مجلة الرسالة/العدد 934/مقدمة لكتاب (عقيدتي)

مجلة الرسالة/العدد 934/مقدمة لكتاب (عقيدتي)

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 05 - 1951



برتر اند رسل

الفيلسوف الإنجليزي المعاصر

للأستاذ عبد الجليل السيد حسن

فلسفته:

لا نظنك ظاناً أننا آخذون في تفصيل فلسفة برتر اند رسل، في هذا المكان، بل حتى ننأى بك عن أن تظن أننا آخذون في إجمالها لك الآن، وأنت تعرف من دون شك أن هذا الفيلسوف قد جال في ميادين عدة، كل ميدان منها يحتاج إلى غزو وتذليل، فأنت تعرف أنه فيلسوف قبل كل شيء ومنطقي، بل إمام في المنطق، وصاحب مذهب جديد فيه، ثم هو عالم رياضي من الرعيل الاول وكاتب اجتماعي وأخلاقي وصاحب أراء في التربية، وهو في كل ذلك نسيج وحده، يتناول كل شيء بعقله الخاص وذهنه العجيب. فهو حر إلى أبعد حدود الحرية، يمقت الاستعمار ويزدريه. ويرى أن بريطانيا بدون مستعمرات، وإمبراطورية، تكون أسعد مما هي عليه الآن، ولعل في ذلك أثر من جدته، ثم هو ببغض الألقاب والمزايا الوراثية ويسخط عليها مع أنه سليل اللوردات أرستقراطي الأصل.

وأن مفتاح فلسفة رسل هو الفكر الحر والنظر العقلي البحت والاطمئنان إلى ما يطمئن إليه العقل والنفور مما لا يتفق معه، ولا شك أن عقلاً هذه طبيعته وذهنا هذه خصائصه، لابد أن يتجه إلى الرياضة، فهو مثال العلمالعقلي الدقيق ولكن عقلاً جبل على النظر الحر لا بد أن يستقرئ ويتعمق حقائق الرياضة. فقاده ذلك إلى القضايا الأولية التي تتركب منها الرياضة، ولكن هل الرياضة هي الوحيدة التي لها هذه الميزة وهذه القضايا.؟ لا، إن هناك علماً آخر هو المنطق، علم النظر العقلي الدقيق أيضاً، فليدرس المنطق، ولكنه يجد أن المنطق يتكون من بديهيات عقلية أساس للحقائق الرياضية، إذن فالرياضة والمنطق أساسهما واحد، بل إن الرياضيات والمنطق الصوري شيء واحد، وفي مقدور العقل أن يستنتج كل حقائق الرياضيات من عدد صغير من البديهيات المنطقية، إذن فلابد للعقل أن يسير بهدى هذا المنطق، ولكن ليس هو المنطق القديم العقيم. وقد اتخذ رسل طريقة قويمة ه طريقةالتحليل المنطقي، وكان أعظم ما عمله رسل هو تخليص التحليل المنطقي من سيطرة النحو التقليدي، فإن المهني النحوي لجملة من الجمل لا يؤدي لا معنى المنطقي لهذه الجملة، فحينما نقول: (أن وحيد القرن غير موجود حقيقة) فهذه الجملة ليست من نوع الجملة التي تماثلها من الناحية النحوية وهي (إن الأسود غير وديعة) فالجملة الأخيرة تعني أن هناك حيوانات معينة اسمها الأسود صفة معينة وهي الوداعة، ولكن الجملة (وحيد القرن غير موجود) لا تعني أن هناك حيوانات اسمها وحيد القرن وتنقصها صفة الواقعية، لأنه ليس هناك مثل هذه الحيوانات حتى تكون هناك مثل هذه الصفة.

