مجلة الرسالة/العدد 934/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 934/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 05 - 1951


ُتُب

مواطنون. . . لا رعايا

تأليف الشيخ خالد محمد خالد

للأستاذ علي العماري

هذا كتاب يجيء في أوانه، وبقدر ما أخفق المؤلف في كتابه (من هنا نبدأ) بقدر ما أصاب من نجاح في كتابه هذا، ومقياس الإخفاق والنجاح عندي هو سلامة الفكرة، وأصالة الرأي، والقرب من الصواب، والبعد من المغالطة والتعثر والاضطراب.

ولعل كتاب (مواطنون لا رعايا) من أجدر الكتب بأن يطلع عليه كل من يستطيع أن يقرأ في مصر، بل في الشرق، فهو جدير عليه كل من يستطيع أن يقرأ في مصر، بل في الشرق، فهو جدير بأن يطالعه الزعماء وقادة الرأي في البلد إن كان عند هؤلاء رغبة في مطالعة كتاب شعبي ألفه رجل ليس من كبار المؤلفين، ولكن قوله من أحسن وأجمل وأصدق ما يجب أن يقال، وهو جدير بأن يطالعه شباب مصر المثقفون لأنه يعبر عما يجول في النفوس من الآم وآمال، وهو جدير بأن يطالعه رجل الشارع لأنه يبصره بمواضع قدميه، ويقول الكلمة التي لا يستطيع أن يقولها وإن كانت تحوم على لسانه، وتستقر في نفسه.

بدأ المؤلف كتابه في الحديث عن الاستعمار التركي، وما أصاب مصر من بلايا ورزايا، وما خلف فيها من آثار سيئة في حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ثم قال - وهنا بيت القصيد -: (ونحن ننبش قبر الاستعمار التركي لنكتشف الأوتاد المطمورة تحت ترابه، والتي لا تزال تصلنا بها سلاسل وأغلال. وما لم ننظف روحنا المسيطر من رواسب الماضي فسنظل دائماً نعيش في ذلك الماضي برجعيته وفساده واستبداده، وسيظل الشعب جاثياً تحت الأثقال التي انقضت ظهره، وهدمت قواه إننا - الدولة والشعب - لا نزال نعيش في ذلك الماضي السحيق، فالعجز السياسي، والرجعية الاقتصادية، والانهيار الخلقي، والشعب المستسلم، والحكم الأتقراطي، والفساد الإداري، والحريات المصادرة، واستغلال الدين. كل هذه الخطايا تقترف اليوم بنفس الهمة العالية التي كانت تجترح بها في القرون. إن الاستعمار التركي قد اختفى حكامه، وبقيت تقاليده وشعائره وأحكامه).

ثم تحدث عن الاستعمار الإنجليزي، مبيناً مثالبه وأخطاره، وشارحاً دخول الإنجليز مصر، والمظاهر المختلفة التي ظهر فيها الاستعمار، وأطال جداً في هذه الناحية، وانتهى إلى أن شيئاً ما تفعله الحكومة لن يخرج الإنجليز من مصر، فالمفاوضات لا ثمرة لها، والمنظمات الدولية خداع ونفاق وأداة في يد القوة، وإنما يخرج الإنجليز من مصر شيء واحد، هو القوة، ولا شيء غير القوة.

