مجلة الرسالة/العدد 926/القصص

لعناوين أخرى، أنظر الميتة (موباسان)

مجلة الرسالة/العدد 926/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 04 - 1951



ليلة في مقبرة

عن جي دي موباساق

بقلم الأستاذ رمزي مزيغيت

لقد أحببتها حب جنوني. . ولا تسلني لماذا يحب المرء، وهو إذا ما أحب تغيرت حاله وبات لا يرى من الناس إلا شخصا واحدا، ولا يختلج قلبه إلا برغبة واحدة، ولا تهمس شفتاه إلا اسما واحدا يتصاعد من أعماق الروح كما تتصاعد المياه من الينابيع. . اسما واحدا يردده العاشق على الدوام ويهمس به حيثما كان كالصلاة.

سأروي لك قصة حبنا، وما قصتنا إلا قصة الحب الخالدة التي لا تتغير أبدا الدهر. .

لقد قابلتها يوما وأحببتها. . هذا كل ما جرى. . ثم عشت معها حولا كاملا ذقت خلاله صفو الحياة وانطلقت بدنيا الحب ألحق بأجواء الغرام، أغرد في أنس وأسكن في أمن. . فكان لي من حبها دنيا جعلتني سعيدا خليا لا أبالي بمقامي أو مآلي. .

ثم ماتت. . كيف ماتت. . لست أدري. .!؟ كل ما أعلمه أنها عادت إلى البيت ذات ليلة ماطرة مبللة الثياب. وفي اليوم التالي انتابتها نوبة من السعال أخذت حدتها تشتد يوما بعد يوم. ومضى أسبوع على هذا الحال فلزمت الفراش. . أما ما حدث بعد ذلك فلا أذكر منه إلا أن الأطباء حضروا وفحصوا الداء ووصفوا الدواء، وجاءت بعض النسوة لرعايتها وتمريضها. . كانت يداها ملتهبتين وجبينها يشتعل نارا وعيناها لامعتين حزينتين، وكنت أحدثها وتحدثني. . أما ماذا كنت أقول وماذا كانت تجيب فلست أدري. . فقد نسيت كل شيء. . ولست أذكر سوى أنها ماتت، وسوى تلك الآهة الواهنة التي انفلتت من بين شفتيها ساعة انطلقت روحها إلى بارئها.

وحضر الكاهن وسمعته يقول لي. . (أهذه خليلتك؟) فخيل إلي أنه يسيء إليها وينتهك حرمة الموت فطردته شر طرد، وجاء غيره وكان وقورا طيبا، فراح يحدثني عنها بلطف واحتشام ومقلتاي تهرقان الدمع مدرارا. .

وجاء المشيعون، وأودعوها نعشها، وثبتوا غطاءه بالمسامير ثم حملت إلى المقبرة - مثواه الأخير - وواروها في جثوة ضيقة عميقة باردة. . وأذكر أني هربت، ورحت أعدو من شارع إلى شارع كمن به مس من الجنون، حتى بلغت البيت. . وفي اليوم التالي رحلت.

وقد عدت يوم أمس. . ولما دخلت غرفتها ورأيت أثاثها وكل ما خلفته وراءها مر بخاطري شريط متتابع الصور من الأمس الحبيب، فعاودتني الأحزان وعصرت قلبي عصرا، وشعرت برغبة ملحة في أن أقذف بنفسي من النافذة. .

ولم أستطيع البقاء بين تلك الأشياء وبين تلك الجدران التي كانت تحتويها، فقد كنت أشعر بأنفاسها مازالت عالقة بجو الغرفة. . فاختطفت قبعتي واندفعت هاربا. . وفي طريقي إلى الباب مررت بالمرآة الكبيرة القائمة في البهو - تلك المرآة التي وضعتها هي هنا لتتأمل فيها نفسها وتصلح من شأنها كلما أزمعت الخروج.

واقتربت من تلك المرآة التي طالما انعكست صورتها على صفحتها، وخيل إلي أنها مازالت هناك. . فانتابتني الرعدة وجرى في جسدي تيار بارد، وتعلقت عيناي بالمرآة - ذلك الزجاج المنبسط الفارغ الذي طالما احتواها وملكها بكليتها كما ملكتها يوما وملكتها عيناي. . وشعرت كأني أحب ذلك الزجاج الأملس فمددت يدي إليه فإذا هو بارد لا حياة فيه. . آه منك أيتها المرآة الفارغة الرهيبة! وآه من تلك الأحزان القاتلة التي تبعثينها في قلوب الرجال!

سعيد ذلك الرجل الذي يستطيع أن ينزع من قلبه كل ما احتواه ويسدل على أمسه سترا ويكفن ماضيه ويواريه حفرة نائية، يا إلهي لشد ما أتعذب.!

وخرجت من البيت دون ما شعور أو تفكير ورحت أضرب في شوارع المدينة على غير هدى، حتى وجدتني أتجه إلى المقبرة. . وهناك وجدت قبرها البسيط وعليه صليب أبيض من الرخام حفرت عليه هذه الكلمات: -

(أحبت وأحبت، ثم ماتت). . .

نعم ماتت، وهاهي هنا تحت الثرى وقد تعفنت وحالت إلى تراب. . يا لله. . وبكيت طويلا ورأسي مسند إلى قبرها. . ثم بدأ الظلام يرخي سدوله. واكتسحتني رغبة جنونية - رغبة العاشق اليائس - في أن أقضي آخر ليله بجانب قبرها. ولكني خشيت أن يبصر بي أحدهم، فما العمل.؟ ليس أمامي إلا الحيلة. . فرحت أتجول في مدينة الموتى وأتنقل من هنا إلى هناك. . ولشد ما بدت لي هذه المدينة صغيرة بالنسبة لمدينة الأحياء. . ولكن ساكنيها ولا شك أكثر عددا وعديدا. . ومع ذلك فهم يقنعون بهذه البيوت الوضيعة بينما نحنو الأحياء نطلب القصور العالية والشوارع الواسعة والمأكل الشهي والمشرب العذب، لنعود في النهاية إلى التراب وننظم إلى أجيال الموتى التي سبقتنا؛ ويطوينا المجهول وإياها بردائه.

