مجلة الرسالة/العدد 929/إسرائيل

مجلة الرسالة/العدد 929/إسرائيل

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1951



للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

دولة (لقيطة) ولدت وكان مولدها ثمرة لأكبر جريمة اقترفها الساسة المعاصرون في التاريخ: قديمه وحديثه؛ وإني أعتبرها بحق جريمة القرن العشرين.

ووليد يحتضر وهو يحبو. ولولا مسارعة الدول الديمقراطية لإنقاذه لمات قبل أن يولد، ولكن الدول أرادت له الحياة فكلما دنت ساعته سارعت إلى نجدته فأنقذته من خطر محقق وموت مؤكد.

وأفعى ألقى بها بين أحضان الدول العربية لكي تقلق بالها وتهدد سلامتها وأمنها.

وكارثة نزلت بقوم آمنين يقيمون في بلادهم وادعين، فأخرجوا من ديارهم بغير حق، وجردوا من أملاكهم وشتت شمل نسائهم وأطفالهم، وألقي بهم في البيد والعراء جياعا عراة فأصبحوا لا مأوى لهم ولا ملجأ!! وهكذا تمت الجريمة وقامت الدولة.

ولعلك أيها الصديق الكريم تسألني أكان قيام إسرائيل أمرا طارئا أم كانت مسألة مدبرة؟ وأنا أجيبك بأن السياسة البريطانية لا تعرف المفاجآت وإنما هي سياسة تقليدية تسير وفق خطة موضوعة لا تتغير مهما كان لون الوزراء؛ فوزراء خارجية بريطانيا قد يكونون من المحافظين وربما كانوا من العمال وقد تتغير أشخاصهم ولكن السياسة البريطانية هي السياسة البريطانية لا تتغير ولا تتبدل. وإسرائيل هذه إنما هي ثمرة من ثمرات السياسة البريطانية، وعمل أثيم من تدبير إنجلترا ووزرائها.

وعد

في خلال الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 قام اليهود بخدمات كبيرة لقضية الحلفاء كما زعمت إنجلترا، ونتيجة لهذه الخدمات وعد اللورد بلفور وزير خارجية إنجلترا اليهود بأن يتيح لهم أن ينشئوا وطنا قوميا في فلسطين وكان ذلك في 2 نوفمبر سنة 1917.

ولسنا ندري كيف أباح بلفور لنفسه أن يصرح هذا التصريح وأن يعد اليهود بفلسطين، ولعله لو وعد اليهود بإقطاعهم جزءا من قارة أستراليا مثلا لكان موضع ثناء الناس جميعا، فهناك في أستراليا جهات واسعة غير مأهولة بالسكان، بل إن جميع سكان القارة يبلغ تعدادهم 7 ملايين نسمة، وهي بهذا في حاجة إلى أيد كثيرة لتنهض بها ولتعمل على استغلال مرافقها؛ ولكنه بدلا من ذلك يعد اليهود بالعودة إلى وطنهم في فلسطين؛ ذلك الوطن الذي طردوا منه منذ آلاف السنين قبل أن يولد المسيح ومحمد صلوات الله عليهما؛ وليتحقق ذلك ولو كان على حساب قوم أبرياء قد استوطنوا هذه الديار منذ آلاف السنين.

وأعجب ما في الأمر أن فلسطين كانت حتى قيام الحرب العالمية الأولى تابعة لتركيا، فلما قامت الحرب وانضمت تركيا إلى جانب الألمان عمدت إنجلترا إلى إثارة العرب ضد تركيا ووعدتهم بتحقيق استقلالهم عقب انتهاء الحرب. وقد شرب العرب من ماء النهر السام دخلت عليهم ألاعيب السياسة البريطانية فعمدوا إلى محاربة الأتراك وتحطمت الإمبراطورية العثمانية وتقاسمت فرنسا وإنجلترا ممتلكاتها، فوضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ووضعت العراق وشرق الأردن وفلسطين تحت الانتداب الإنجليزي؛ وأما مصر فكانت الحماية البريطانية قد أعلنت عليها منذ 1914.

ومما يدعو إلى مزيد من الدهشة أن يصدر بلفور وعده حين آذنت شمس الحرب بالنهاية، وقبل أن يعقد مؤتمر للصلح ليضع الأمور في نصابها، وقبل أن يتقرر أن تكون فلسطين تحت الانتداب البريطاني!!

ومن الطريف أن أذكر ما يذاع من أن اللورد أللنبي قال حين دخل بيت المقدس 1917 (اليوم انتهت الحروب الصليبية) وأما أنا فأرى أن دخول الغربيين بيت المقدس مرة أخرى كان إيذانا ببدء حرب صليبية جديدة!!

