مجلة الرسالة/العدد 933/المعرفة الصوفية
مجلة الرسالة/العدد 933/المعرفة الصوفية
أدلتها ومنهجها وموضوعها وغايتها عند صوفية المسلمين
للأستاذ أبو الوفا الغنيمي التفتازاني
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
للمعرفة الصوفية موضوعها الخاص بها، ولكنه في حقيقة الأمر أشد ما يكون غموضاً، ومن العسير على من لم يسلك طريق الصوفية أن يعرف شيئاً مفصلاً عن الموضوع، فالحقائق التي تتكشف للصوفي في خلواتها ومنازلاته هي حقائق فردية وذاتية لا يمكن أن تتصف بصيغة العمومية، ومن ثم يأتي إنكار الناس لها باعتبارها من قبيل الوجدان الخاص، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الصوفية يعمدون إلى الرمز والإشارة فتغلب على عبارتهم صيغة الإبهام والتعقيد، فيصبح من العسير على الباحث أن يشاركهم - ولو إلى حد ما - ما هم بسبيله من أذواق ومواعيد ومعارف ونستطيع أن نقول إنه لا يمكن أن تستند معارف الصوفية وعلومهم إلى براهين وأدلة نظرية، فهي علوم ذوقية تحمل يقينها في ثناياها، ولا تخرج في إثبات وجودها إلى برهان. وقد أشار ابن عربي إشارة لطيفة إلى هذا المعنى في كتابه التدبيرات الإلهية فقال (فإن يعرض لك الأخ المسترشد من ينفرك عن الطريق فيقول لك طالبهم بالدليل والبرهان يعني أهل هذه الطريقة فيما يتكلمون به من الأسرار الإلهية، فأعرض عنه وقل له مجاوباً؛ ما الدليل على حلاوة العسل؟ فلابد أن يقول لك هذا علم لا يحصل إلا بالذوق فلا يدخل تحت حد ولا يقوم عليه دليل، فقل له هذا مثل ذاك. .)
والواقع أيضاً أن الصوفية يعتبرون علوم الحقيقة وما تتضمنه من الأسرار من الأمور التي لا يصح أن يتحدث عنها الصوفي صراحة، ولا رخصة في إيداعها الكتب، وإنما هم يتكلمون عنها بطريق الرمز والإيماء على سبيل التمثيل والإجمال.
ونستطيع أن نقرر بوجه أن موضوع العلوم اللدنية هو الذات الإلهية وصفائها وأسمائها وأفعالها، وهي أمور لا قبل للعقل بإدراكها يقول الشيخ حسن رضوان في روض القلوب المستطاب أسماؤه وسائر الصفات ... مجهولة لغيره كالذات
وليس للعقول فيها مدرك ... بل من وراء العقل كشفاً تدرك
والعارف بحسب ما يرى الشيخ عبد الرزاق القاشاني في اصطلاحاته (هو من أشهد الله ذاته وأسمائه وأفعاله فالمعرفة حال تحدث من شهود) ويقول القاشاني في كتابه كشف الوجوه الغر لمعاني نظم الدر وهو شرح لتائية ابن الفارض الكبرى عن معرفة الله سبحانه وتعالى من حيث أسمائه وصفاته (فمن العارفين من ليس له طريق إلى معرفة الله إلا الاستدلال بفعله على صفته، وبصفته على اسمه وباسمه على ذاته، ومنهم من تحمله العناية الأزلية فيشهد المعروف (أي الله سبحانه وتعالى) تعالى جده بعد المشاهدة السابقة في معهد ألست بربكم، ويعرف به أسماءه وصفاته عكس ما يعرف العارف الأول، وبين العارفين فرق؛ إذ أن الأول لقيه معروفه كنائم يرى خيالاً غير مطابق للواقع، والثاني لشهود معروفه كمتيقظ يرى مشهوداً حقيقياً).
