مجلة الرسالة/العدد 925/فتح القسطنطينية

مجلة الرسالة/العدد 925/فتح القسطنطينية

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 03 - 1951



الدكتور سالم أحمد الرشيدي

(لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك

الجيش)

حديث شريف

تحتل مدينة القسطنطينية موقعا فريدا بين مدن العالم، وحسبك أن تلقى نظرة عليها في الخريطة فتدرك ذلك. فهي تقع عند ملتقى القارتين آسية وأوربا، تحيط بها البحار من ثلاث جهات. وقد حبتها الطبيعة خصوبة الأرض وجودة الطقس كما حبتها أسباب القوة والمتعة. وللقسطنطينية ميناؤها العظيم في القرن الذهبي الذي كان يعد أوسع وآمن ميناء في العالم. وكانت هذه المدينة فوق ذلك كله مركزا عظيما للتجارة، تأتى إليها المتاجر من كل صوب من البر والبحر. وقد نوه نابليون بونابرت بوجه خاص في العصور الحديثة بأهميتها وخطورتها فقال في شأنها (لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها). وذكر نابليون في مذكراته التي كتبها في منفاه بجزيرة سانت هيلين أنه حاول مرات عدة الإنفاق مع روسيا على اقتسام الإمبراطورية التركية، ولكن وقفت القسطنطينية في كل مرة العقبة الكؤود دون الاتفاق. فقد كانت روسيا تلح في امتلاكها ونابليون يصر على عدم تسليمها إذ أن هذه المدينة وحدها كانت في نظره تساوي إمبراطورية. وهي تعد بمثابة مفتاح العالم، من استولى عليها استطاع أن يسيطر على العالم بأجمعه. وقد كان نابليون في أشد الحاجة إلى صداقة روسيا لمواجهة عدوته اللدود إنجلترا؛ ولكنه برغم ذلك لم يستطع أن يضحي بالقسطنطينية. ولو قد تم الاتفاق بين نابليون وروسيا على مصير المدينة لتغير مجرى تاريخ أوربا وتغير تبعا لذلك مجرى تاريخ العالم كله

وقد أدرك الغزاة والفاتحون منذ القدم أهمية هذه المدينة وخطورة موقعها فحاولوا الاستيلاء عليها وحاصروها مرات كثيرة. غير أن هذه المدينة استطاعت بمناعة موقعها وقوة حصونها أن تصد معظم الغزاة الفاتحين وكان للمسلمين نصيب كبير من هذه المحاولات، وقد وردت أحاديث كثيرة تبشرهم بفتح القسطنطينية منها قوله عليه الصلاة والسلام (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) الأمر الذي زادهم تعلقا وأملا في فتح هذه المدينة. وقد حاول المسلمون فتحها منذ أيام الخليفة عثمان بن عفان واستشهد تحت أسوارها الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري في عهد معاوية بن أبي سفيان. وهكذا أصبحت القسطنطينية - إلى جانب أهميتها الإستراتيجية والاقتصادية - أهمية دينية خاصة في نظر العثمانيين الذين حملوا لواء الإسلام والجهاد في سبيله بعد استقرار دولتهم الجديدة في آسيا الصغرى في بداية القرن الرابع عشر الميلادي. وقد أدرك عثمان أول سلاطين الدولة العثمانية - كغيره من الفاتحين قبله وبعده - قيمت هذه المدينة وعظم قدرها ولكنه لم يكن إذ ذاك قد بلغ من القسوة ما يقدر به على فتحها فأوصى بذلك من يأتي بعده. وقد حاصرها السلطان بايزيد الأول والسلطان مراد الثاني ولكنهما لم يصلا إلى فتحها حتى جاء السلطان محمد الفاتح فاستطاع - بما أظهره من أحكام القيادة وحسن التنظيم وسرعة الخاطر وقوة العزيمة وقوة المصابرة والجلد والتفنن في ابتداع آلات الحصار والقتال - أن يصل إلى فتح هذه المدينة، وحقق بذلك حلم الفاتحين منذ ألف عام كما حقق البشارة النبوية الكريمة بفتح القسطنطينية

وقد أوصى السلطان الفاتح جنوده عند دخولهم هذه المدينة بإتباع تعاليم الشرع الحنيف فلا يقاتلون إلا من قاتلهم ولا يعرضون للنساء والأطفال والعجزة بسوء أو أذى؛ ويحسنون من يقع في أيديهم من الأسرى وأن يكونوا أهلا للشرف العظيم الذي حباهم به الرسول (ص) في حديثه.

