مجلة الرسالة/العدد 929/القصص

مجلة الرسالة/العدد 929/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1951



يوم المعجزات

للشاعر الألماني: هزيك هايني

بقلم الأستاذ عبد اللطيف حسين الأرناؤوط

. . . أطلت الأم من النافذة، ومدت طرفها إلى الطبيعة الهادئة الساكنة وتمنت لنفسها الطمأنينة والسكينة. وكادت أن تتمتع بهما لولا ابنها الوحيد الذي أخذ يتقلب على سرير الحسرة والألم بعند ما فقد الأمل والرجاء من مليكة قلبه ومسرة روحه التي كانت هدفه في هذه الحياة. . .

إنه شاب في مقتبل العمر. . . دغدغ الحب بأنامله الناعمة أوتار قلبه لأول مرة، شأن كل شاب عندما يفتح عينه لحياة جديدة. . . حياة الحب. . . فيلمس أن قوته تنهار ويشعر أن عزيمته تهن أمام هذا الهيكل الجبار الذي لم يدع قلبا من الجنسين إلا توغل فيه واستقر في إحدى زواياه هادئا. . . مستكينا. فلا يشعر المصاب به إلا بعد ما يفارق حبيبه. . . عندئذ يحس كأن كابوسا جثم فوفه فملك عليه حواسه. .

ولم يطل مكوث الأم أمام النافذة حتى أحست أن ابنها الوحيد (ولهلم) قد استيقظ من سباته العميق. . . وابتعد عنه ذلك الكابوس الذي استولى عليه سواد الليل. . . ولم يفارقه بالرغم من المحاولات التي بذلتها نحوه. .

وسارت إليه بخطى وئيدة واقتربت منه وأقتعدت كرسيا بجانب السرير وسألته بصوت ملؤه الحنان والرأفة بعد ما أوشك الدمع أن يطفر من عينيها الذابلتين:

أي بني. . ألا يمكنك أن تنهض؟ ها هو الصباح قد تغلب على ظلام الليل بجيوشه البيضاء. .

ها هو قد أخذ يلوح لنا بشعاعه الرقيق. لنا نحن التعيسات حيث نشارك الليل مخاضه. . . وقلوبنا تقف حائرة بين أضلعنا. . لا ندري ما يخبئ لنا الدهر. وما يضمره الغد.

ها هي تباشيره تبدو على الأفق البعيد. . . ألا يمكنك أن تخرج معي (يا ولهلم) ألا تستطيع أن تشارك الطبيعة بهذا اليوم. .؟ أنه يوم مفعم بالمسرات والمعجزات. . . فهو عيد الآلهة العظيم عيد الجمال. عيد الحسان. عيد المعجزات والخوارق. .

لا يخفى عليك يا بني أنه سيمر موكب الكهنة من الشارع القريب منا. . . وستشاركه فرق الموسيقى. . . وستصدح بموسيقاها العذبة وألحانها الندية حتى تحيي في قلوب العذارى الطاهرات أملا وعزيمة لاستقبال الحياة الباسمة. . . ولتبعث في نفوسهم رجاء للمضي في سبيل العيش الهنيء. .

هؤلاء العذارى اللواتي حباهن الله بالطهر، وألبسهن ردأ العفة، سيمررن اليوم وعلى يد كل واحدة منهم سلة ملئت بالورد والزهر. . . كي تنثره على الجماهير التي ستحتشد على جانبي الشارع إكراما لهذا اليوم. . وتبجيلا للعيد العظيم. .

حاول يا بني. . حاول أن تنهض. حاول أن تقف على قدميك، حتى يبسم قلب أمك ويضحك فؤادها المكلوم. . فآنت قرة عينها الوحيد بعدما ترملت بعد أبيك. . أنت البلسم الشافي لجرح أمك العميق الذي لن يندمن من حزنها وألمها على أبيك. . فلا تدع الحسرة تستقر في قلبك، هذه الحسرة التي جعلتك طريح الفراش، حسرة الحب والهيام. .

فأجابها (ولهلم) بصوت تكاد الزفرات تخنقه: بالله عليك. . يا أماه دعيني. . دعيني وشأني. . فليس في مقدوري أن أنهض. . ولا أريد أن أسمع شيئا، لأنني أكاد لا أفهم ولا أميز أي شيء. . كأنني يا أماه أرى النور ظلاما. . وأشعر السرور عذابا. . إذ أحس بنار تتأجج في صميم قلبي. نار خفية لا أدري ما كنهها. . ولا أعلم ما سببها إلا أنني أعتقد أن مصدرها موت حبيبتي جريتش. جريت. .

وكاد الصوت يخونه عندما لفظ اسمها ولكنه تمتم مردفا: أنا اليوم يا أماه. لا أفكر إلا بها. . فبموتها قد أظلم عالم الحياة الهنيئة عالم الحب البهيج، وأقفرت وديانه، وتبددت أخيلته، وافتضحت أوهامه. فاستحال مقبرة موحشة لا حياة فيها. . وذلك بعد ما غادرتني حبيبتي إلى دنيا السعادة الهانئة، وتركتني على فراش الألم والحسرة.