مؤامرة

لما عقدت معاهدة الصلح المعروفة بمعاهدة سيفر 1920 وانتدبت بريطانيا لتقوم بالأمر في فلسطين كان المفروض أن تعمل الدولة المنتدبة على تحسين حال الإقليم الذي انتدبت لإدارته حتى يصبح أهلا لتولي إدارته بنفسه، وقد قامت بريطانيا بمهمتها ولكن على طريقة يندى لها جبين الإنسانية وبشكل سوف يكون مثالا للنفاق البشري وللاثم والعدوان، فبدلا من أن تعمل على إصلاح حال عرب فلسطين عملت على إحلال اليهود في بلادهم ويسرت لهم الاستيطان بفلسطين وسمحت لهم بالهجرة إليها وبشراء الأراضي فيها، وأمدتهم بالأموال والآلات اللازمة، وظاهرها اليهود في سائر أنحاء العالم، وقد ثار العرب على بريطانيا واستفحلت ثورتهم في الفترة من 1936 - 1939 وهنا وجدت إنجلترا نفسها أمام الحرب العالمية الثانية فاضطرت أن تعمل على إرضاء العرب، ومرة أخرى خدع العرب ووثقوا في بريطانيا ووعودها وأخلدوا إلى الهدوء والسكينة؛ وأما الصهيونيون فقد ضايقهم بطئ إنجلترا في تحقيق أمانيهم فلجئوا إلى الغدر والاغتيال واعتدوا على الموظفين الإنجليز في فلسطين، بل إنهم قتلوا وزيرا بريطانيا هو اللورد موين في القاهرة!!

مملكة

وأنتهت الحرب وبدأت إنجلترا تقلب للعرب ظهر المجن وتكشر عن أنياب الغدر فرتبت أمورها وأعدت عدتها وعقدت معاهدة مع شرق الأردن 1946 وبمقتضاها أصبح الأمير عبد الله ملكا لشرق الأردن، وقد اشترط في المعاهدة أن تسمح شرق الأردن لبريطانيا بوضع جنود بريطانيين في أراضيها على قدر ما ترغب بريطانيا أو تراه ضروريا، ومن عجب أن شرق الأردن هذه مملكة لا سواحل لها. ولست أدري كيف تستطيع القوات البريطانية الوصول إلى شرق الأردن ما دامت بريطانيا قد أعلنت أنها ستترك فلسطين؟؟ لكن بريطانيا دبرت وقدرت فهي ستخرج من فلسطين لتعود إليها من جديد وفي شكل جديد، ولن يكون ذلك إلا بقيام إسرائيل.

بعد عمل الترتيبات السابقة أعلنت بريطانيا أنها قد يئست من إصلاح الأمر في فلسطين، وأنها تعلن انتهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو 1948.

وما حل هذا اليوم حتى انسحبت بريطانيا من فلسطين وأصبح العرب وجها لوجه أمام الصهيونيين، وسارعت الدول العربية إلى نجدة العرب وأحرزت قواتها انتصارات رائعة، وفي مدى أيام بانت الجيوش العربية تهدد تل أبيب عاصمة إسرائيل.

وفجأة تتدخل إنجلترا وأمريكا وتأمر الدول العربية بوقف القتال وإعلان الهدنة، وترى الدول العربية نفسها في موقف حرج وتقرر قبول الهدنة. وفي فترة الهدنة تستعد إسرائيل وتنسحب شرق الأردن وتلعب بريطانيا فتمنع السلاح عمن تشاء وتعطي من تشاء؛ ويتجدد القتال وقد تآمرت أمريكا وإنجلترا مع إسرائيل على العرب وينتهي الأمر بقيام دولة إسرائيل!! ويطرد العرب من أوطانهم وتقوم دولة في القرن العشرين على أساس ديني في الوقت الذي ترى فيه الدول الغربية أن مجرد تمسك أمة من الأمم بدينها رجعية لا مبرر لها.

التاريخ يعيد نفسه

أيها العرب: ليست هذه أول مرة تبغي فيها أمم الغرب عليكم وتعتدي على أوطانكم؛ فأنتم جميعا تعرفون أن فلسطين والأقطار الإسلامية قد استهدفت لعدة حملات معروفة باسم الحروب الصليبية وكانت أولاها في المدة من 1097 إلى 1099 وقد نجح الصليبيون في هذه الحرب من فتح سواحل الشام ودخول بيت المقدس. وقد كتب قائدهم إلى البابا يبشره بما أحرزه من نصر فقال (إذا أردت أن تعرف مدى انتصارنا فاعلم أن خيولنا كانت تسبح في بحار من دماء المسلمين؟) وقد حق له أن يقول ذلك فقد قتل الصليبيون أكثر من 70 ألفا من المسلمين وتمكنوا من تأسيس ما عرف باسم الإمارات اللاتينية، وما إسرائيل إلا إمارة لاتينية في القرن العشرين، وما أشبه الليلة بالبارحة!

