مجلة الرسالة/العدد 926/ الفارابي

مجلة الرسالة/العدد 926/ الفارابي

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 04 - 1951


1 - الفارابي

في العالم الإسلامي وفي أوربا

بمناسبة مرور ألف عام على وفاته

للأستاذ ضياء الدخيلي

يقول الأستاذ (كارادفو) في ترجمة للفارابي في دائرة المعارف الإسلامية: (ومذهب الفارابي هو مذهب الفلسفة أعني الأفلاطونية الجديدة الإسلامية الذي بدأ، من قبله الكندي ووجد في كتب ابن سينا من بعده أكمل عبارة عنه، وقد يكون من الراجح أن الفارابي يخالف الكندي وابن سينا في بعض المواضع ولكن من العسير تعيين هذه المواضع، ومن المناسب التحفظ بل الشك في تفسير ما يتعلق بتفصيل مذهبه. والواقع أنا لا نعرف من آثاره إلا قليلا. ثم إن أسلوبه لا يخلو من غموض وفيما عرفنا من رسائله ما هو مصوغ بصورة حكم في نهاية الإيجاز من غير نظام في ترتيبها ثم إنه لا يمكن البت عن يقين بأن مؤلفات كثيرة كمؤلفات الفارابي يتداولها تأثير أرسطو وأفلاطون وأفلاطين تتجرد من التناقض. على أن الفكرة التي تعتبر قاعدة لهذا المذهب وهي التوفيق بين أرسطو وأفلاطون من ناحية، وبين هذه الفلسفة الملفقة والعقيدة الإسلامية من ناحية أخرى ليست في نفسها سليمة من التضارب).

ويرى الأستاذ مصطفى عبد الرزاق أن الفارابي من خير المفسرين لكتب أرسطو خصوصا في المنطق وآثاره في هذا الباب هو الذي جعله يستحق التلقيب بالمعلم الثاني إذ كان أرسطو هو الأول. هذا هو رأي بعض المؤرخين ومنهم (كارادفو)

إن فضل الفارابي لا ينتهي عند تفسير كتاب أرسطو وتصحيح تراجمها والتمهيد بذلك للنهضة الفلسفية في الإسلام التي تكاملت من بعده بل إن له أيضا أنظارا مبتدعة وأبحاثا في الحكمة العملية والعلمية عميقة سامية لم تتهيأ بعد للباحثين الوسائل لتفصيلها تفصيلا وافيا. وللفارابي كتاب في المدينة الفاضلة كما أن لأفلاطون كتابا في الجمهورية الفاضلة. والفارابي هو أول من عنى بإحصاء العلوم وترتيبها في كتابه (إحصاء العلوم) الذي نشره سنة 1931م الدكتور عثمان أمين مدرس الفلسفة بكلية الآداب ووضع له مقدمة طيبة وعنى بنشره المستشرق الإسباني (بلانسيا) في سنة 1934 ومن أجل ذلك يعتبر بعض الباحثين أبا نصر أول واضع في العالم لنواة دوائر المعارف. ولئن كانت الأجيال تهتف باسم الفارابي منذ ألف عام في الشرق والغرب فإنه قد استحق ذلك بما وهب حياته لخدمة العلم والحكمة وبما ترك من أثر في تاريخ التفكير البشري وفي تاريخ المثل العليا للحياة الفاضلة. ويرى الأستاذ جرجي زيدان معنا أن الفارابي كان أصلا للموسوعات العربية فقد قال في كتابه (تاريخ الآداب العربية) عندما عد كتاب الفارابي (وكتاب إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها وهو من قبيل موسوعات العلم لأنه يشتمل على عدة علوم؛ منها نسخة خطية في الأسكوريال؛ وله ترجمة عبرانية وأخرى لاتينية. وبهذا الكتاب عد الفارابي من مؤسسي الموسوعات العربية وسنعود إلى ذلك) وفي عودته إلى الموضوع قال (إنه في العصر العباسي الثالث أخذت الموسوعات (دوائر المعارف) في الظهور بعد أن وضع أساسها الفارابي. وإن كتاب الفارابي القيم (إحصاء العلوم) قد ترجمه (جرادو دكريمونا إلى اللاتينية، وهو عالم إيطالي ولد في (كريمونا) من مدن إيطاليا الشمالية سنة 1114م ومات بها سنة 1187م؛ وبمدينة طليطلة من أعمال الأندلس عنى بنقل أهم كتب العرب العلمية إلى اللغة اللاتينية ونال بذلك شهرة عظيمة وترجم أكثر من سبعين كتابا من كتب الهيئة وأحكام النجوم وهندسة والطب والطبيعة والكيمياء والفلسفة).