إن أهم شيء في فلسفة رسل هو منطقه وآراؤه فيما بعد الطبيعية والأخلاق والطبيعة، والعلاقة بين المادة والعقل، ويمتاز رسل بتحليله المنطقي العميق وهو يحب أن لا توضع فلسفة في صف الفلسفة المثالية أو الواقعية، بل يفضل أن توصف بأنها (منطقية ذرية) لأن الشيء الذي يميز كل دراسته هو استخدامه للتحليل المنطقي كطريقة ومنهاج، واعتقاده أنه، بهذه الطريقة يستطيع أن يصل إلى رأي مقبول في طبيعته المادة فالمادة مكونة من ذرات وبتحليله المادة تحليلاً منطقياً يستطيع الوصول إلى حقائق ووقائع ذرية والذي يجدر بنا الإشارة الآن هو رأي رسل في المعرفة لأنه بمثابة العمود الفقري من فلسفته فيقول رسل (إن كل حقائق معرفتي عن العالمالخارجي هي حوادث في عقلي) (ص 171) ويوضحذلك فيقول (إن ما أعرفه بدون استنتاج حينما أكون حالة، ولتكن (رؤية الشمس) ليس هو الشمس بل حادثة عقلية في نفسي، وأنا لا أشعر بالموائد والكراسي الموجودة الآن، بل إن ما أحس به هو تأثيراتها المعينة فيَّ، وإن موضوعات الإدراك الحسي التي أعتبرها (خارجية) بالنسبة إليَّ مثل السطوح الملونة التي أراها ليست خارجية إلا في فراغي الخاص الذي يتوقف عن الوجود حينما أموت) (ص225).

(وحينما يقال إني أرى المائدة فإن الذي يحصل حقيقة هو أني أحس بإحساس مركب يشابه - باعتبارات معينة - في بنائه المائدة الطبيعية) فالإنسان حينما يرى المائدة لا يرى المائدة، بل إنما يرى منها لونها وشكلها، وإذا لمسها أحس بها، ولكنه لا يرى اللون أو الشكل حقيقة بل كل ما يحدث أن الإشعاع اللوني على بصره وأنه لا يرى الشكل كاملاً مستطيلا أو مستديراً مثلا بل يراه من جهة واحدة، ثم هو الذي يعطي له الشكل المستطيل او المستدير، وحينما يلمسها فكل ما يحدث أن يتأثر إحساسه تأثيرات خاصة (فلسنا نرى حقيقة الموضوعات الطبيعة بشيء أكثر من سماعنا للموجات الكهرطيسية حين سماعنا للراديو) (ص 311).

والأمر الرئيسي في هذا القول هو إنني حينما أرى شيئاً وليكن مائدة مثلاُ فأن إدراكي الحسي هذا هو حادثة في عقلي أنا، ولكن ما هو الإدراك الحسي؟

يجيب رسل عن ذلك بأنه - كما يستعمل اللفظة - ما يحدث حينما يرى شيئاً أو يسمع شيئاً أو حينما يعتقد في نفسه أنه أصبح يشعر بشيء خلال حواسه.

وأما آراؤه في التربية فهو يرى انه ينبغي أن تعالج التربية في السنوات الأولى من الطفولة لأنه بعد سن السادسة تقريباً يكون قد تكون لدى الطفل عادات وميول بها يسهل قياده في الطريق الصحيح المراد أن يسلكه، فنحن نستطيع أن نشكل أو نوجه غرائز الطفل وقواه في سنواته الأولى إلى ما نريده من تربية. والطفل ليس شريراً أو خيراً بفطرته، بل أن الذي يحوله إلى الخير أو الشر هو التوجيه التربوي القويم أو المعوج في السنوات الأولى، ويهدف من التربية إلى خلق أناس يتوفر لديهم من النشاط والحيوية والشجاعة وعدم الخوف والذكاء وسعة الأفق وأتساع العقلية الشيء الكثير. ولا بد من الحرية الفكرية وتشجيع العزيمة - لدى الشباب - إلى مناقشة كل أمر، والإيمان بأن المعرفة يمكن تحصيلها، وأنها ليست مستحيلة وإن كانت صعبة في بعض الأحيان.

ومن المفيد أن يربط بين العلم النظري والحياة العملية وتبين فائدة العلم النظري في الحياة للأطفال، وليس معنى ذلك إهمال العلم المحض، فهناك علوم لها قيمة كبرى بغض النظر عن تطبيقاتها العملية.

ولنستحضر أمام أعيننا أن الحياة السعيدة هي تلك الحياة التي يفعم جوانبه الحب، ولكنه ليس حباً تقوده أمور اعتباطية، بل هو الحب الذي تقوده وتدير رحاه المعرفة والعلم، فمعرفة بدون حب تؤدي إلى هلاكنا، وحب بدون معرفة يؤدي إلى هلاكنا أيضاً.

