مجلة الرسالة/العدد 935/من أدباء الحجاز
مجلة الرسالة/العدد 935/من أدباء الحجاز
عبد العزيز الزمزمي
- 2 -
للأستاذ عبد الله عبد الجبار
ولقد كان الأديب الحجازي عبد العزيز الزمزمي ينظم الشعر حتى بعد أن وهى جسده وهن عظمه، وضعفت قوته. وكانت قريحته أسعفته وهو في سن السبعين بنظم القريض. ففي عام سبعين وتسعمائة انشد قصيدة عذبة، قوية النسج، جميلة الديباجة، يقل فيها اثر العمل والتكلف، وفي مفتتحها هذه الأبيات:
دعاك إلى زيارته الحبيب ... فهلا إذا دعاك لها تجيب
أيا داعي الفلاح وأنت داع ... تلين بما دعوت له القلوب
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن شأن من تدعو غريب
إذا سمع الندا ونوى نهوضا ... تنوء به وتقعده الذنوب
وتظهر قيه عجز لا يقوى ... فيوشك جسمه وهناً يذوب
ولكن ربما جذبته قهراً ... عناية من دعاء فيستجيب
ومنها يصف بزوغ فجر الإسلام:
أتيت بملة بزغت كشمس ... ولكن مالها أبدا غروب
لقد نسخت بها ملل فغابت ... طوالعها وحق لها المغيب
به الإسلام حين أتت غريب ... فآنس أهل ملته الغريب
تنادوا كلهم أهلا وسهلاً ... هلم فعدنا السوح الرحيب
فكان لهم بنصرته اغتباط ... وكان نصيبهم نعم النصيب
ولقد كان من أهم الأغراض الشعرية التي احتلت مكاناً بارزاً في شعر الزمزمى، الحنين إلى الأوطان، فهو بحكم رحلاته الكثيرة المتعددة، وما كان يلقى فيها من عنت ومشقة، وما يحسه من آلم لفراق الأصحاب والأحباب، والأهل والولد، يسفح الدم شعراً رقيقاً يملأ النفوس أسى، ففي رحلته الأولى إلى بلاد الروم شخص من مكة مع الركب المصري ث إلى الروم من البحر، فلما وصل إلى منهل مشهور كان يرده الركب المصري عادة يسمى (الوجه) وهو واد فسيح به شجر من الأراك، تذكر مكة وما حولها من الأراك، واشتد به الشوق والحنين إلى والدته واخوته وبنيه، وإذا هو يهتف بهذا القصيد:
حشاً فيه من صدع الفراق قروح ... وجفن جفاء النوم فهو قريح
وحسب النوى قلب من الوجد خافق ... ووابل دمع في الخدود سفوح
تضيق بي الدنيا إذا ما ذكرتكم ... وتعرض في فكري مهامه فيح
ولا سيما طفلي الذي من صبابتي=ووجدي به روحي تكاد تروح
ولم أنسى إذ فارقته وهو مطرق ... والفت وجهي عنه وهو بنوح
ترى هل إلى أم القرى لي أوبة ... تزيح همومي والعنا وتريح
ويا حبذا (بالوجه) واد بسفحه ... أراك له طيب يشم وربح
مررنا به والركب وان من السرى ... وشمس الضحى وسط السماء تلوح
وقد أورقت أغصانه وظلاله ... ترف ومرأى العين فيه فسيح
ذكرت به وأدى الأراك من الحمى ... وعشيا مضى فيه وظلت أنوح
وبرح بي وجدي إلى أن رأيتني ... أقوم مرارا ثم ثم أطيح
رعى الله دهرا مر حلوا بمكة ... ليالي عنا النائبات نزوح
إذ العيش غض والربوع منيرة ... ودهرى بمهما رمت منه سموح
عذيرى من الأيام يجنين دائما ... على فكم من جورهن أصيح
تبين لي الوجه الذي لا احبه ... ويخفين لي إليه طموح
وربما لج بنفس الزمزمى لاعج الشوق ألح إلحاحا شديداً فادا هو يناجى عروس الشعر بالقصيدة ارتجالاً. ومن ذلك انه لما كان بمدينة (أدنه) وشاهد قافلة حمولتها فلفل، وزنجبيل وقرنفل، مما يحمل من مكة وجدة برا وبحرا إلى مصر والشام، هتف به داعي الحنين وتذكر أرض الحجاز فأنشد على البديهة قصيدة خفيفة جاء فيها:
