مجلة الرسالة/العدد 927/بطل عرفته

مجلة الرسالة/العدد 927/بطل عرفته

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 04 - 1951



عبد القادر الحسيني بمناسبة ذكرى استشهاده

للأستاذ كامل السوافيري

يهتف بي الوفاء أن أذكر صديقاً وفيا، قائدا عربيا في مناسبة كريمة. أما ذلك الصديق فهو بطل العروبة المجاهد المرحوم عبد القادر الحسيني، وأما المناسبة فهي ذكرى استشهاده المجيدة إذ سقط في حومة الشرف في الثامن من أبريل سنة 1948 وليس البطل بالرجل المجهول الذي يحتاج للتعريف، أو المجاهد المغمور الذي يتطلب الشهرة، فهو النجم المتألق في سماء الجهاد، والكوكب المشرق في أفق الوطنية، والسيف البتار في ثورة الحرية.

عرفت الشهيد إبان الثورة الوطنية الكبرى في فلسطين سنة 1936 وهو يخوض المعارك الدامية ضد الجيش البريطاني المجهز بأحدث الأسلحة مع نفر من المجاهدين الأبرار فيسير النصر في ركابه، ويعود من المعركة وهو مكلل بأكاليل الفخر ثم توثقت بيننا أواصر الاخوة والصداقة وكلما امتدت الأيام بصداقتنا زدت إعجابا برجولته وتقديراً لشخصيته. ولعل أعظم نواحي إعجابي بالفقيد أنه قضى طفولته يمرح في أعطاف البشر، ويختال في رياض الأنس، وترعرع في أحضان النعيم حيث الثراء الواسع والجاه العريض، والمحتد الكريم، والمنبت العريق، وهذه العوامل تدفع الناشئ إلى الجنوح للدعة والركون للراحة والاستقرار، والنزوع نحو الرغبات والملذات، ولكنها لم تؤثر على عبد القادر، إذ تمرد على بيئته وانتقل من الحياة الناعمة حيث الفراش الوثير والماء النهير والطعام الشهي إلى الحياة القاسية حيث يفترش الصخر، ويتوسد الحجر ويطوى جوفه على الجوع ويهجر الرقاد ويمتطي الأهوال سعيداً بذلك طيب النفس قرير العين.

وأذ كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام

ولقد كان البطل كامل الرجولة واضح المعالم في كل أمر من أموره، ينطق بالحق ويؤمن بالصدق ويدين بالعدل ويفي بالوعد ويواجهك بما فيك، ويصارحك بالأمور وقد جنت عليه صراحته إذ خلقت له الخصوم والأعداء، ولكنه لم يعبأ بهم ولم يحفل بخصومتهم لأنه كما يعتقد أرضى خالقه، وأراح ضميره.

وقد سطر له التاريخ أنصع صفحات التضحية والبذل، التضحية بالنفس والمال والراحة لقد حرمت عليه بريطانيا دخول فلسطين جزاء اشتراكه في حربها عليها سنة1931 وعاش الفقيد بعيدا عن بلاده يطارده الاستعمار الظالم من قطر إلى آخر وتلاحقه جنود الظلم وأعوان المستعمر، وتضع في طريقه العراقيل وتحوك المؤامرات مما جعله يقضي فترة من حياته في غياهب السجون فتعود إليه العلل والآلام التي أصابته في جسمه خلال جهاده المجيد ضد بريطانيا. ولقد تنقل البطل في عواصم العروبة كلها من دمشق إلى بغداد ومن الرياض إلى القاهرة وكان في كل حاضرة من هذه الحواضر يترك أطيب الأثر، وأجمل الذكر ولقد أنجب أبناءه الثلاثة موسى وفيصل وغازي في أقطار مختلفة في سبيل ذلك شداد المحن وعظائم الزمن، فلم تلن له قناة، ولم يهن له عزم

ولقد كان عبد القادر يرى أن الدفاع عن الوطن واجب مقدس لا يجوز أن يأخذ عليه العامل أجراً، ولذلك ما كان يستبيح لنفسه أن يتقاضى مرتباً إلا إذا أناخ عليه الفقر، وقسا عليه الدهر. وقد ضرب في ذلك أروع الأمثلة في العفة والنزاهة، واحتقار المادة ونعى على الذين يتخوف الوطنية ستاراً لجمع الأموال طريقهم الملتوي وسبيلهم المعوج

ورغم أن عبد القادر كان قائدا مظفرا لم يعرف عنه أنه هزم في معركة فقد كانت تشرق في نفسه جوانب الإنسانية فهو من أشد الناس تأثرا بمظاهر البؤس والحرمان، واكثر الناس عطفا ومواساة البائسين والمعوزين. ولست أذيع سرا إذا قلت إن عبد القادر طالما جفف دموعا ومحا آلاما، وأعاد البهجة والرواء إلى وجوه عابسة ونفوس حزينة

ولم يكن البطل لأسرته فحسب أو لفلسطين وحدها؛ بل كان سيفا للعروبة وفارسا للإسلام. سألته يوما قبيل توليته قيادة منطقة القدس عقب قرار التقسيم المشئوم: ماذا تريد أن تفعل بعد تحرير فلسطين من الاستعمار البريطاني والصهيونية؟ فأجاب على الفور: أترك فلسطين وأسافر إلى شمال أفريقيا لأحارب الاستعمار الفرنسي كما حاربت الاستعمار البريطاني وأرجو أن يحقق الّله أمنيتي وهي أن أفوز بنعمة الشهادة.

وبعد فقد مضى عبد القادر ومضى قبله وبعده شهداء أبرار، وإن أرواحهم لتطل على العالم العربي اليوم وتدعوه في حرارة أن يحترم هذه الدماء الزكية وتنشده بيت أمير الشعراء:

وللحرية الحمراء باب ... بكل يد مضرمة يدق

يا أبا موسى! طيب الله ثراك، وأحسن مثواك فلقد أديت الرسالة وذات لأمتك ووطنك أغلى ما تملك

عليك سلام الله وقفا فإنني ... رأيت الكريم الحر ليس له عمر

كامل االسوافيري