مجلة الرسالة/العدد 923/أدب الشتاء

مجلة الرسالة/العدد 923/أدب الشتاء

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 03 - 1951



للأستاذ محمد سيد كيلاني

حسبك أن تندس في اللحاف ... وخشية البرد على الأطراف

(ابن وكيع التنيسي)

- 2 -

يرغم الناس في فصل الشتاء على الدخول في حرب مع الطبيعة فمنهم الفقير الضعيف الذي لا يطيق هذه الحرب، فيشكو ويتألم، ويسخط ويتبرم، حتى يتمنى لو فتحت له أبواب جهنم ليدخل فيها هربا من شدة البرد وقسوته، قال أحد الشعراء:

أيا رب هذا البرد أصبح كالحا ... وأنت بصير عالم ما تعلم

لئن كنت يوما في جهنم مدخلي ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم

لقد كاد الشاعر يتجمد من شدة البرد، وأنساه هذا الهول ما يمكن أن يلاقيه من عذاب النار. فتضرع إلى الله أن يعجل بإدخاله جهنم، فهي عنده مكان صالح لأن يعيش فيه بعيداً من بطش البرد الذي كاد يفتك به.

وهذا شاعر آخر يتمنى لو مات واستراح من عناء الشتاء وآلام البرد. قال:

فليت هذا الشتاء الصعب مذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد

برد لو أن الورى جاءت تبايعني ... على الخلافة لم أقدر أمد يدي

وفي هذا المبالغة ما فيه. فالشاعر مع شدة فقره وعظيم احتياجه إلى ما يدفع عنه غائلة الشتاء يقول لو أن الناس ذهبوا ليبايعوه بالخلافة لما استطاع من قسوة البرد أن يمد يده ويتقبل البيعة.

وهذا شاعر آخر يصف ليلة من ليالي الشتاء فيقول:

فنحن فيها ولم نخرس ذوو خرس ... ونحن فيها ولم نفلج مفاليج

وحسبك هذا المنظر. قوم جمدوا في أماكنهم من شدة البرد فكأنهم قد أصيبوا بالخرس والشلل فلا يستطيعون كلا ما ولا حركة.

وهكذا تنافس الشعراء في اختراع الصور وابتكار المعاني التي تترجم عن مشاعرهم المختلفة، واحساساتهم المتباينة أمام هذا العدو الجبار وهو البرد.

وفي الشتاء كما ذكرنا يكثر أدب الشكوى والسخط والتبرم بالفقر. وذلك لأن متاعب الفقر تظهر في هذا الفصل، فيشعر المعدمون بوطأة الحياة عليهم، ويتألمون ويتضجرون ومثال ذلك قول أحدهم:

قيل ما أعددت لل ... برد وقد جاء بشدة

قلت دراعة عرى ... تحتها جبة زعدة

وهذا شاعر متصوف يقول:

جاء الشتاء وليس عندي درهم ... وبمثل هذا قد يصاب المسلم

لبس العلوج خزوزها وفراءها ... وكأنني بفناء مكة محرم

وأكثر ما يظهر حسد الفقراء للأغنياء في هذا الفصل الذي تعرف فيه قيمة الثراء حق المعرفة. وقد يمزجون الشكوى من الشتاء بالتهكم المر والسخرية اللاذعة والدعابة المؤلمة. ومثال ذلك قول أحدهم:

لي من الشمس حلة صفراء ... لا أبالي إذا أتاني الشتاء

ومن الزمهرير إن حدث الغي ... م ثيابي وطيلساني الهواء

بيتي الأرض والسماء به سو ... ر مدار وسقف بيتي السماء

فكأن الإصباح عندي لما في ... هـ حبيب رقيبة الإمساء

فانظر كيف صور الشاعر نفسه، وكيف فرج عن آلامه المكبوتة بهذه الدعابات وكيف وصف ما يعانيه من العرى في هذه الصورة الساخرة. فهو لا يحفل بالشتاء ولا يعبأ بالبرد. فإن طلعت الشمس اتخذ منها ثيابه، وإن احتجبت استعاض عنها بالغيم والهواء والفضاء سكنه. فكأنه يعيش على مذهب العراة الذي نسمع به في هذه الأيام.

وأنظر إلى أبي الحسين الجزار حين يقول:

لبست بيتي وقد زررت أبوابي ... علي حتى غسلت اليوم أثوابي

وقد أزال الشتاء ما كان من حمقي ... دعني فمستوقد الحمام أولى بي

ما كنت أعرف ما ضرب المقارع أو ... قاسيت وقع الندى من فوق أحبابي.

فالبيت الأول يكشف عن خفة الروح التي أشتهر بها هذا الشاعر. فهو لفقره وعدم توفر الملابس لديه اضطر إلى أن يتجرد من أثوابه ويحبس نفسه في منزله حتى تغسل ملابسه وتجف. وقد عانى من ويلات البرد ما جعله يخنع ويستكين ويفضل أن يلقي بنفسه في مستوقد الحمام لأن وطأة البرد عليه كانت أشبه بضرب المقارع.

