مجلة الرسالة/العدد 924/من الدراسات الأدبية
مجلة الرسالة/العدد 924/من الدراسات الأدبية
ابن الخلفة
للأستاذ عبد اللطيف الشهابي
من وراء زوايا التاريخ المهملة، ومن خلال صفحات المخطوطات القديمة، ومن خلف خزانات صدور شيوخ الأدب: تلوح أنوار مشرقة، وتطل صور زاهية، وتتراءى بدوات مشرقة، فتومض وميض الذكريات في خاطر الزمن؛ حاملة نفحات شذية، فاحت في الربع الأخير من القرن الثالث عشر للهجرة.
كانت مدينة (الحلة) حينذاك كعبة الرواد ومنهل الوراد من عشاق العلم والأدب والعرفان، وكانت الينبوع الرائق السلسبيل الذي يتهافت عليه الظامئون - كل حدب وصوب - لنهل تلك الرشفات الريا، التي كانت تفيض من عقول أدبائها الفطاحل بغزارة متناهية فيها كل طرفة ومتعة.
أما اليوم وا أسفاه؛ فإن أدباءها كادوا أن يتناسوا أن لهم من تاريخهم الفكري ما يضمن لهم نهضة أدبية رائعة في حاضرهم هذا الذي عصفت به الأهواء وطوحت به النزعات؛ وقد غرب عن بالهم أن لهم سجلا حافلا بأنواع الجهاد الفكري والعلمي في تاريخ مدينتهم هذه، ذلك السجل الذي يزخر بتراث أدبي لا يستهان به: ينتظر الجلاء والحك، ينتظر أن تمتد إليه يد العناية والاعتزاز، لتسجل جميع مظاهر حياته الفكرية، لئلا يشذ وينبو عن طابعه المتوارث، وحاضر محيطه المكتسب!!
فلو تصفحنا تاريخ الأمم الغريبة، لوجدناه يعتمد كل الاعتماد على ما جاء بتراثه الشعبي القديم؛ ويضعه موضع التقدير والإجلال. فهذه إنجلترا تقدس أغنيها الشعبية القديمة لما فيها من أمانة في التعبير، وصدق في الإيحاء، وجمال في التصوير فهي المرجع الأول عند دراسة نهضتها الأدبية الحديثة؛ بل هي الأساس المتين الذي بنى عليه أدباء إنجلترا صروح مجدهم الأدبي.
فالشعر الشعبي له طابعه الخاص، وله مميزاته وأساليبه وفنونه، وهو مرآة صادقة لحياة الجيل بكامله، بل إنه الصورة الحقيقية التي نعتمد عليها في دراسة ذلك العصر، بما فيه من ألوان وأشتات، فضلا عن أن للغته العامية (ديناميك) مجرى يستقر في النفس وفي الأعماق دون التواء أو مواربة. . فهي المدرسة الأولى لشحذ أذهان أبنائها، وتدرجهم إلى صفوف الكمال. . .
ويشترك الشعر الشعبي مع شعر القريض في قوة التعبير عن الخلجات والأحاسيس، كما يشاركه في الأوزان والقوافي والأغراض، وبكثرة عدد فنونه ومصطلحاته التي وضعها له أهل هذا الفن. . ومن بين مشاهير الفضلاء الذين نظموا في الشعر الشعبي: هو الأمام ابن الجوزي، وشمس الدين الكوفي، وأبو بكر ابن قزمان وغيرهم، كما نقل ذل كصاحب كتاب (ميزان الذهب) وابن خلدون في (مقدمته).
ولم يقتصر نظم الشعر الشعبي على الشعراء القدماء بل تعداه إلى مشاهر الشعراء المحدثين، كأمير الشعراء أحمد شوقي بك، وشاعر الشباب أحمد رامي - شيطان أم كلثوم! ولهما في ذلك قطع غنائية خالدة ملأت سمع الزمان رقة وعذوبة، وبذلك أضافا إلى الأدب العربي ثروة رائعة، كانت ولا تزال موضع تقدير وإعجاب من أبناء الضاد. . .
وفي هذا الفصل استعراض أمام القارئ صورة جميلة، أوشك الزمن بمروره أن يطمس معالمها ويذهب بروائها وآثارها، هذه الصورة المحببة إلى نفوس طائفة كبيرة من أدباء هذه العصر: تلك هي صورة حياة الشاعر الشعبي محمد بن إسماعيل الحلي، المعروف بابن الخلفة!
ولد الشاعر في مدينة الحلة عام 1247 هـ في محلة (الجامعين) وترعرع في مغانيها بين ظلال النخيل وشواطئ الأنهار، وشب في أحضان الطبيعة الساحرة، بين أهل العلم والأدب أمثال السيد حيدر بن السيد سليمان الحلي، والسيد صالح بن السيد مهدي المعروف بـ (الكواز)، وغيرهم مما لا يستطاع حصر عددهم. . . فظهرت شاعريته منذ نعومة أظفاره، وراح يرسل الأنغام عبر الفضاء الرحيب، مجنحات الرفيف الحلو والرنين المطرب. . . إلا أن البعض من شعره - كما سترى - تغلب عليه الألوان البيانية المتكلفة، ويشيع فيه الغلو والإغراق في الزخارف البديعية. .
