مجلة الرسالة/العدد 931/القصص
- ترجمات أخرى إلياس (تولستوي)
مجلة الرسالة/العدد 931/القصص
إلياس القنوع
عن ليو تولستوي
بقلم الأستاذ رمزي مزيغيت
أفاق إلياس يوما ليجد أن ولده وسنده الأوحد قد أرتحل عنه إلى الدنيا الثانية، تاركاً إياه وزوجته الفتية وحيدين معدمين، لا يملكان من حطام الدنيا إلا رقعة أرض صغيرة لا تكاد تأتيهما بما يسد الرمق
ولكنه تشدد وصبر على الخطب وقال له رابط الجأش. ثم اتكأ على عصا نفسه وسل صارم عزيمته وامتطى جواد الشبيبة ودفع به إلى حلبة الكد والجد. وانقلب إلى أرضه الصغيرة يحرثها وينقي تربتها ويسقي غرسها ويتعهد نبتها. وقضى في ذلك سنوات عدة لم يستبطئ خلالها النتائج أو يستكبر أن تكون. بل ثابر على العمل ووضب على مصادمة الأيام ومغالبة الحوادث، وثبت أمام العقبات يذللها بجد جاد وعزم وقاد حتى أتته منقادة إليه ونال من نتائجها ما يروم. فأصبحت أرضه الصغيرة سهلا شاسعا تؤتيه ثمرا شهيا وأكلا موفرا، وانقلب البيت الصغير الحقير قصرا منيفا يغص بالخدم والحشم. وتحدث الناس وتهامسوا - انظروا -، لقد أصبح إلياس من كبار الأغنياء، وغدت الحياة عنده جنة من جنان الله
وذاع اسم إلياس في كافة الأنحاء وعلت منزلته بين الناس، وتسابق كبار القوم وأشرافهم إلى كسب وده ومرضاته. فكان يرحب بهم ويحسن وفادتهم، فينصرفون وألسنتهم تلهج بشكره وحمده
ولم تمنعه علو منزلته وعظيم نعمته عن مواصلة الجد والاجتهاد ورعاية أملاكه ومواشيه بنفسه دون أن يعتمد على من كان يعمل في خدمته من عمال وأجراء
وكان لإلياس صبيان وصبية، وكان ثلاثتهم يأخذون بيده ويساعدونه في عمله يوم كان فلاحاً بسيطاً فقيراً. فلما أتسع رزقه زوجهم جميعا وأجرى عليهم من نعمه نصيبا كبيرا. ولكن الترف والبحبوحة أفسدا الولدين، فارتديا رداء الرذيلة وأعطيا النفس الصامتة هواها.
ولم يلبث الأكبر أن قتل في مشادة، واختلف الأصغر مع والده بتأثير من زوجته الخبيثة وطلب الانفصال عنه. فأعطاه الوالد بيتا وقسما من ماشيته، فقلت بذلك ثروته. ولم تلبث النكبات بعد ذلك أن أخذت تتوالى عليه متعاقبة. فتفشى المرض بين الماشية وقضى على معظمها، وتلا ذلك سنوات عجاف أجدبت فيها مواسم الحصاد، ومات ما تبقى لديه من ماشية. وهكذا أخذت ثروته تذوب شيئا فشيئا بعد أن طوى عهد الشباب والقوة وأعجزه الكبر وجاء يوم وهو على أبواب السبعين من عمره، باع فيه كل ما يملك، ووجد نفسه وجها لوجه أمام الفقر والعوز. وكانت أبنته قد ماتت وأبنه الذي انفصل عنه قد ارتحل إلى بلاد نائية، فلم يكن هناك من يحتضنهما ويدفع عنهما غائلة الجوع، ولم يجدا لكسب معيشتهما سبيلا إلا أن يطرقا باب الخدمة والعمل
وكان لهما جار يدعى محمد شاه، فأخذته الشفقة عليهما وتذكر سابق نعمتهما، فدعاهما إليه وعرض عليهما الخدمة عنده قائلا: تعاليا واسكنا في بيتي، وإن شئتما عملا يمكنكما أن تعملا في حقل البطيخ صيفا، وفي الشتاء ترعيان ماشيتي. وسأقدم لكما مقابل ذلك الغذاء والكساء والمأوى، ولن أمنع عنكما أية حاجة تسألانها
