا حاجة وراءه من روافع.
محمد محمود زيتون