وبجانب هذا الأدب الذي يعبر عن الشكوى والسخط، تجد أدبا آخر يصور حياة الأغنياء في هذا الفصل وما فيها من ترف ونعيم. فهو عندهم فصل محبب إلى النفس، إذ يقبلون فيه على الخمر والكباب والنساء، والسماع والرقص، قال أحدهم:

نعم الشتاء وحبذا ... زمن الهنا والراحة

طاب العناق به إذا ... دار الحبيب براحتي

وقال الخوارزمي:

أعد الورى للبرد جندا من الصلا ... ولاقيته من بينهم بجنود

ثلاث من النيران: نار مدامة ... ونار صبابات ونار وقود

فهذا هو شعور الأغنياء نحو الشتاء. فهو عندهم فرصة للتمتع بالمشروب والمأكول والملبوس والملموس. وكانوا يسمون لوازم الشتاء (كافات). وهي عندهم سبعة تضمنها قول الشاعر:

جاء الشتاء وعندي من جوانحه ... سبع إذا القطر عن أوطاننا حبسا

وكن وكيس وكانون وكأس طلا ... مع الكباب وكف ناعم وكسا

آلكن أي المنزل والكيس كناية عن النقود. وكف ناعم كناية عن المرأة، والسعيد هو الذي تتوفر لديه هذه النعم.

وكثيراً ما شكا الفقراء من حرمانهم من تلك الكافات قال أحدهم:

جاء الشتاء وما الكافات حاضرة ... وإنما حضرت منهن إبدال

قل وقر وقلب موجع وقلا ... وقادر هاجر والقيل والقال

وقال آخر:

لا الكاف عندي ولا الكانون متقد ... كنى ظلامي وكيسي قل ما فيه

دع الكباب وخل (الكف) وا أسفا ... على كسا أتغطى في دياجيه

فمن هنا نرى أن الشتاء يوحي بنوعين من الأدب يناقض أحدهما الآخر؛ فالأول أدب الفقراء الذي يصور ما يلاقيه الفقير من البؤس والضيق والجوع والعرى. وإحساس الفقير بالحاجة إلى الغذاء والكساء في فصل الشتاء أشد منه في أي فصل آخر.

وذلك لحاجة الجسم إلى طاقة معينة من الحرارة لا يحصل عليها إلا إذا توفرت لديه الملابس الصوفية والمواد الدهنية. وبغير ذلك يتعرض الناس للموت ولأمراض الشتاء المختلفة. لذلك كان هذا النوع من الأدب صادقاً إلى أبعد حدود الصدق. أما النوع الآخر فهو الذي يصور حياة الأغنياء وما فيها من لهو ومجون وعبث وخلاعة وتفاخر بالأموال والثمرات. فليالي الشتاء عندهم مواسم وأعياد.

وفي الشتاء تكثر البراغيث بين الطبقات الفقيرة. قال ابن وكيع التنيسي:

حتى إذا ما ملت للرقاد ... نمت على فرش من القتاد

إن البراغيث عذاب مزعج ... لكل ما قلب وجلد تنضج

لا يستلذ جنبه المضاجعا ... كأنما أفرشته مباضعا

فانظر كيف صور الشاعر ليالي الفقراء في هذا الفصل. فبينما هي فرصة طيبة للهو والخلاعة عند الأغنياء، إذا هي جحيم لا يطاق عند الفقراء. برد شديد، وبراغيث تطرد النوم عنهم في غير رحمة فلا عجب إذا تبرم الفقراء بطول الليل وتضجروا. في حين أن الأغنياء يجدونه - على طوله - قصيرا.

وهذا شاعر آخر يزعم أن للبرغوث فوائد ومزايا. وقال:

لا تكره البرغوث إن اسمه ... برغوث لك لو تدري

فبره مص دم فاسد ... والغوث إيقاظك في الفجر

وهذا من وحي الجهل نعوذ بالله من شره.

وكان من الناس من يعجز عن تأدية فريضة الصلاة، وبخاصة صلاة الصبح، وذلك لشدة البرد، قيل لأعرابي:

أما تصلي في الشتاء؟ قال: البرد شديد، وما علي كسوة أصلي فيها. وأنشد:

إن يكسني ربي قميصا وريطة ... أصلي وأعبده إلى آخر الدهر

وإن لم يكن إلا بقايا عباءة ... مخرقة ما لي على البرد من صبر

ففي الشتاء تصعب الصلاة ويسهل الصيام. وهناك أحاديث رويت عن النبي في مدح الشتاء منها قوله عليه السلام: الشتاء ربيع المؤمن، قصر نهاره فصامه، وطال ليله فقامه.

وكانوا لشدة البرد يكثرون من الذهاب إلى الحمامات العامة التي كانوا يسمونها (بيت النار) وقد وصفها الأدباء شعرا ونثرا وأتوا في ذلك بالمعاني الطريفة والصور اللطيفة كما سنرى في غير هذا المقال. وكان للأغنياء حماماتهم الخاصة، يدعون إليها المقربين لديهم من الأدباء، ويقضون فيها وقتا طويلا متجردين من برقع الحياء

وفي الليل يلتفون حول المواقد، ويتناشدون الأشعار، ويستمعون إلى القصص والحكايات والملح والنوادر ويتنافسون في نظم المقطوعات التي تتناول وصف المواقد وما فيها من جمر أحمر يعلوه الرماد، وما يتصاعد منها من لهب.

فإذا انتهى الشتاء وولى، وأقبل الربيع فرح الناس واستبشروا بانقشاع تلك الغمة وذهاب تلك الشدة. وفي برد العجوز التي هي نهاية الشتاء يقوا أحدهم:

كسع الشتاء بسبعة غبر ... بالصن والصنبر والوبر

وبآمر وأخيه مؤتمر ... ومعطل وبمطفئ الجمر

(يتبع)

محمد سيد كيلاني