وميض البرق بعد سنه ... نفى عن ناظري وسنه
وذكرني عهود هوى ... بها الأرواح مرتهنه
وهل نسيت فأذكرها ... إذن أنى من الخونه وما بالعهد من قدم ... فما مرت عليه سنه
معاذ الله أن أنسى ... فروض الحب أو سننه
وقلبي كل آونة ... يجدد ذكرها حزنه
وبي شوق لا جياد ... أهاج من الحشا شحنه
ربوع هن لي سكن ... وهل ينسى الفتى سكنه
سقى الله الحجاز ومن ... أتى منه ومن سكنه
وان ديوان الزمزمي الذي اقتطفنا منه النماذج السابقة لا يضم جميع شعره، لأنه قصره على أبواب خاصة. وان الباحث ليجد له قصائد، أو إشارة إلى قصائد، في أعراض متنوعة مبثوثة هنا وهناك في بعض الظان، فقد ذكروا انه عارض القصيدة الميمية التي نظمها القاضي أبو السعود والتي مطلعها:
أبعد سليمى مطلب ومرام ... وغير هواها لوعة وغرام
كما ذكروا انه مدح أمير مكة أبا نمى بقصيدة طويلة معارضاً بها قصيدة الخطيب (ابن داريا) ويمضى الزمزمي في مطلع هذه القصيدة على النحو الآتي من الغزل التقليدي المعروف:
ليحتس الصهباء من يحتسى ... حسبي لمي مرشفك الالمس
على أطلق منه كائني ولا ... توحش بحبس الكأس يا مؤنس
في طرفك الوسنان والخد ما ... يهزأ بالورد وبالنرجس
وجهك لي روض جديد إذا ... أخلقت الأرض القنا السندسي
ولما توفى العلامة حامد بن محمود الجبرتي وكان له صديقاً حميماً عقدت بينهما أواصر الصداقة نحوا من خمسين سنة، رثاه بقصيدة مطلعها على النحو الآتي:
أيها الغافل الغبي تنبه ... إن بالنوم يقظة الناس أشبه
وتأمل فإنما الناس سفر ... دار دنياهمو لهم دار غربة
كل يوم تحل في السرح منها ... عصبة منهمو وترحل عصبه
كيف يهنا الفتى بها وهو فيها ... يشتكي دائماً فراق الأحبة
واحداً اثر واحد قد تداعوا ... للفنا يا لكربة اثر كربه وهذه القصيدة الطويلة تجدها - أيها القارئ - في النور السافر وهي تدل على وفائه لصديقه الذي يقول فيه:
مزجت روحه بروحي فأضحى ... منطقي نطقه وقلبي قلبه
وكان الزمزمي - إلى وفائه - حراً أبيا لا يقيم على ضيم استمع إليه وهو يرد على الذين لاموه في تركه آهل بيته وانتجاعه اليمن داراً، ذاكراً كيف سامه الولاة الخسف، وكيف تنكرت له الأرض ونبا به السكان وإساءة الزمان، وكيف تبدأ الأحوال غير الأحوال، فإذا الذليل عزيز، وإذا العزيز ذليل، يستفزه الإذلال حتى اضطر إلى أن يخرج من مكة وحيداً في الخفاء يلتمس مضطرباً في الخافقين. ولعل خروجه كان في سنة 958
رب قوم تفاوضوا على حديثي ... واطلوا فيه وخاضوا وجالوا
زعموا بأنني أسأت بتركي ... أهل بيتي والكل كل عيال
لا تزيدوا نارا علي في قلبي ... فيه نار تأججت واشتعال
إن ارضي تنكرت وزماني ... سأني واستحالت الأحوال
فالحقير الذليل صار عزيزاً ... والعزيز استفزه الإذلال
قد رمتني الولاة عن فرد قوس ... أقصدتني سهامها والنبال
كم هموم جرعتها ما عليها ... لآبي تجلد واحتمال
واحتمال الأذى ورؤية ... جانيه قذى في الجسوم داء عضال
أكذا دائما أكون مهاناً ... ولساني تفل منه النضال
ومكاني في خدمة العلم سام ... وبدرسي للطالبين احتفال
غصة لا يسيغها ريق حر ... وشكاة يضيق عنها المقال
سعة الخافقين فيها اضطراب ... ولأرض من أختها إبدال
عبد الله عبد الجبار
مدير البعثات العربية السعودية بمصر