مجلة الرسالة/العدد 923/الوطنية في المهجر

مجلة الرسالة/العدد 923/الوطنية في المهجر



للأستاذ حمدي الحسيني

ساءت الحال في بلاد الشام في القرن التاسع عشر أيما سوء. وانصبت الويلات على سكان هذه البقعة الطيبة من الوطن العزيز انصبابا قويا متلاحقاً، حتى أصبحت هذه البلاد الجميلة مسرحاً لأبشع أعمال الظلم وأقبح أنواع التفريق بين العناصر، ليتمكن ذلك الظلم من السيادة. فكانت فتنة الستين المشؤومة وتبعتها فتن أخرى جعلت من بلاد الشام جحيما فاتكا بالأموال، والحريات والأنفس، فدفعت غريزة حب البقاء فريقاً كبيراً من سكان البلاد إلى التفكير في الوسائل التي يمكنهم بها أن يحققوا رغبة الحياة ورغبة الحرية. فقلبوا النظر في هذا الكون الفسيح الأرجاء باحثين عن بقعة من الأرض يمكنهم أن يعيثوا فيها أحرارا كراما فوقع نظرهم على نور الحرية والاستقلال المتألق في الديار الأميركية بعد ثورتها التحريرية الكبرى فصمموا على الهجرة وركبوا متون الأخطار إلى تلك الديار، ولا يسع المضطر إلا ركوبها. فعاشوا هنالك بالعزم الصادق والإرادة القوية فضمنوا بالكسب الحلال حياتهم والاندماج في النظام العادل حريتهم.

أجل! هجر أولئك العرب بلادهم وأقاموا في بلاد الناس ولكن حب الوطن بقى متمكنا في نفوسهم محركا لعواطفهم.

كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل

وما كاد يستقر الحال بهؤلاء العرب المهاجرين حتى أخذت الوطنية تعصف في نفوسهم، تأثيرها المقارنات بين حاضرهم في مهجرهم وماضيهم في موطنهم. وتؤججها المقايسات بين حياة السعادة التي يشاركون فيها الأميركيين الأحرار المستقلين، وبين حياة الشقاء التي خلفوا أمتهم العربية تصطلي نارها في بلاد العرب الخاضعة لظلم الحكم وذل الجهل.

أخذت العاطفة الوطنية المكبوتة في نفوس أولئك الأخوان المهاجرين تتململ في مكابتها وتتهيأ للانطلاق من مكامنها في ظلال تلك الحرية الوارفة وأفياء ذلك الاستقلال الرطبة الناعمة وأية وسيلة لإشباع رغبة الوطنية في مثل هذه الحال من الأدب عل اختلاف أنواعه فنشأ بالأمة العربية هنالك أدب وطني قوي يمثل العاطفة الوطنية القوية في نفس العرب، وأخذ هذا الأدب شرق بنوره وينصب بحرارته على نفوس العرب في سائ أقطارهم فكان الرسول الأمين بين النفوس العربية المتألمة في الغرب والشرق، والعامل القوي في تحريك الآمال بالحرية والاستقلال. وإني محدث القارئ الكريم عن شعر القوة في المهجر الأميركي بشاعرين قويين في عواطفهما الوطنية يصح أن نتخذ من شعرهما برهانا قاطعا على أن إخواننا العرب في مهجرهم النائي يحملون من العواطف الوطنية ما نحمل، ويعملون لتحقيق الأماني القومية ما نعمل

السيد رشيد سليم الخوري - الشاعر القروي - شاعر عربي يقطن مدينة سان باولو في البرازيل، له ثلاثة دواوين شعرية وهي الرشيديات، والقرويات، والأعاصير، في يدنا منها الآن ديوان واحد هو ديوان الأعاصير، والذي يبدو لنا مما قرأناه للسيد ميخائيل نعيمة في كتابه (الغربال) عن السيد رشيد الخوري، ومما قرأناه في مقدمة ديوان الأعاصير للسيد رشيد الخوري نفسه أن ما جاء في ديوان الأعاصير هو أقوى أقسام شعر السيد رشيد الخوري على الإطلاق

لفت نظرنا في ديوان الأعاصير مقدمة الديوان لأنها مكتوبة بقلم صاحب الديوان نفسه خلافا لعادة الشعراء الذين يقدمون دواوينهم بمقدمات مستجداة من أقلام ذوي الشخصيات الأدبية الكبيرة سواء كان ذلك التقديم حق الصديق الوفي لصديق، أم منه كبير يفضل بها على صغير. ولفت نظرنا من تلك المقدمة تلك الخطوط الجميلة التي حدد بها الشاعر القروي مبدأه الوطني تحديدا دقيقا بدت بعده عاطفته الوطنية في قصائده واضحة جميلة مشرقة برغم هذا الضعف البلاغي الذي يبدو واضحا جليا على قصائد هذا الديوان النفيس

وقف الشاعر القروي أمام الأندلس فثارت في نفسه الذكريات فأراد أن يحييها باسم بلاد العرب ولكن كيف يحيها باسم بلاد ترسف بقيود الذل والأستعباد؟ إذن لا بد من الصبر حتى يأذن الله للبلاد العربية بالاستقلال وحينذاك تهدي تحيتها للأندلس كما يهدي الكريم تحيته للكريم