ولتحقيق هذه الغاية يتعرض المؤلف للأوضاع القائمة في مصر، وينقدها نقداً عنيفاً صريحاً لا مواربة فيه ولا التواء، ثم يوضح الطريق للاصلاح المنشود (ولقد حاولنا جهد هذا البحث المقتصد الموجز، أن ننفض عن أمتنا طغاة البغي، ورهج الانكسار، ونعاونها في فض قيودها وأغلالها، وسنرى خلال سيرنا مع هذه السطور ما يجعلنا نرتد عاجزين عن الاقتناع بأن لنا حقوقاُ ترعى وحرمات تصان) فينقذ الحياة النيابية، ويرسم الخطة لإصلاحها، وينقد الصحافة التي تجعل (الأخلاق التجارية تسيطر عليها أكثر مما يسيطر عليها الواجب الأدبي) وينقد الأحزاب ومناهجها وسلوكها في حكم الأمة (فالحزب الذي لا يستأثر بالحكم يستأثر بكل شيء معه. لقد آمنت بأن الاحزاب لا تحترم الشعب أبداً. أن الحزب - فيما يبدو - لا يريد نائباً يشرفه بعقله وماهبه، ولكنه يريد - بوليصة تأمين - تؤمن خزينته من الإعواز، ونفوذه من الخذلان. وبعد: فإن مجالسنا النيابية حتى اليوم لم تمثل الأمة بقدر ما مثلت الحزب. والبرلمان الذي يأتي ثمرة هذه الأوضاع الفاسدة - لا يحكم الحكومة بل تحكمه) وينقد الحكومات في معالجتها كل حركة بقانون، ويرى أن السلس الذي يصيب الحكومات في وضع القوانين هو أخطر ما تصاب به أمة، وأن محاولة زجر الشعب بقانون إنما هو كمحاولة إطفاء النار بقاذفات اللهب (ولسنا بذلك ندعو إلى شغب أو فتنة، بل إلى سكينة وسلام، وإنما دعاة الفتنة والثورة، بحق هم أولئك الذين يتحدون طبائع الاشياء ويحاربونها بقانون) ثم يصف خال الشعب في عبارات صريحة جريئة (إن بلادنا محرومة من أن تفكر لأنها محرومة من أن نقرأ، ومحرومة من أن نعبر ونقول، وهي ممنوعة من ذلك كله حرصاً على سلامة الدولة، وسلامة الهيئة الاجتماعية. مطلوب من الجماهير أن تبسط يدها إلى اللقمة العفنة، أو الحشرة الدسمة، ثم تدسها في فمها، وتستحلها كما تفعل بأي شيء حلو لذيذ. ماذا طرأ علينا من تغيير وتطوير؟ كنا بالأمس (عبيد الباب العالي) ونحن اليوم عبيد الحزب الحاكم. . أي حزب كنا بالأمس ضحايا النهب والرشوة والاستغلال، ونحن اليوم كذلك أيضاً. كنا بالأمس مسلوبي الحرية والإرادة. . . وليس لنا دستور، ونحن اليوم مسلوبي الحرية والإرادة والكرامة ومعنا دستور. كنا بالأمس أمة مستعمرة بإكراه، ونحن اليوم أمة مستعمرة بمعاهدة) ويدعو في قوة وحماس إلى تنمية غرائز الغضب والنفور، وحب الذات في الشعب، وتركها تؤتي ثمارها في تقدم الأمة وتحريرها، ويرى أن غريزة حب الذات من انبل وأنفع السلائق الإنسانية.

ولو أن المؤلف أضاف إلى هذه المثبطات لتقدم الأمة، والعوامل في تأخرها، ولو أنه أضاف الإذاعة المصرية التي قتلت في الأمة عزتها، والصحف الماجنة التي جنت على أخلاقنا أشنع الجنيات وأقتلها، لأتم بذلك الدائرة الحقيرة التي تضغط الشعب وتحكم قيوده.

ولم أرد بهذا العرض السريع أن أوصل إلى القارئ كل ما في الكتاب من حقائق، وما يشتمل عليه من توجيهات للحكومات والشعوب، وإنما أردت - فقط - أن أشير إلى روح الكتاب ونهجه.

على أني لا أخلي المؤلف من اللوم، فإن عنده عقدة نفسية من رجال الدين، فهو يهجم عليهم لغير مناسبة، ويجنى عليهم ولا جناية، وليس أدل على ذلك من ذكره لهم عند حديثه على غريزة الغضب وغريزة حب الذات، فهو يحاول أن يحملهم وزراً مع أنهم لا يخالفونه في الرأي، وهو عند - النظر الفاحص - لم يزد على ما يقولونه شيئاً، وأنا لا أريد أن أخلي رجال الدين من التبعات، ولا من اللوم، ولكني أحب أن نلوم عندما نجد موضعاً للوم حتى يكون لومنا مفيداً. كما أن المؤلف لم يوفق في كلامه على التقاليد وبخاصة حين قال: (والحقيقة التي تغرب عن بالنا هي أن الأديان جميعها لم تأت إلا لتدمدم على التقاليد وتقلعها ثم تذروها مع الريح. .) هكذا يعمم الكلام. . . وهو خطأ ذريع.

إن المؤلف أسرف في إرخاء العنان للغرائز التي ذكرها، ولكنه دون أن يشعر رجع إلى الاعتدال، فهو مثلاً ينقل عن بعض الكتاب مؤيداً ما يقول الكاتب، وفي هذه الكلمات التي أشاد بها المؤلف هذه الفقرات عن غريزة الغضب (ولكننا إذا أرخينا الحبل لهذا الحافز العاطفي الذي لا غنى عنه كانت النتيجة مدمرة، فإن البغضاء المزمنة أو إمساك الحقد في القلب يمزق صاحبه) وهذا هو الاعتدال الذي ينادي به رجال الدين ورجال التربية في كل الغرائز ولا شيء غير هذا، فإذا كان المؤلف مؤمناً بهذا الاعتدال فهو - إذن - لم يأت بجديد، وإذا كان يريد أن تترك الغرائز تجري غاية حضرها فقد أخطأ الطريق.