وقادتني قدماي إلى طرف المقبرة حيث تقوم القبور القديمة المتآكلة الصلبان والتي حالت أجساد ساكنيها إلى تراب لا يلبث أن يصبح مهدا للمزيد من الأموات. . وكانت الأزهار في هذا الركن تقف على سيقانها سقيمة الحسن ذاوية البهجة.

ولا عجب، فأنها ترتوي من ماء الأبدان. . ولم يكن في هذا الجزء أحد من الأحياء، فتسلقت شجرة عتيقة واختبأت بين أغصانها، ومكثت هناك طويلا متعلق في جذع الشجرة كما يتعلق الغريق بحطام السفينة.

وأخيرا نفض الليل على المكان حالكات نقابه، فنزلت من مخبأي وأخذت أسير ببطء وحذر فوق تلك الأرض المليئة بالموتى. . وتجولت بين القبور دون أن أهتدي إلى قبرها. . فسرت باسطا ذراعي أمامي أتحسس طريقي، ولكني لم أعثر على قبرها. . وأعدت الكرة فلم أترك شيئا إلا ولمسته. . الصلبان والأحجار والأسوار الحديدية وأكاليل الزهر الاصطناعية وأكاليل الزهر الذابلة اليابسة، وقرأت أسماء أصحاب القبور بأطراف أصابعي، ولكن دون جدوى. . يالها من ليلة. . فقد كانت ليلة ضريرة النجم والقمر، ملأت قلبي رعبا وفزعا وأنا أتنقل في الممرات الضيقة بين القبور. ولم يكن هناك سوى قبور. قبور في كل مكان. . ومن ثمة جلست على واحد منها بعد أن نال مني التعب وتملكني اليأس. وكنت أسمع دقات قلبي بوضوح وأنا جالس هناك وحيدا مرتعدا. . ثم طرق أذني صوت آخر غامض انبعث من جوف الظلام أو باطن الأرض المزروعة بأجداث الموتى. . فتلفت حولي وأنا أكاد أختنق من الخوف والرعب. وفجأة شعرت أن السطح الرخامي الجالس فوقه قد أخذ يتحرك كأن يدا تدفعه. . فوثبت إلى قبر مجاور ونظرت إلى القبر الذي كنت جالسا عليه فرأيت الحجر يرتفع ومن تحته هيكل بشري يدفعه بظهر متقوس وبرغم الظلام الحالك فقد كنت أراه بوضوح، وقرأت على صليب قبره هذه الكلمات - (هنا يرقد جاك أوليفانت الذي توفى عن 51 عاما وكان محب لأسرته لطيفا شريفا، ومات في محبة الله.)

وقراء الهيكل أيضا ما كان مكتوب على قبره ثم انحني والتقط حجرا صغيرا مدببا وراح يمسح ما كتب عنه بكل عناية حتى طمسها جميعا، وأخذ ينظر إلى ما فعل من محجريه الأجوفين. . وبخط أشبه بما يكتبه الأطفال على الجدران بالطباشير راح يكتب بعظمة إصبعه هذه الكلمات (هنا يرقد جاك أوليفانت الذي مات عن 51 عاما، ولقد عجل بوفاة والده بسبب معاملته الفظة وطمعه في الحصول على الإرث. . وكان يعذب زوجته وأولاده ويخدع جيرانه ويسرق، وفي النهاية مات تعيسا شقيا)

وبعد أن فرغ الهيكل من كتابته أنتصب بعظامه يحدق فيما خطت يده، وعندما تحولت بنظري عنه شاهدت أن جميع القبور قد فتحت وانسلت منها هياكل ساكنيها وراح كل منهم يمسح ما كتب الأقارب والخلان على صليبه ويكتب مكانها بنفسه ما يعرف عن حقيقة نفسه. ولشد ما كانت دهشتي حين تبين لي أنهم كانوا جميعا كذابين منافقين، حاسدين أفاقين، معذبين لأزواجهم وخادعين لجيرانهم، سارقين، ارتكبوا كل منكر وشائن. . . كانوا جميعا الآباء الطيبون منهم والزوجات الوفيات والأبناء البررة والبنات العفيفات والتجار الأمناء، يكتبون على عتبات مثواهم لأبدي حقيقة أنفسهم المروعة تلك الحقيقة التي لم يكن أحد غيرهم يعرفها أو كان يعرفها ويتجاهلها عندما كانوا أحياء يرزقون.

وخطر لي عند إذن ربما تكون هي الأخرى قد كتبت حقيقة نفسها فرحت أعدو بين القبور المنشورة وسط الهياكل والأجداث إلى حيث يوجد رمسها. ولم أجد صعوبة في الاهتداء إليها هذه المرة، وعرفتها في الحال رغم اختفاء وجهها تحت ملاءة بيضاء. . وعلى الصليب الرخامي حيث قرأت منذ حين (وأحبت ثم ماتت) طالعتني هذه الكلمات - (خرجت ذات يوم غزير المطر لتخون حبيبها فأصيبت بنزلة برد وماتت. .) ويبدو أنهم عثروا علي فجر اليوم التالي ملقى على القبر مغشيا علي. .

رمزي مزيغيت