فإذا بغداد عادت كالقديم ... موطن الشعر وديوان العلوم

وإذا رن بها عود النديم ... مرجفا بالحب لعصاب النجوم

ومثيراً لوعة الليل البهيم ... ومديرا أدمع الفجر مداما

عند هذا سوف نهديك السلاما وإذا بيروت أم النور ولى ... عن سماها أثقل الرايات ظلا

وإذا السيف من الصحراء سلا ... نافضا من أربع الفيحاء ذلا

وإذا لبنان بالأمر استقلا ... فلبسنا العز أو متنا كراما

عند هذا سوف نهديك السلاما

واسمعه الآن يقرر حق الاستقلال للأمة ويدلها على الوسيلة الصحيحة لإحقاق هذا الحق

إن ضاع حقك لم يضع حقان ... لك في نجاد السيف حق ثان

ما مات حق فتى له زند، له ... كف، لها سيف، له حدان

فابعث سيوف الهند من أغمادها ... تبعث بها الموتى من الأكفان

وإليك هذين البيتين من قصيدة له في الثورة السورية الكبرى يخاطب بها العربي المقاتل في سبيل الحرية والاستقلال

إذا حاولت دفع الضيم فاضرب ... بسيف محمد واهجر يسوعا

(أحبوا بعضكم بعضا) وعظنا ... بها ذئبا فما نجت قطيعا

وإليك هذه القطعة من قصيدة نظمها إبان تلك الثورة السورية:

بدت ولهي ممزقة القناع ... فقلت لها فديتك لا تراعي

فدون حماك أبطال العوالي ... مؤزرة بأبطال اليراع

رماح كالأفاعي مشرعات ... وأقلام كأنياب الأفاعي

أطلي واشهدي منهم هجوما ... ترى وثب القلاع على القلاع

وهل عربية هذا أخوها ... تراع إذا دعا للحرب داع

السيد إلياس قنصل شاعر عربي يقيم في مدينة بوينس إيريس عاصمة الأرجنتين له في يدنا ديوان السهام، وهذا الديوان مصدر بمقدمة صاحبه يرجع لها الفضل في دراستنا لنفسية الشاعر لأنها وصفت لنا هذه النفسية القوية أجمل وصف؛ كما صورها لنا سعر الديوان أجمل تصوير

أعجبنا في هذا الشاعر ثقته بنفسه وثقته بأمته فهو يعتقد بأن في إمكان الأمة العربية أن تعد من نفسها قوة ترجع بها سؤددها وتهيأ لذاتها جبروتا يرد لها التالد من عزها، وهو لا يرى في قوة الغاصبين للوطن العربي إلا ضعفا بجانب اتحاد الأمة العربية وثقتها بنفسها واعتمادها على حقها، وهو واثق بقدرته على تحريك شعور الثقة بالنفس والاعتماد على الذات في نفسية الأمة بقصائدها لقوية التي يقذف بها في وجه الضعف والونى بلا شفقة ولا رحمة، وإنك لترى هذا الواثق بنفسه المؤمن بأمته، لا يقيم للفشل في الجهاد وزنا، فهو لا يخاف الفشل لأنه مؤمن بالنجاح، ولهذا فهو يدعو الأمة العربية بحرارة للجهاد في سبيل الحرية جهاداً لا يعتوره الخوف من الفشل ولا تخالطها الخشية من الكلل والملل. ومن حق هذا الشاعر علينا الآن أن نورد له هذه العبارة التي جاءت في مقدمة ديوانه موجهة إلى فريق الضعفاء من الأمة الذين يقفون من المؤمنين موقف اللائم اللاحي

(ليست حمية الشباب هي التي تدفعني إلى هذه الحماسة، ولكنه إحساس بالإرهاق الذي يعانيه وطني المفدى، وما هذه الجمرات المشبوبة حماسة - لو تعلمون - وإنما هي إيمان راسخ) ولا ننسى ونحن نولي هذا الشاعر إعجابنا بقوة عاطفته الوطنية أن نوجه إليه عتبنا لضعفه البلاغي الذي لو تنزه عنه شعره لجاء آيات بينات في القوة معنى ومبنى، ولنسمعه الآن ينشد نشيد المجد.

وإن ناصبتك الحرب دنياك كلها ... وحقك من ليل الحوادث غيهب

فلا تشك فالشكوى احتضار مخيب ... ولن يستحق النور شاك مخيب

بل استل من عالي إبائك مغمدا ... تغلغل فيه من مضائك كهرب

وكافح به صرف الزمان وقل له ... سأبعث فيك الرعب من حيث تهرب

ولنسمعه يخاطب شباب البلاد الناعمين بتوافه اللذات

هبوا الشباب التذاذا بالحياة أما ... في عالم المجد للذات ميدان؟

هذي الليالي التي تقضونها عبثا ... يبكي الإباء عليها وهو خجلان

يا حبذا لو رصدتم من شهودكم ... ساعاً بآي العلا والعز تزدان

إن البلاد إذا ضلت شبيبتها ... فكل آمالها فقد وخسران

وإليكم هذه القطعة الجميلة القوية من قصيدة له نظمها على لسان ثائر دمشقي يودع عروسه قبل الالتحاق بالثورة الكبرى

بلادي تدعوني إلى حومة الوغى ... ودعوتها الغراء أمر مقدس

فإن لم أكن في مطلع الجيش هاجما ... تمور بصيحاتي الأعادي وتوجس فلا أبهجت قلبي نسيمات دمر ... ولا ضمني في شامة الأرض مجلس

فراقك خطب منه بين جوانحي ... سهام يصاب الحزن والسهد تغمس

ولكن حمل الذل موت وعاره ... إزاء عواديه يضيع التحرس

وإلا فلا تبكي علي فإنني ... أموت قرير العين بالعز أهجس

وإليكم هذه القطعة القوية منتزعة من إحدى قصائده العامرة بالقوة

وما من أمة في الأرض لمت ... بغير السيف حقا بات يذري

وليس ينال الاستقلال إلا ... إذا سالت دماء القوم نهرا

وشعب يبتغيه دون جد ... لشعب سادر ما زال غرا

حمدي الحسيني