وقبل إلياس وزوجته عرض جارهما الطيب والتحقا بخدمته كعاملين. وشق الأمر عليهما بادئ ذي بدء، ولكنهما تذرعا بالصبر وانصرفا إلى العمل بإخلاص قانعين راضيين. ووجد محمد شاه فيهما خير عاملين إذ كانا يعرفان ما ينتظره السيد من مخدومه من نشاط وإخلاص، فكانا يعملان ما تسمح به قوتهما دون تذمر أو تأفف. ولكن محمد شاه كان يحزنه في الوقت نفسه أن يرى كيف ذل إلياس، بعد عز، وافتقر بعد بحبوحة، واتضع بعد رفعة
وحدث يوما أن هبط على محمد شاه بعض الأقارب قادمين من بلاد بعيدة لزيارته. فرحب بهم وأحسن وفادتهم. وبعد أن أكلوا وشربوا جلسوا يتحدثون ويتسامرون. وبينما هم في حديثهم إذمر إلياس أمام الباب في طريقه إلى غرفته. ووقعت عينا محمد شاه عليه فالتفت إلى ضيوفه وقال لهم - هل رأيتم ذلك الكهل الذي مر الآن من هنا؟ فرد عليه أحدهم بقوله - نعم، وماذا في ذلك؟ قال لاشيء سوى أنه كان أغنى رجل في الجوار وهو يدعى إلياس، ولا بد أنكم سمعتم باسمه. فصاح الضيف: طبعاً، ومن لم يسمع باسمه وقد طبقت شهرته الآفاق؟ فقال محمد شاه - هذا صحيح، ولكنه اليوم لا يملك ثاغية ولا راغية، وها هو ذا يعيش وزوجته في بيتي عاملين أجيرين. ودهش الضيف لهذا الخبر وهز رأسه قائلا - حقا إن الدهر دولاب يدور، فتارة يرفع هذا إلى أعلى عليين، وتارة يخفض ذاك إلى أسفل سافلين. ولكن قل لي ألا يندب هذا الكهل سالف مجده، ويبكي سابق عزه؟ فقال محمد شاه - علم ذلك عند ربي، ولكن مظهره ومنظره يؤكدان عكس ذلك، فهو إنما يشدو بذكر خالقه، ويترنم بفضل رازقه، فقال الضيف - هل أستطيع أن أتحدث إليه - بودي أن أسأله سؤالا أو سؤالين. . .
فنهض محمد شاه ونادى إلياس ودعا زوجته للانضمام إلى المجلس فدخل إلياس وحيا وجلس بقرب الباب وهو يتمتم بالصلاة. وتبعته الزوجة وجلست وراء الستار مع سيدتها. وبعد أن استتب بهم المقام نظر الضيف إلى إلياس متأملا ثم سأله قائلا - قل لي يا عماه ألا يبعث فيك مرآنا شعورا بالأسى واللوعة؟ لا شك أن هذا المجلس يعيد إلى ذهنك أيامك الخوالي ويذكرك بحالتك الراهنة، وتبسم إلياس ثم قال - لو شئت أن أخبرك ما هي السعادة الحق وما هي التعاسة المرة
لما آمنت بصدق قولي وحسبتني كاذبا مماريا وأرى من الخير أن تسأل عن ذلك زوجتي فهي امرأة وما في قلبها يفضحه لسانها. أسألها ما شئت وستخبرك بالحقيقة غير منقوصة
والتفت الضيف إلى ناحية الستار وقال - حسنا يا أختاه، هلا أخبرتنا عن حقيقة شعورك؟ فردت عليه الزوجة من وراء الستار حبا وكرامة، فأصغ جيداً إلى ما أقوله - (خمسون عام عشتها وزوجي نبحث عن السعادة ونفتش عنها، ولكننا لم نجدها أو نذق لها طعما إلا في هاتين السنتين بعد أن فقدنا كل ما نملك، وزالت عنا أسباب النعمة وبتنا أجيرين فقيرين؛ وهي والله حال لا نبغي أفضل منها ولا أحسن)
ودهش الجميع بهذا القول ومن جملتهم محمد شاه. بل لقد بلغت منه الدهشة أنه تقدم من الستار وأزاحه ليرى وجه الزوجة، فإذا به منتصبة وقد طوت يدها على صدرها، وتعلقت عيناها بعيني زوجها، وعلت شفتيها ابتسامة رضية. . وتابعت الزوجة قولها (نعم أيها السادة نصف قرن قضيته أنا وزوجي بحثا عن السعادة، ولكنها تنكبت طريقنا طيلة أيام عزنا وغنانا. . فلما أن دالت دولتنا وذابت ثروتنا وشمرنا عن ساعد الجد والعمل، إذا بها تنقاد إلينا وتعمر قلبينا، ولسنا نرضي عنها اليوم بديلا).