والمؤلف ينكب الجادة عن قصد أو غير قصد حين يدعو إلى التحالف مع روسيا، وحين يشيد بعبارات جميلة بروسيا وبمواقفها مع مصر، ولو التزم جانب السداد والنظر الفاحص، لرفض أن يدعو إلى التحالف مع روسيا كما يدعو إلى رفضه مع بريطانيا وأمريكا.

بريطانيا وأمريكا دولتان استعماريتان، تضمران للشرق كل شر. هذا صحيح. ولكن روسيا - أيضاً - كذلك، ولا أدري كيف نسى المؤلف أو تناسى معاونة روسيا على قيام إسرائيل!؟

إن روسيا تحارب الاستعمار في كل مظاهره - كما يقول المؤلف - ولكنها لا ترى بأساً من أن تساعد على طرد شعب من دياره ليحل محله شعب آخر! الحق يا أستاذ أن - الكفر كله ملة واحدة - كما يجري على الألسن.

وأعود فأقول إن المؤلف كفر بكتابه (مواطنون لا رعايا) عن كتابه (من هنا نبدأ) والحسنة كفاء السيئة.

ع. ع

كتب جديدة:

حافظ وشوقي

تأليف الأستاذ حسن كامل الصيرفي - 76 صفحة من الحجم الكبير - الطبعة الثانية بالمقتطف عام 1949

للأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي

الأستاذ الصيرفي شاعر مجدد من المدرسة الحديثة في الشعر المصري المعاصر. وديوانه: (الألحان الضائعة) و (الشروق)، وألحانه الجميلة وتأملاته التي تنشر في الصحف والمجلات، من الطراز الفني العالي، الذي ينم عن شاعرية موهوبة أو نفس شاعرة، وملكات مطبوعة. . ورمزيته في ترانيمه الموسيقية الآسرة واضحة كل الوضوح، كما يقول الناقد الحر مصطفى السحرتي في كتابه (الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث).

ونشاط الصيرفي الأدبي نشاط مبكر جداً، فمنذ الخمسة عشر عاماً كان يشرف على تحرير بعض المجلات الأدبية، ويكتب البحوث في الأدب والنقد، وينظم القصائد الجميلة العالية.

وآخر ثمراته الأدبية كتابه (حافظ وشوقي)، الذي يدل على عقلية مؤلفه الخصبة، وملكاته القوية في النقد، ومنهجه الواضح في الموازنة والتحليل، والدراسة الأدبية الصحيحة.

وصعوبة الكتابة عن شوقي وحافظ من حيث الموازنة المنهجية بينهما، لا يجهلها أحد، ولكن الصيرفي نهض بهذا العبء في قوة واستقامةغرض ودقة تحليل وإصابة هدف.

والشاعر لا يستطيعأن ينقد شعره إلا شاعر مثله، يفهم منهج الشعر ومذاهبه وأدواته، ويتذوق أسلوبه وعناصره. . . سئل البحتري عن سلم وأبي نواس أيهما أشعر؟ فقال أبو نواس. فقيل له إن أبا العباس ثعلباً (الرواية اللغوي الأديب النحوي المتوفى 291 هـ) لا يوافقك على هذا؛ فقال: ليس هذا من شأن ثعلب وذويه المتعاطين لعلم الشعر عمله.

لذلك كان نقد الصيرفي الشاعر لشوقي وحافظ الشاعرين: وموازناته الأدبية بينهما، من الدقة والإصابة بمكان بعيد ما تحس به حين يتحدث عن ديباجة الشاعرين وموسيقاهما، أو حين يحلل شعرهما السياسي والتاريخي، أو شعرهما في الطبيعة والمرأة، وفي الرثاء، وفي بعض المواقف التاريخية والوطنية: كحادثة دنشواي، ووداع كرومر، ووفاة مصطفى كامل، وإعلان الدستور العثماني وخلع عبد الحميد، وحريق ميت غمر، وزلزال مسينا الذي صوره حافظ، وزلزال طوكيو الذي صوره شوقي، ومحاولة اغتيال سعد.

وحين يعرض الصيرفي الناقد لفن الشاعرين نلاحظ قوة وروعة لا مثيل لهما، رغم الإيجاز الشديد في حديثه عن ذلك وهذه الموازنات بين الشاعرين تسير وفق أحدث المناهج الأدبية في النقد، فهي ليست نمطاً من الموازنات القديمة، التي تنظر إلى الألفاظ والقواعد، وتحليلبيت، وتعداد محاسن وعيوب محدودة، وإنما هي موازنات تنظر إلى البواعث النفسية التي أثرت في فن كل من الشاعرينوإنتاجهما.

إن هذا الكتاب القيم الجدير بأن يضفي على شخصية الصيرفي الشاعر شخصية الناقد الحر الطليق

محمد عبد المنعم خفاجي مدرس بكلية اللغة العربي