وهل هناك من إله؟ يقول رسل أن لا! وأن كان هناك إله فهو إله محدود، وليس ببعيد أن يقول ذلك فهو الذي يقول أن الانسان وحش وإله. وليس هناك من إله مطلق القوة والقدرةبالصفات التي يعتقدها المستيحيون في الله، لأن الله لو كان مطلق القدرة ما خلق هذا العالم الناقص. وقد برهن ليبتز على ان الشر من الضروريأن يوجد في العالم لكي يكون من الممكن إظهار خير أعظم منه ولكن ليبتز لم يلاحظ أن نفس الدليل يثبت أيضاُ وبنفس القوة أنه من الضروري وجود الخير لكي يكون من الممكن إظهار شر أعظم منه، ولو أن عالماً سيئاً بعض السوء قد خلقه إله مطلق الإحساس، فان عالماً خيراً بعض الخير قد يكون الذي خلقه شيطان مطلق الشر، وكلا الدليلين يبدوان إنهما محتملان عند رسل، ويكفى إنهما محتملان وليسا بنقيين فيالرد عليهما.

ونختتم الآن هذا العرض الموجز لحياة رسل، وطرفاً من فلسفته بنقل تجربة عاناها برتر آند رسل نفسه وسجلها في أحد كتبه قال (إني لم أولد سعيداً. . . وفي سن الخامسة تفكرت في إنني لو عشت إلى السبعين أكون فقط قد تحملت إلى الان جزءاً من أربعة عشر جزءاً من حياتي وشعرت أن الشقاء الطويل المدى الذي أمامي مما لا يمكن تحمله، وفي المراهقة عفت الحياة وكنت على شفا الانتحار الذي لم يمنعني منه إلا رغبتي في أن أتزود أكثر من الرياضيات. والآن فإني على العكس أتمتع بالحياة، وبالأحرى يجب أن أقول إنني أتمتع بها بمرور الأعوام، وهذا راجع نوعاً ما إلى توفيقي في اكتشاف الأشياء التي أرغب فيها أكثر، وقد حصلت على كثير منها تدريجاً، وهذا راجع إلى نجاحي في طرد أشياء - كانت موضع الرغبة - مثل الحصول على معرفة حقيقية لا تقبل شكاً عن شيء أو غيره - لأنها من المحال إدراكها، ولكن هذا يرجع في الغالب إلى التقليل من محاسبة نفسي، فقد كنت كالآخرين الذين تلقوا تربية جافة (حنبلية) كثير التأمل في خطاياي وحماقتي وتقصيري وبدوت لنفسي - ومن دون شك كان ذلك صادقاً - مثلاً تعساً، وبالتدريج تعلمت أن أكون قليل الاهتمام بنفسي وبتقصيري، وأخذت أركز انتباهي بازدياد نحو الموضوعات الخارجية: حالات العالم، الفروع المختلفة للمعرفة، والأشخاص الذين أشعر نحوهم بحب. وحقاً إن الاهتمام بالأشياء الخارجية له المه المحتمل: فقد يشتبك العالم في حرب، وقد تكون المعرفة من الصعب الحصول عليها في بعض النواحي، وقد يموت الاصدقاء، ولكن الآلام من هذا النوع لا تقضى على القيمة الجوهرية للحياة كهذه الآلام التي تصدر عن النفور مع النفس، وكل اهتمام خارجي يوحي - ما دام الاهتمام فعلاً قوياً - بشيء من النشاط الذي يعتبر وقاية تامة من السآمة والضجر، وعلى العكس من ذلك لا يؤدي الاهتمام بذات الشخص إلى نشاط من النوع المتزايد).

والآنلندع رسل يحدثنا عن عقيدته وقد عرضها في كتابه هذا الصغير، وهو على رغم صغره أحد المراجع الهامة في فلسفة رسل، وميزة الكتب الصغيرة إنها تعرض المؤلف وعقيدته الخاصة لأنه ليس هناك من مجال لعرض آراء غيره وللمناقشات الطويلة التي لا يعرف منها رأي الكاتب إلا بعد طول عناء.

للكلام بقية.

عبد الجليل السيد حسن