وما إن سمعت أمه ذلك حتى تسرب إلى قلبها الخوف والهلع وغمرها الأسى. . فصاحت من أعماق فؤادها: ولهلم. . رحمة بقلب أمك، ورأفة بحياتها. . أنت عزاؤها الوحيد. أنت هناؤها وسعادتها. رفقا بأمك. . انهض. . وتوكأ على ذراعي وجرب أن تخرج معي حاملا مسبحتك البراقة ومرافقا كتاب الصلاة. . أنهض كي نذهب ونرتل معا. ونصلي أمام هيكل الله. . فهذا هو الموكب قد حان وقت خروجه، موكب العيد. . عيد الإله العظيم. . الذي لا ريب أن يرحمك اليوم. . ويعطف عليك. . ويشفيك من مصابك الأليم. .

هيا انهض يا ولهلم. . ها هي الموسيقى قد ارتفعت في الأجواء. وأخذت تشنف الآذان. . ها هو ذا الموكب يقترب من الشارع. .

وشعر ولهم كأن قوة خفية توغلت بنفسه بعد ما أنصت لحديث أمه فتحامل على نفسه وجمع فلول قوته. . واستند إلى ذراع أمه. . وخرج برفقتها من البيت. بيتما كانت الشمس تتهادى في صفحة السماء وهي تلقي على الطبيعة أشعتها الناعمة كأنها توقظ الكون وتبعث فيه الحياة من جديد.

كانت الأعلام المقدسة تتراءى من بعيد وهي تخفق وتترنح في الفضاء كأنها تحيي الجماهير المحتشدة المتحمسة لهذا اليوم العظيم. . فقد غادرت منازلها وخرجت إلى الشارع زرافات ووحدانا وأخذت ترتل الأناشيد بينما كانت الموسيقى تصدح مرافقة أصواتهم فتمتزج بها في الفضاء وتسير مع الأثير إلى أن تستقر أخيرا في آذان الجماهير فتبعث فيهم روحا فياضة بالنضال والكفاح والأمل. وأبت أفواج العذارى الطاهرات إلا أن تشارك الموكب كعادتها لتنثر الورود والزهر على الناس وتوزع الابتسامات العذبة عليهم. .

انه يوم العيد. . يوم فريد في حياة الأمة. . بل في حياة ولهلم المسكين. وفي حياة هؤلاء العجزة والمرضى الذين ابتاع كل فرد منهم شمعة من كاهن ثم أوقدها وتأهب لغرسها في الحوض الرملي الواسع الذي أقيم في الساحة الكبرى تجاه هيكل الإله العظيم. .

ٍكانت الأم تشق طريقها بين الجموع الزاخرة بعدما ابتاعت شمعة ناصعة البياض وقدمتها إلى وحيدها وقالت له:

خذ يا ولهلم هذه الشمعة. . وأوقدها ثم اغرسها في الحوض الرملي تجاه الهيكل العظيم. . ثم صل هناك، وابتهل إلى الله واجث أمامه فلا بد من أن يستجيب لك فيشفيك من سقمك. لا بد يا بني في هذا اليوم الأغر. . في هذا اليوم المقدس من أن تظهر المعجزة. . معجزة من معجزات الإله الرائعة. . فيريحك من عذابك وينقذك من مرضك. . وتناول ولهلمالشمعة من يد أمه شاكرا لها صنيعها وأرشادها وانطلق بها صوب الهيكل. . فأوقدها وغرسها في الحوض الرملي الواسع كما أشارت عليه أمه. . وجثا على الروض المعشوشب. . وأخذ يبتهل إلى ربه ويناجيه بقلب محطم. . بينما كانت الدموع قد أخذت سبيلها إلى الانطلاق. الهي. . . لقد ماتت حبيبتي. . وغادرتني بعد ما سلبت مني السعادة والهناء. . فتركتني في دنيا مظلمة. .

إلهي. . . ماتت حبيبتي جريتش وخلفت في قلبي جرحا عميقا يأبى أن يندمل. . فباسمك يا الهي. . . أصنع المعجزة واشف قلبي الجريح. . وخذني حيث هي الآن. . . أشفني رحمة بأمي المسكينة. . لا رحمة بنفسي يا الله. . .

واستغرق في صلاته فترة. . . بينما كانت الأم من ورائه تتمتم: لا بد من المعجزة. . لا بد أن تجد السعادة يا وحيدي. .

وقفل ولهلم وأمه إلى البيت؛ وما ولج الباب حتى أسرع إلى سريره واستلقى فوقه ينشد السكون والراحة وينتظر المعجزة. . ولحقت به أمه، ودنت منه، وانحنت عليه، فإنتقض ولهلم في هذه اللحظة في سريره ومد ذراعيه إلى أمه ثم صاح في نشوة جذلي. وفرحة جنونية: لقد وقعت المعجزة يا أماه. . الآن أرى حبيبتي جريتش! هاهي قد لفت ذراعها حول عنقي. . . إنها تناديني لأرافقها إلى فردوسها العلوي. . . الوداع يا أماه. . . أنا الآن مرتاح مع حبيبتي جريتش. . . لقد وقعت المعجزة. . فلا تحزني علي. . ولا تذرفي الدمع. .

ورفت أهدابه كجناح طير. . وأسبل عينيه. . وصعدت روحه إلى بارئها لتستقر في جنة السعادة والهناء مع حبيبته جريتش. . .

دمشق

عبد اللطيف حسين الأرناؤوط