وقد كان كتاب إحصاء العلوم مفقودا كما ذكر المستشرق الإيطالي الشهير (السنيور كرلو نلينو) الأستاذ بالجامعة المصرية سابقا وبجامعة بلرم بإيطالية حيث أفاد في كتابه (علم الفلك وتاريخه في القرون الوسطى) أنه عندما أراد الرجوع إلى كتاب الفارابي (إحصاء العلوم) للتعرف إلى ما كان يقصد كتاب العرب بعلم الهيئة قال (أبتدئ بما قاله الفيلسوف الكبير أبو نصر الفارابي (المتوفي سنة 339هـ 950م) في كتاب له في إحصاء العلوم فقد أصله العربي فلم أقف على ما فيه إلا بواسطة ترجمته اللاتينية لجرادو دكريمونا الخ) ثم يقول (نلينو) زهت بمدينة البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري أي بعد وفاة الفارابي بسنين قليلة جمعية فلسفية سمت أعضاءها (إخوان الصفاء) ومن أعمالها وضع مجموع اثنتين وخمسين رسالة (52) مشهورة برسائل (إخوان الصفاء وخلان الوفاء) وكل رسالة تتبين فيها مبادئ فن من فنون العلم. وأقول معلقا على ما نقله هذا المستشرق الإيطالي وإذن فإن عهد الفارابي كان من عهود ازدهار الفلسفة الإسلامية. ولعل تلك الجمعية الفلسفية هي قبس من الروح الفلسفية التي أشاعها المعلم الثاني في بلاد الإسلام؛ ولعل موسوعتها (رسائل إخوان الصفاء) تقليد ومحاكاة لموسوعته (إحصاء العلوم) فقد تقدم أن بعض مؤرخي آداب اللغة العربية يعتبرونه من مؤسسي الموسوعات أو هو المؤسس الأول الوحيد لها، ولم أنفرد برأيي هذا فقد اطلعت بعد سنوحه لي على ما كتبه مدرسان في كلية الآداب بمصر هما الدكتور إبراهيم بيومي مدكور ويوسف أفندي كرم إذ قالا في كتابهما اللطيف (دروس في تاريخ الفلسفة):

(تتلمذ للفارابي كثيرون ممن بهرهم بسيرته الصالحة وأخلاقه الوديعة واستولى عليهم بآرائه الناضجة وأبحاثه الدقيقة وقد تأثر به بوجه خاص طائفة من الباحثين هم أشبه بالجماعات السرية منهم بالمدارس العلمية المنظمة ونعني بهم (إخوان الصفاء) الذين لا زلنا نجهل الشيء الكثير عن تاريخ نشأتهم وتكونهم؛ الذين كانوا يمتون في أغلب الظن بصلة إلى الباطنية والإسماعيلية. ومهما يكن من أمرهم فمن المحقق أنهم نشئوا في القرن الرابع للهجرة فعاصروا الفارابي وأخذوا عنه؛ وإن تكن فكرتهم في الفلسفة أوسع مجالا من فكرته فما كانوا يقفون عند أفلاطون وأرسطو طاليس بل جاوزوهما إلى المدارس اليونانية (الأخرى) وهذا يبين عمق تأثير الفارابي في العقلية الإسلامية وحسبك أنه سحر ابن سينا على جلاله وكبريائه فأخذ يشدو بحمده ويعلن عن فضله عليه في تفهيمه علم ما بعد الطبيعة.

وقد تعددت نواحي عظمة الفارابي واختلفت وجوه عبقريته وكثرت أفانين معرفته فهو مرجع في كثير من العلوم غير الفلسفية فهذا نلينو المستشرق الإيطالي يرشد في كتابه (علم الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى) - من أراد أن يعرف آراء العرب في علم الفلك والهيئة إلى جملة كتب كان أولها كتاب (عيون المسائل) لأبي نصر الفارابي وهو مجموعة رسائل الفارابي المطبوعة بليدن سنة 1890م ثم بمصر سنة 1325هـ ثم إن الفارابي عرف بعلم الموسيقى وغيره مما سنعود إليه.