كان - رحمه الله - ذكي القلب بارع النكتة؛ خفيف الروح، وفيا أبيا لم يتكسب بشعره، ولم يمتدح أحدا لا يستحق الإطراء والثناء، بل كان يتكسب من مهنته الخياطة التي كان يزاولها، إذ تدر عليه ما يسد رمقه وبقيه العوز والفاقة: لذا نراه قد جال جولات صادقة في جميع فنون الشعر الشعبي والقريض معا، منها (الموال) و (الركباني) و (البند). .
فاستمع إليه في (مواله) الشعبي الذي يزخر بالجناس والتورية، يقول فيه:
يا فاحم الليل جعدك والبدر ويهلك
النارا إلك نورهه وبضامري ويهلك
ييزي دلالك علي وتغنجك ويهلك
يا من بفتر العيون أرميتني والحاظ
يا مانعي شمتك ومسامرك والحاظ
واللي حظه بك حظه والماحظه والحاظ
بهواك من ذا وذا يعدم عليه ويهلك
وهاك استمع إليه في (موال) آخر، يقول فيه:
لواعجي يوم طار الشوك بظهورهن
والبيض أطون حزوم الطي بظهورهن
ونيت ون الطعين الكيض بظهورهن
كالن: علامك بروض الحسن شخصك فلا؟
والغيد يمك فلا تحظى بوصله فلا؟!
كلت: آنه شبه النياق اللي سرن بالفلا
ومن الظما موتن والماي بظهورهن
وهو بهذا الموال قد ضمن البيت المشهور القائل:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
وقد أحب شاعرنا عذراء من أهالي (القصيم) من ديار نجد واسمها (مي): وهي فتاة كاعب لم تبلغ الرابعة عشر من عمرها؛ فرقت نفسه، ودقت محبته، فأطلق لعواطفه العنان، وراح يسرف على روحه فيما يخضع له من تباريح الهوى وعذاباته، ولكن في ثياب من العفة والطهر والبراءة؛ فنظم (ركبانيته) المشهورة، قالها على لسان أهل القصيم. . فيقول فيها:
يا معتلي في كور هجنا تليعه ... ريض لشبدي بالنوى لا تليعه
قبل السرى يا هيه دونك ذريعه ... من مدنف في قيد الأشواق مرهون واستمع إليه وهو يخاطب صديقه الذي أوفده كرسول إلى حبيبته (مي) فيقول له:
وأمض لفتاة الحي والليل داجي ... عساك من صرف المجادير ناجي
عني نيابة يا فتى، لا تحاجي ... قلها: ترى يا (مي) خلفت مجنون
وبعد أن يرحل ذلك الرسول ويقوم بمهمته أحسن قيام، يعود إلى الشاعر بأخبار سارة، ويوصيه بالسفر إلى لقاء معشوقته. . وهكذا يمضي على هذا المنوال فينسج رائعته الشعبية التي يصف فيها قصة غرامه، وكيف راح متلصصا (كضيف الطيف مسترصدا)، ليزور حبيبته في غفلة من عيون الوشاة وآذان الحساد، وفي حذر وخوف من أهلها ذوي البأس والبطش. . وها هو الآن يلتقي بها في سكون الليل الهادئ. فاسمعه يقول:
مديت كفي حدر طي المبرم ... قالت: تهدى، قلت: أنا بك مغرم
من للوصل يا زينة العين حرم؟ ... والوصل مردين الهوى بيه يحيون
فتخاطبه:
خلي الترومه وانثنى اللثم ثغري ... وأنشق عبير حقاق غاص بصدري
لا تكثرن ضمي فأعوام عمري ... عشر وأربع ما عليها يزيدون
بكر بعد ما لوث الثوب نهدي ... ولا انقطف ورد زها فوق خدي
غيرك فما حصل سوى طول صدي ... ولا هلي بي بعض ريبه يظنون
وبعد أن يتزود من معبودته يودعها على مضض، فيقول:
ودعتها والدمع عاالخد سايل ... والجسم من عظم النوى بات ناحل
قالت: بنا لا تقطعون إرسايل، ... ناديتها: وانتوبنا لا تقطعون
وراح ابن الخلفة يبزغ نجمه رويداً رويداً، فاندفع يغشى مجالس العلم ونوادي الأدب، ويتصدر الحفلات والولائم، فذاع صيته وشاع، حتى تتلمذ له كثيرون، ساروا على منواله متلمسين خطاه. . وقد تأثر بشعر شعراء الموشحات في الأندلس والعراق، فأخذ يعب من رحيق ينابيعهم، ويقلد فنونهم في صياغة الموشحات ولكنه، وفي الأخير، برع في صياغة نوع آخر يسمى (البند) وأول من اخترع هذا النوع هم أهالي (الحويزة) وهو منوال غريب قد يخرج على أوزان الشعر، وقد يوافقها. ولا نخطئ إذا قلنا إنه قريب الشبه من النثر المسجع، أو الشعر المرسل؛ إلا أن الناظم لهذا اللون كان جل اعتماده على اللحن الموسيقي، حتى ولو خرج عن الأوزان العربية المعروفة، لأن الدافع الأول - كما قلنا - كان دافع الطرب، والتأثير على السمع ليس إلا!