وباستيلاء المسلمين على القسطنطينية قضى على ما كان يستحر فيها من المنازعات والمشاحنات الدينية التي طالما أثارت الفتنة وأراقت الدماء؛ وحرم السلطان الفاتح اضطهاد النصارى تحريما قاطعا ولم يميز في تسامحه ومعاملته بين أحد منهم على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم بل جعلهم كلهم سواء وأضلهم جميعا بعدله ورعايته. وقد طلب إليه بعض الجهلة المتعصبين قتل الروم وإبادتهم وإذا لم يدخلوا في الإسلام فأبى عليهم ذلك وقال أنه يخالف تعاليم القرآن وأذن للروم بانتخاب بطريركهم الجديد بنفس المراسم الفخمة التي كانت تتبع في عهد الأباطرة الأول. وقد أحتفي به السلطان الفاتح وأعظم لقياه وبالغ في تكريمه. ولكن مؤرخا إنجليزيا اللورد إيفرسلي قد استنتج من هذا التسامح أنه دليل على أن العثمانيين في فتوحاتهم بأوربا لم يكونوا يقصدون إلى نشر الإسلام. وهو استنتاج خبيث المرمى والغرض إذ معناه أن الإسلام قبل ذلك لم ينتشر بالتسامح والاختيار، وإنما نشر بالسيف والإكراه ولو أن هذا اللورد الإنجليزي قد شدا شيئا في تاريخ الإسلام لعلم أن هذا الدين في مختلف عصوره وعهوده لم يفرض قط على أحد من الناس. ويقول السير توماس أرنولد إن مدينة القسطنطينية بعد الفتح العثماني الإسلامي أصبحت ملجأ العالم كله، يأمن فيه الخائف والمذعور ويطمئن فيه المضطهد والمظلوم وينال في جميع الناس العدل والمساواة والحرية على قدر سواء لا تميز بين غني وفقير ولا بين عظيم وحقير. فكان فتح القسطنطينية بحق مفخرة من مفاخر الإسلام التي ترهى بها التاريخ ومجدا من أمجاده الخالدة الباقية على الدهر

لقد كان لسقوط القسطنطينية في يد الأتراك العثمانيين (في العشرين من جمادي الأولى سنة 857هـ 29 مايو 1453) دوي عظيم في العالم ولكن اختلف وقعه وأثره في الغرب عن وقعه وأثره في الشرق. أما النصارى في الغرب فقد صعقهم نبأ هذا الحادث وتملكهم الفزع والألم والخزي وتجسم لهم خطر المسلمين وتهديدهم لأوربا النصرانية وتوجوا أن يكون انتصار محمد الفاتح بداية لتوغله في أوربا فأخذوا يتتبعون خطواته وحركاته بقلق واهتمام وعظمت في أعينهم أهمية القسطنطينية وخطورة قيمتها. وأزداد الأتراك العثمانيون شهرة في الناحية العسكرية بعد استيلائهم على هذه المدينة المنيعة الخالدة. وقال حاكم مدينة غلطه في رسالة كتبها بعد فتح القسطنطينية بنحو شهر إن السلطان محمد الفاتح، يهدف إلى أن يكون سيد العالم وأنه قبل أن تمضي سنتان سيزحف إلى روما. وعبر كتاب معاصرون آخرون عن مثل هذا الفزع. وخطب إينياس سلفيوس (الذي صار فيما بعد بابا باسم بي 2) أمام ندوة فرانكفورت يقول: إن سقوط القسطنطينية قد جعل المجر مفتوحة أمام محمد الفاتح وإذا ما خضعت له هذه البلدة انفتحت له الطريق لغزو إيطاليا وألمانيا. وبعث أحد شعراء النصرانية في الشرق بقصيدة طويلة إلى العالم النصراني يهيب به إلى قتال الأتراك وحث البابا نيقولا الخامس أن يعمل على توحيد كلمة أمراء النصرانية وتوجيه جميع جهودهم وقواهم لقتال العدو المشترك ثم ابتهل الشاعر إلى العذراء، ودعا أن يكتب النصر لقومه

والحق أن النصارى في الغرب قد انبعث فيهم نوع من الروح الصليبية القديمة وتداعى الناس إلى طرح الخلافات والحزازات والاتحاد ضد الأتراك. وعنف الكاردينال سنت أنج اللاتين وقرعهم على تخاذلهم عن نجدة الروم وألقى عليهم تبعة هذه الكارثة العظيمة. وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثرا بنبأ سقوط القسطنطينية في يد الأتراك وجد في توحيد الدول الإيطالية وتأليها على قتالهم. ورأس مؤتمر في روما أعلنت فيه الدول المشتركة عزمها على التهادن فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقواها ضد العدو المشترك

وكان من أعظم الناس تأثيرا باستيلاء الأتراك العثمانيين على القسطنطينية فيليب الطيب دوق بور غويا وقد كان هذا الدوق بطبعه ذا نزعة صليبية قوية ومن أشد الناس تحمسا لقتال الأتراك من قبل سقوط القسطنطينية، فلما استولى هؤلاء على هذه المدينة وجاء رسول البابا سنة 1453 يستحثه على قتال محمد الفاتح التهب حماسا وحمية واستنفر جميع النصارى إلى هذا القتال وذهب بنفسه إلى ألمانيا يستنهض إمبراطورها فريد ريك الثالث. وبعث هذا الإمبراطور بدوره إلى ملك فرنسا شارل السابع كما بعث إليه في نفس الوقت الملك ألفونس يحثانه على حرب السلطان محمد الفاتح، ولم يلبث أن تحولت الفكرة الصليبية من قتال الأتراك العثمانيين إلى قتال جميع المسلمين وغزو جميع بلادهم إمعانا في الانتقام وأخذ الثأر لمدينة القسطنطينية. يقول المؤرخ المصري المعاصر أبو المحاسن ابن تغري بردي (وفي هذا الشهر (ربيع الآخر 861هـ مايو 1457م) وردت الأخبار من الإسكندرية وغيرها من بلاد الساحل أن الفرنج عمرت نحو ثلثمائة مركب لغزو سائر سواحل الإسلام من الروم إلى الإسكندرية ودمياط مكافأة لأخذ السلطان محمد بن عثمان استنبول من الفرنج خزاهم الله فلم يلتفت السلطان إلى هذا الخبر لعزة شوكة الإسلام ونصرته إن شاء الله إلى يوم القيامة) وقد أرسل الغرب النصراني فعلا فيما بعد حملات حربية إلى الشرق ولكنها كانت محدودة الأثر لم نتعد تخريب بعض المدن الساحلية في آسيا الصغرى