ولقد كانت شهرة الفارابي في أوربا ضاربة أطنابها على جامعاتها وساح ذكره في أقطارها. ويقص علينا الأستاذ فرح أنطون في كتابه (ابن رشد وفلسفته) عن مبدأ دخول الفارابي إلى أوربا أن الفضل في الشروع في ترجمة كتب الفلسفة العربية في أوربا إلى اللغة اللاتينية كان لرئيس أساقفة طليطلة (مونسنيور دريموند) فان هذا الأسقف أنشأ في طليطلة من سنة 1130م إلى سنة 1150م دائرة لترجمة الكتب العربية الفلسفية أخصها كتب ابن سينا إذ لم تكن كتب ابن رشد اشتهرت بعد. أما الكتب العربية الطبية والفلكية والرياضية وقد كان سبقه إليها كثيرون مثل قسطنطين الأفريقي وجربرت وأفلاطون دي تريغولي وقد جعل هذا الأسقف (الأرشيد باكردومينيك كوند بسالفي) رئيسا لدائرة الترجمة وكانت هذه الدوائر مؤلفة من مترجمين من اليهود أشهرهم يوحنا الإشبيلي فأخرجت إلى اللغة اللاتينية كثيرا من مؤلفات ابن سينا؛ وبعد بضع سنوات ترجم (جرار دي كريمونا) و (الفريد دي مولاي) بعض كتب لأبي نصر الفارابي والكندي وبذلك كانت أوربا مدينة لأسقف طليطلة بإدخال فلسفة العرب إليها على يد واحد من كبار الدين) ويحدثنا الدكتور توفيق الطويل مدرس الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فاروق بمصر فيقول أن العالم الأوربي جهل تراث أرسطو منذ بداية المسيحية بل انصرف عن دراسته باعتباره طبيعيا ملحدا وإن سلم بما عرف من مباحثه في المنطق منذ القرن الخامس والسادس للميلاد، ولبث العالم الأوربي على هذا حتى أقبل القرن الثاني عشر وانتقل إليه تراث أرسطو في الطبيعة والأخلاق والميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) وعلم النفس وذلك حين اجتاحت قوات ألفونس السادس - أمير قشتالة - مدينة طليطلة عام 1085م وسرعان ما اصطبغ بلاطه المسيحي اسما بالثقافة الإسلامية فأعلن نفسه إمبراطور العقيدتين وحج إلى طليطلة طلاب العلم من كل أنحاء أوربا وأضحت طليطلة للترجمة من اللغات الشرقية كما يقول تراند) في مقاله عن إسبانيا والبرتغال في كتاب (تراث الإسلام) وراحت مكتبة مسجد طليطلة مثابة للعلماء فيما يقول إبرنست باركر) في مقاله عن الحروب الصليبية في كتاب (تراث الإسلام) ولقد أنشأ (ريموند كبير أساقفه المدينة بين سنتي (1130 - 1150م) ديوانا لترجمة الكتب العربية الفلسفية على يد مترجمين من اليهود وأمر رئيس الشمامسة (دومنيك جنديز الفس أرشيدوق سيجوفيا و (يوحنا أفنديث الإشبيلي بترجمة التراث الفلسفي الإسلامي ولا سيما ما خلفه ابن سينا ثم تكفل الديوان بعد هذا بترجمة الفارابي والكندي. وفي النصف الأول من القرن الثالث عشر تولى (ميخائيل الإيقوصي ومن حذا حذوه ترجمة تراث الشارح الأعظم ابن رشد تحت رعاية الإمبراطور فردريك الثاني الذي اتصل بالعالم الإسلامي في حروبه الصليبية ومهر في اللغة العربية واستخفه الإعجاب بفلسفتها فتاق لنقل تراثهم إلى اللاتينية والعبرية وعلى هذا النحو عرفت أوربا فلسفة أرسطو منقولة إلى اللاتينية عن كتب شراحه ومفسريه من المسلمين وفي مقدمتهم أستاذهم الفارابي. وهكذا تجد أبا نصر يدخل أوربا في فجر يقظتها فما أن فتحت عينها إلى فلسفة العرب وحضارة الإسلام وما أن مدت يديها لتقتبس من أنوار الشرق إلا وجدت الفارابي أبا الفلاسفة الإسلاميين يشق طريقه إلى بلادها يحيط به تلامذته الذين أتوا بعده فساروا على هداه وفهموا الفلسفة كما لقنهم إياها المعلم الثاني مقتبسا وجها عن المعلم الأول أرسطو. وقد قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق والفارابي من خير المفسرين لكتب أرسطو خصوصا المنطق وأثره في هذا الباب هو الذي جعله يستحق التلقيب بالمعلم الثاني إذ كان أرسطو هو الأول هذا هو رأي بعض المؤرخين في الفارابي ومنهم (كارادفو) فترى كل من ذكر الفارابي عرف له فضله في شرحه لفلسفة أرسطو. قال الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام السياسي والثقافي والاجتماعي) وترجع شهرة الفارابي إلى شروحه الكثيرة على مؤلفات أرسطو حيث لقب بالمعلم الثاني تميزا له عن أرسطو الذي لقب المعلم الأول وقال (كارادفو في دائرة المعارف الإسلامية وقد اشتهر الفارابي كشارح لفلسفة أرسطو وقد شرح كتبا لليونان في ما وراء الطبيعة والفلسفة والعلم ولم يقتصر على شرح كتب اليونانيين بل ألف كتبا كثيرة مستقلة.

للكلام صلة

ضياء الدخيلي