فسألها الضيف مستغربا - ولكن كيف تفسرين هذه السعادة وأنت على هذه الحال من العوز والإملاق؟؟ فردت عليه قائلة - من الناس من يعتقد أن السعادة في المال والجاه، ولقد دلت التجارب على عكس ذلك، فعندما كنا من الأغنياء والوجهاء كانت لي وزوجي من المشكلات والتبعات ما لا نجد معها وقتا للتحدث أو التفكير في نفسينا والصلاة لخالقنا. فيوما يزورنا زائر، وعلينا أن نفتن في مرضاته كي نسكت لسانه عن الطعن في كرامتنا والحط من قدرنا. ونحن دوما في خصام مع الأجراء والعمال. . هم يتبادلون في عملهم ويطلبون أحسن الطعام، ونحن ننقص من أجرهم ونستغلهم إلى أبعد ما يمكن، وفي هذا خطيئة أية خطيئة. . هذا عدا تخوفنا الدائم من أن تفترس الذئاب ماشيتنا أو يسرق اللصوص خيلنا أو أن ترقد الأغنام على صغارها فتقتلها. . كنا في خوف دائم وقلق مستمر، لا نسوي مشكلة حتى تبرز لنا مشكلة أخرى. وفوق هذا وذاك كنت أنا وزوجي في خلاف مستحكم. . له رأيه ولي رأي نتمسك به ولا نحيد عنه، فنتخاصم ونتباعد، ونتردى في مهاوي الخطيئة من حين لحين. . أما الآن فأنا نستهل يومنا بكلمة حب ووفاء، ونقضي نهارنا في وئام وصفاء. . وليس هناك ما يشغل بالنا سوى مرضاة سيدنا على أحسن وجه، فنعمل قدر طاقتنا بعزيمة وإخلاص، وهدفنا أن نعود على سيدنا بالخير والفائدة. . وإذا ما عدنا من عمل يومنا وجدنا شرابا سائغا وطعاما شهيا، وإذا ما أوينا إلى فراشنا تحدثنا قليلا وصلينا طويلا. .
خمسون عاما قضيناها نبحث عن السعادة وقد وجدنا اليوم في حالتنا الراهنة. إن راحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام. .
وضحك الضيوف وقهقهوا. . فالتفت إلياس إليهم وقال - لا تضحكوا أيها السادة، إذ ليس هناك ما يدعو إلى الضحك، لقد كنت أنا وزوجي أحمقين، فبكينا ضياع ثروتنا وندبنا ذهاب عزنا. أما الآن فقد فتح الله أعيننا على الحقيقة المضاءة، فحسبنا لزفرات وكفكفنا الدمع هذه هي حقيقة الحياة، وقد سقناها إليكم لا عزاء لنفسينا، وإنما عظه لكم أن كنتم تتعظون
فقال أحد الضيوف - هذا لعمري هو الصدق مجردا، ولقد ورد مثل هذا القول الحكيم في الكتب السماوية المنزلة. فأمسك الجميع عن الضحك. وغرقوا في لجة من التفكير العميق
رمزي مزيغيت