وشاعرنا هذا: قد بز أقرانه وغلبهم في هذا المضمار. وله في ذلك ثلاثة (بنود) معروفة، فالبند الأول يصف به حصانه. والبند الثاني يصف فيه سفرته إلى (بغداد). والبند الثالث وهو المشهور يصف فيه حبيبته وصفا دقيقا، وهو بذلك يقلد صاحب (اليتيمة) وقد وشاه بألوان رائعة من اللفظ الأنيق من جودة الصياغة، وغزارة المعاني، تلك التي نتلمسها في كل صورة من صوره. ولو أننا نلاحظ فيه بعض التكلف في الصناعة، وبعض التعقيد في اللفظ، وهذا مما دفع به أن يحشر بين سطوره طائفة من الكلمات الغريبة، البعيدة كل البعد عن اللغة العربية الفصحى. . ولكن له العذر في ذلك، لأن طابعه الشعبي يغلب عليه في بعض الأحيان، فتفلت منه هذه السقطات فأصغ إلى ما يقول في هذا البند:
أيها اللائم في الحب
دع اللوم عن الصب
فلو كنت ترى حاجبي الزج ... فويق الأعين الدعج
أو الخد الشقيقي
أو الريق الرحيقي
أو القد الرشيق
الذي قد شابه الغصن انعطافا واعتدالا،
فندا يورق لي آس عذار أخضر
دب عليه عقرب الصدغ،
وعرنين حكى عقد جمان يقق
قدره القادر حقا ببنان الخود ما زاد عن العقد،
وثغر أشنب قد نظمت فيه لآل لثناياهن
في سلك دمقس أحمر
جل عن الصبغ
وجيد فضح الجؤذر مذ روعه القانص فانصاع ودين الود
يزجي حذر السهم طلا عن متنه
في غاية البعد،
فلو تلمس من شوقك ذاك العضد المبرم
والساعد والمعصم
والكف الذي أنمله قد شاكلت أقلام ياقوت
فكم أصبح ذو اللب، من الحب، بها حيران مبهوت؟
لو شاهدت في لبته يا سعد مرآة الأعاجيب
عيهلا ركبا حقا عاج حشيا من وائق الطيب،
أو الكشح الذي أصبح مهضوما نحيلا
مذ غدا يحمل رضوى كفل
بات من الرص ... كموار من الدعص
ومرتجى ردفين
عليها ركبا من ناصع البلور ساقين،
وكعبين أدرمين
لها صيغ من الفضة أقدام:
لما لمت محبا في ربى البيد من الوجد بها هام!
أهل تعلم أم لا؟ ... أن للحب لذاذات
وقد يعذر لا يعذل من فيه غراما وجوى مات
فذا مذهب أرباب الكمالات
فدع عنك من اللوم زخاريف المقالات،
فكم قد هذب الحب بليدا؟!
فغدا في مسلك الآداب والفضل رشيدا،
صه. . فما بالك أصبحت غليظ الطبع؟!
لا تعرف شوقا لا ولا تظهر توقا
لا ولا شمت بلحظيك
سنى البرق اللموعي الذي أومض من جانب أطلال
خليط عنك قد بان
وقد عرس في سفح ربي البان،
ولا استنشقت من صوب حماه نفحة الشيح
ولا اهتاجك يوما للقاه من جوى وجد وتبريح،
لك العذر
على أنك لم تحظ من الخل بشم وعناق
وبضم والتصاق،
لو تكن مثلي قضيت ليال
سمح الدهر بها، إذ بات سكرى قرقف الريق، بتحقيق،
فما قهوة إبريق!!
ومشمومي ورد، لاح
من وجنة غد، فاح
لي عرف شذاه،
وإذا أسفر ليل الشعر في طرته
أوضح من غرته
صبح سناه،
لو ترانا كلنا يبدي لدى صاحبه العتب
ويخفي فرط وجد كامن أضمره القلب سحيرا؛
والتقى قمصنا ثوب عفاف قط ما دنس بالإثم
سوى اللثم:
لأصبحت من الغيرة في حيرة
حتى جئت لي من خجل تبدي اعتذارا ولأعلنت بحب الشادن الأهيف سرا وجهارا!.
إلى هنا يصل ابن الخلفة في (بنده) ثم يعرج به إلى مدح الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد عليهما السلام، ولنقتطف إلى القارئ صورة واحدة في هذا المديح. . يقول فيه:
يمير الخلق بالرفد ... ببذل زائد الحد
وقد جل عن الند
وقد فاق على النور شذاه
وعلى البدر سناه!.
هذه لمحة موجزة من حياة الشاعر المنسي، الذي توفي رحمه الله - سنة 1297 هـ، في بداية تفشي مرض الطاعون المشهور في الحلة، ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف ليدفن هناك. .
العراق - الحلة
عبد اللطيف الشهابي