ومن هذا نتبين أن نتبين أن معرفة الله على نوعين: النوع الأول يستدل منه العارف على الذات، بظاهر الأفعال والصفات، والنوع الثاني يقبل فيه العارف على ما وراء هذا الظاهر بعد أن تصفو نفسه، فتحمله عناية الله عز وجل من عالم الظاهر إلى عالم الباطن، وهناك يدرك الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وهو بهذا يشاهد الصفات والأسماء عن طريق الذات، ولا يشاهد الذات بطريق الصفات. وفي الحقيقة يعرف العارف الثاني الذات الإلهية معرفة يقينية حقيقية إيجابية، في حين يعرفها العارف الأول معرفة خيالية سلبية لاحظ لها من الحقيقة.
وثمة ملاحظة على جانب كبير من الأهمية من في هذا الصدد، وهي أن موضوع المعرفة الصوفية موجود في النفس بالفطرة، إذ أن النفس تعرف الله سبحانه وتعالى بالفطرة قبل أن تحل بالبدن، وأن اتصالها بالبدن الذي أفسد عليها معرفتها السابقة. ويرى الغزالي في رسالته اللدنية أن المعرفة مركونة في النفوس بالقوة كالبذر في الأرض أو الجوهر في مقر البحر أو قلب المعدن. ويقول القاشاني في مقدمة شرحه لكتاب فصوص الحكم لابن عربي ما نصه (فإن ترقى الإنسان بالعلم والعمل، وسلك حتى انتهى إلى الأفق الأعلى ورجع إلى البرزخ الجامع كما نزل منه، بلغ الحضرة الإلهية، وأنصف بصفات الله بحسب ما قدر له من الإمكان وسبق العلم به عند تعيين عينه.) ومعنى هذا الكلام أن المعرفة بالله فطرية في النفس قبل التعيين، فإذا خلص المتصوف من عوائق بدنه وسلك طريق المجاهدة والتصوف، وصل إلى الأفق الأعلى وبلغ الحضرة الإلهية التي سبق له العلم بها، فاتصف بصفاتها على قدر طاقته.
ومما سبق نستخلص أن موضوع المعرفة الصوفية يدور حول الذات الإلهية وتعرف أسمائها وصفاتها وأفعالها وهذه المعرفة متوقفة على الذات الإلهية وأرادتها.
ولكن لا يفوتنا أن نشير بهذا الصدد إلى ملاحظة هامة وهي أن المعرفة لمتخل من الآثار الفلسفية، فما لاشك فيه أن الصوفية من أمثال أبن عربي والسهروردي المقتول ومن نحا نحوهم، قد مزجوا المعرفة الصوفية بالأنظار العقلية الخالصة، فالمعرفة عند هؤلاء ليست ذوقاً خالصاً وإنما هي مزيج من الذوق الخالص والنظر الفلسفي.
والآن وقد تحدثنا عن الموضوع المعرفة الصوفية، بقي علينا أن نعين الغايات التي ترمي إليها هذه المعرفة وفيما يلي بيان ذلك:
6 - أتفق السالكون لطريق التصوف على أن غايتهم القصوى هي المعرفة بالله سبحانه وتعالى، ومتى تحققوا بهذه المعرفة فقد توصلوا إلى السعادة واليقين في حياتهم الدنيا وفي الآخرة.
ولكي يتحقق الصوفي بالمعرفة لابد أن يتصف بصفات نفسية تؤهله لتلقي المعارف اللدنية، ومن ثم يأخذ المريد نفسه بالمجاهدة الأخلاقية، فيتنقى عن الأخلاق المذمومة وتنتفي عنه الصفات القبيحة، وتسكن نفسه وتطمئن وتزول عنها دواعي الشهوات، وتصفو وتشرق فتدرك حقائق الأمور إدراكاً يقينياً.