وقد دام بقاء الصليبين في الشرق قرنين من الزمان؛ ثم طردوا نهائيا من الشرق، وعاد بيت المقدس والأماكن المقدسة فيه إلى يد المسلمين.

ولكن لا تحسن أيها القارئ أن هذا العمل كان مهلا ميسرا بل على العكس كان هذا العمل شاقا عسيرا، ولكن همم الرجال وعزائم الأبطال هي التي مكنت للعرب من استرداد حقوقهم، ويرجع الفضل في ذلك إلى بطلين عظيمين. . هما نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وقد استطاع الأخير أن يعيد فتح بيت المقدس وأن يضيق على الصليبين حتى أصبحت أملاكهم لا تتجاوز شريطا ضيقا من صور إلى يافا. وثم طردهم نهائيا في عصر المماليك.

مقارنة

وجدير بنا أن نذكر أن الصليبين كانوا أكثر إنسانية من الصهيونيين، فبرغم أن الحملات الصليبية جاءت إلى الشرق في العصور الوسطى وهي عصور تعتبر عصورا متأخرة، إلا أنهم لم يقترفوا من الإثم ما اقترفه الصهيونيون. ذلك أن الصليبين لم يطردوا العرب من ديارهم وإنما أبقوا عليهم وتركوهم في ديارهم آمنين مطمئنين، أما في القرن العشرين عصر المدينة والتقدم فقد اقترف الصهيونيون أشنع الإثم وأكبر الجرائم، فطردوا السكان الآمنين من ديارهم وشردوا نساءهم وأطفالهم، وهكذا تكون المدنية والإنسانية؟ المعاملة بالمثل

وقد يطيب لي أن أذكر أن الدول العربية تؤوى في ديرها أعدادا كبيرة من اليهود وهم أصحاب رءوس الأموال الضخمة، ولست أدري ماذا تفعل الدول الغربية لو أن الدول العربية لجأت إلى معاملة اليهود بالمثل فطردتهم من بلادها؟ ما أحسب إلا أن هذه الدول سوف تقوم ثائرتها وسوف ترمي المسلمين بأنهم قوم متعصبون متأخرون وربما تدخلت بالقوة لمنع الدول العربية من تنفيذ مثل هذه الخطوة، أما إسرائيل فلها أن تفعل ما تشاء ولها أن تدل كما تشاء فقد اشترت ذمم ساسة الغرب بأموالها وأعراضها.

وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن آمان

العدو الصديق

نعم يا أخي إنك لو أنعمت النظر قليلا لرأيت ثم رأيت أمرا عجيبا، فإنجلترا دولة صديقة للدول العربية ما في ذلك شك وهي كذلك دولة حليفة لهم فبينها وبين مصر والعراق وشرق الأردن وغيرها معاهدات تحالف وصداقة، ولكن هذه الدولة الصديقة هي التي أقامت إسرائيل في ديار العرب لتقلق بالهم وتشغل أذهانهم وقلوبهم، وهي التي منعت السلاح عن العرب عند انتصارهم على اليهود، وهي التي دفعتهم إلى قبول الهدنة الأولى بعد أن أصبح النصر أمرا محققا وواقعا ومؤكدا، وهي التي تحتل ديارهم وبلادهم؟؟

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد

والآن

لا ترع يا صديقي فإن السنين ليس لها حساب في تاريخ الأمم، وقد رأيت الصليبيين أقاموا في الشرق مائتين من السنين، ولا ضير إذن من أن تقوم إسرائيل فمصيرها معروف مفهوم، ولكن ذلك لن يتم إلا إذا كانت الدول العربية في منتهى اليقظة تعمل على جمع كلمتها وتوحيد قوتها وإعداد القوات اللازمة لحمايتها إعدادا حربيا حديثا. وأهم من ذلك أن تؤمن بقضيتها وبعدالة مطالبها. إذا أمكن ذلك وهو ممكن إن شاء الله فستقضي هذه الدول على إسرائيل. أما إن أهملت شؤونها وتفرقت كلمتها فإن إسرائيل ستقضي عليها، وها هي قد بدأت عدوانها على مصر منذ حين وأخيرا على سوريا، ولست أدري كيف ينتهي الخلاف بينهما، وإنما أرجو ربي أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.

أبو الفتوح عطيفة

مدرس أول العلوم الاجتماعية بسمنود الثانوية