وذلك ما كان من حال النصارى في الغرب وموقفهم بعد فتح القسطنطينية. أما في الشرق الإسلامي فقد كان الأمر على عكس ذلك، إذ عم الفرح والابتهاج بين المسلمين في ربوع آسيا وأفريقيا، لهذا الفتح الإسلامي العظيم. وما أن وصل رسل السلطان محمد الفاتح إلى مصر والحجاز وفارس يحملون نبأ هذا الفتح حتى هلل المسلمون وكبروا وأذيعت البشائر من منابر المساجد وأقيمت صلوات الشكر وزينت المنازل والدكاكين والحوانيت وعلقت على الجدران والحوائط الأعلام والبنود المزركشة المختلفة الألوان وأمضى الناس في هذه البلاد أياما كأحسن ما تكون أيام الأعياد الإسلامية روعة ورونقا وبهاء.

وأي مسلم كان لا يغتبط وقد تحققت نبوءة كريمة لنبيهم الكريم بفتح القسطنطينية التي استعصت على المسلمين منذ الصدر الأول من الإسلام؟

وندع هنا المؤرخ المصري المعاصر الثقة أبا المحسن بن تغري بردي يصف لنا شعور الناس وحالهم في القاهرة بعد أن وصل إليها قاصد السلطان ورفقته في الثالث والعشرين من شوال سنة 857 (27 أكتوبر 1453) بنبأ فتح القسطنطينية ومعهم الهدايا وأسيران من عظماء الروم قال (قلت ولله الحمد والمنة على هذا الفتح المبين وجاء القاصد المذكور ومعه أسيران من عظماء استنبول وطلع بهما إلى السلطان (سلطان مصر الأشرف إينال) وهما من أهل قسطنطينية وهي الكنيسة العظمى باستنبول فسر السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم؛ ودقت البشائر لذلك وزينت القاهرة بسبب ذلك أياما، ثم طلع القاصد المذكور وبين يديه الأسيران إلى القلعة في يوم الاثنين خامس وعشرين شوال بعد أن أجتاز القاصد المذكور ورفقته بشوارع القاهرة وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن وأمعنوا في ذلك إلى الغاية وعمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل. .) ويقول ابن تغري بردي في موضوع آخر (ثم طلع قاصد ممتلك بلاد الروم ورفقته إلى القلعة من غير أن يحظر القضاة وتمثلوا بين يدي السلطان وقدموا ما معهم من الهدية التي أرسل بها رسلهم (عدد ابن تغري بردي هذه الهدايا وذكر أنواعها وهي كثيرة) فقبلها السلطان ثم رحب بها ثم أنزل إلى محل إقامته ومعه رفقته وهم يتفرجون في الزينة وكانت عظيمة واستمرت أياما وتغالى العوام في شأنها مع استمرار دق البشائر في صباح كل يوم أياما)

وهذا الذي ذكره ابن تغري بردي من وصف احتفال الناس وأفراحهم في القاهرة بفتح القسطنطينية ما هو إلا صورة لنظائر لها قامت في البلاد الإسلامية الأخرى. وقد سجل لنا المؤرخ التركي فريدون بك في كتابه (مجموعة منشآت السلاطين) الكتب التي تبودلت بمناسة هذا الفتح العظيم بين السلطان محمد الفاتح وبين سلطان مصر وغيره من ملوك المسلمين وأمرائهم وهي تكشف لنا عن نوع العلاقات القائمة في ذلك العهد بين هذه الدول الإسلامية المتجاورة وكانت تفيض بحسن المودة وصدق الإخاء والصفاء

وبعد، فإن المسلم ليدخل اليوم في مسجد السلطان محمد الفاتح باستنبول فيكون أول ما يروعه من هذا المسجد جبينه المتبلج وقد نقش عليه هذا الحديث الكريم (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) فتخشع نفسه ويخفق قلبه وتطوى في ذهنه آماد الزمن وتمر به الذكر بين محمد بن عبد الله الذي أنطقه الوحي بهذا الحديث وبين محمد الفاتح الذي حقق هذا الحديث فلا يملك إلا أن يقول: سبحانك ربي، أية معجزة قد تمت!

الدكتور سالم أحمد الرشيدي