والمعرفة الصوفية كما رأينا متوقفة على طهارة النفس ونقائها وإشراقها، ونستطيع أن نقول إن المعرفة الصوفية بهذا المعنى ترمي إلى غاية أخلاقية، ولقد عرف القشيري المعرفة في الرسالة بقوله (هي صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته ثم صدق الله تعالى في معاملاته ثم تنتقي عن أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكافه، فحظي من الله تعالى بجميل إقباله وصدق الله تعالى في جميع أحواله، وانقطع عنه هواجس نفسه، ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره فإذا صار من الخلق أجنبياً ومن آفات نفسه برياً، ومن المساكنات والملاحظات نقياً، ودام في السر مع الله تعالى ومناجاته، وحق في كل لحظة إليه رجوعه وصار محدثاً من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجربه من تصاريف أقداره، يسمى عند ذلك عارفاً وتسمى حالته معرفة وفي الجملة فبمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه عز وجل).
من هذا النص يتبين لنا أن المعرفة لا تكون إلا بصدق المعاملة والتنقي من الأخلاق الرديئة والآفات السيئة والاتجاه بالقلب نحو الله، ولا تتم كذلك إلا بانقطاع هواجس النفس وخواطرها، وهي بهذا المعنى ترمي إلى الاتصاف بالكمال الأخلاقي.
ولكن مع إدراكنا لأهمية الغاية الأخلاقية في المعرفة لا نستطيع أن نقرر أن هذه الغاية الأخلاقية هي أسمى غايات المعرفة عند الصوفية، إذ أن هناك غايات أسمى وأرقى، هي الوصول إلى الله وبالتالي إلى السعادة الأبدية الخالدة واليقين الذي لا يأتيه الشك من أي جانب. فالمعرفة الصوفية لها غاية عرفانية إلهامية موصلة إلى السعادة واليقين في الدارين.
يقول أبن عربي في الفتوحات (ثم إذا وصل العبد إلى معرفة الله تعالى فليس وراء الله موسى ولا مرقى، فهناك يطلع كشفاً ويقيناً على حضرات الأسماء الإلهية.)
والحق كل الحق أن غاية الإنسان في حياته هي أن يصل إلى نور اليقين بعد ظلمات الشك، فيتعرف على كنه الوجود الذي يعيش فيه، ويتعرف على ماهيته ومصيره، تعرفاً من شأنه أن يلقي السكينة على قلبه. فهل استطاع العلم في عصرنا هذا أن يفسر لنا ماهية الوجود أو الحياة تفسيراً ترتاح أليه قلوبنا؟ والجواب على ذلك هو أن العلم وما يصطنعه أصحابه من مناهج تجريبية أن يكشف لنا الآن عن حقيقة ما من هذه الحقائق التي لا سبيل إلى كشفها بطريق عقلي أو تجريبي، ولا يزال عالم الروح بالنسبة إلينا مجهولاً. ثم هناك أمر آخر أشد ما يكون غرابة وهو إنكار المنكرين على الصوفية لأذواقهم ومواجيدهم ومكاشفتهم، فهذا الإنكار لا يقاوم على أساس ولا يستند على منطق سليم، فقد رد الصوفية على منكريهم أن سلكوا سبيلنا وانهجوا نهجنا ولكم بعد ذلك أن تحكموا علينا، ولكن الحقيقية أن المنكرين أنكروا عليهم علومهم، وقد غرقوا في بحار المادة وكبلوا بقيوده الحسرة.
وجماع القول فيما سبق هو أن اليقين كل اليقين في الاتصال المباشر بالله عز وجل اتصالاً من شأنه أن يبدد لنا ظلمات الشك بمعرفة كنه الوجود، وما وراء العالم المحسوس من عوالم أخرى هي من أمر الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يتم إلا إذا خلصت الروح والنفس من شوائب الحس، وأشرقت فارتقت إلى عالم الروح، وهناك تفيض عليها المعارف الإلهية والعلوم اللدنية، فتنعم بحضرة الجمال وتتمتع بلذة الوصل.
أبو الوفا الغنجي التفتازاني