مجلة الرسالة/العدد 936/استقبال رمضان
مجلة الرسالة/العدد 936/استقبال رمضان
أذيعت من القاهرة في مساء يوم الثلاثاء الماضي أول رمضان
في هذا اليوم المبارك، استقبل المسلمون في أقطار الأرض شهرهم العظيم رمضان. استقبلوه بعد أحد عشر شهراً قضوها في صراع المادة وجهاد العيش، تكدر فيها القلب، وتبلد الحس، وتلوث الضمير. فهو يجلو صدورهم بالذكر، ويطهر نفوسهم بالعبادة، ويزود قلوبهم من قوى الجمال والحق والخير بما يمسكها العام كله على فتنة الدنيا ومحنة الناس. وإذا كان المرهفون قد استقبلوا في أبريل ربيع الحواس، والمترفون قد استقبلوا في يونيو ربيع الغرائز، فإن المؤمنين استقبلوا في رمضان ربيع الأرواح. وربيع الحواس في الرياض زهور وعطور وفتنة؛ وربيع الغرائز على الشواطئ فجور وغرور ولذة؛ وربيع الأرواح في المساجد صيام وقيام ونسك. ولذلك كان رمضان في الشرع الإلهي طهوراً من رجس العام، وهدنة في حرب القوت، وروحاً في مادية الحياة.
يستقبل المسلمون في رمضان ذكريين جليلتين لحادثتين خطيرتين كان لأولاهما أكبر الفضل في تقدم الإنسانية، وكان لأخراهما أقوى الأثر في نجاح الدعوة الإسلامية: ذكرى نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، وذكرى انتصار المسلمين في غزوة بدر.
كان نزول القرآن في رمضان فرقاناً بين عهدين متغايرين: عهد ذل فيه الإنسان حتى عبد الحجر، وضل فيه العقل حتى استحب العمى، وفجر فيه الطغيان حتى أنكر الإنسانية؛ وعهد تدارك الله فيه عباده بلطفه، فهدى بنور دينه ضلال الفكر، وأقام بدستور شرعه ميزان العدل، ورفع بسلطان خلافته معنى الإحسان وكانت معركة بدر في رمضان حكماً قاطعاً من أحكام القدر، غير مجرى التاريخ، وعدّل وجهة الدنيا، ومكن للعرب في دورهم أن يبلغوا رسالة الله، ويؤدوا أمانة الحضارة، ويصلوا ما انقطع من سلسلة العلم. كان المسلمون في بدر على ضرهم وفقرهم ثلث المشركين. وكان المشركون على كثرتهم وعدتهم صفوة قريش. فموقف الإسلام من الشرك كان يومئذ موقف محنة. كان بين العدوتين في بدر مفرق الطريق، فإما أن يقود محمد زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك. وقفت مدنية الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد على القليب، ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب. فكان طريق وعقبة، ونور وظلمة، وإله وشيطان؛ فإما أن يتمزق تراث الإنسانية على هذا الصخر، ويتبدد نور الله في هذا القفر، وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس من هذه البئر، ويتصل الماضي بالمستقبل من هذه السبيل، ويبدأ التاريخ عهده الجديد بهذه الموقعة. ولقد أراد الله أن تتم للمعجزة فانتصر ثلاثمائة مسلم على قرابة ألف مشرك.
ويستقبل المسلمون في رمضان ثلاثين عيداً من أعياد القلب والروح، تفيض أيامها بالسرور، وتشرق لياليها بالنور، وتفتر مجالسها بالأنس. ففي المدن يغمر الصائمين فيض من الشعور الديني اللطيف يجعلهم بين صحوة القلب ونشوة الجسد في حال استغراق في الله، يتأملون أكثر مما يعملون، ويستمعون أكثر مما يتكلمون. فإذا أمسى المساء وفرغوا من الطعام انتشروا في المدينة، بالبهجة والزينة؛ فالرجال يحضرون محافل القرآن أو السمر في البيوت أو في المنتديات؛ والنساء يوزعن الوداد على منازل القريبات والصديقات؛ والأطفال يفرحون بأناشيدهم ومصابيحهم الميادين والطرقات، والدور الباقية على العهد تتقرب إلى الله بالذكر والصدقات، والمساجد المقفرة طول العام تعج بالوعظ والصلوات، والمآذن الحالية بالمصابيح، الشادية بالتسبيح، ترسل في أعماق الأبد نور الله وكلمته.
وفي القرى يرجع الفلاح في رمضان نقيا كقطرة المزن، طاهراً كفطرة الوليد، فلا يقتل ولا يسرق ولا يشهد الزور ولا يقول الهجر ولا يأتي المنكر. ثم تعتريه حال من الصوفية الشاعرة فيعف لسانه ويخشع قلبه وتلين يده، فلا تسمع منه لغواً في حديث، ولا عنفاً في جدل، ولا بغياً في خصومة، فإذا أذهله الغضب فرفع صوته ندم عجلان واستغفر وقال: الله إني صائم! وما أجمل أن ترى فانك الأمس وقد أصبح ناسك اليوم يمشي من البيت إلى المسجد في ثوبه النظيف وئيد الخطو، غضيض الطرف، لا تترك السبحة، ولا يفتر عن التسبيح لسانه. حتى إذا قضيت صلاة العصر جلسوا على المصاطب يستمعون القصص أو الوعظ إلى أن تؤذن الشمس بالمغيب، فيمدوا الموائد في الطريق أمام بيوتهم ويدعوا إليها عابري السبيل وطالبي الصدقة؛ ثم لا يلبث الإخاء المحض أن يجعل الموائد المتعددة مائدة واحدة، يصيب منها من يشاء ما يشاء.
ويستقبل القاهريون في رمضان مظهراً قومياً رائعاً يعيد إلى القاهرة عز القرون الماضية، فيصبغ لونها الأوربي الحائل بصبغة الشرق الجميلة، ويرفع صوتها الخافت بشعائر الصوم الجليلة، ويبرز شخصيتها الضائعة في زحمة الأجانب بالمظاهر الرسمية للحكومة، والتقاليد العرفية للشعب. وما أروع القاهرة في سكتتها عند الإفطار وجلبتها عند السحور وهزتها ساعة انطلاق المدفع! أما إذا كان في دنيا الإسلام من يستقبل رمضان بالوجه الكالح والصدر الضيق واللسان الطويل والغيظ الخانق فهم ثلاثة:
الخمار الأجنبي، والشيطان المغوي، والمسلم المزيف.
فالأجنبي صاحب القهوة أو البار يستقبل في رمضان الكساد المحزن، لأن القهوة في النهار يكثر فيها الجلوس ويقل الطلب، والبار في الليل تهجره الكؤوس ويفارقه الطرب. ورمضان هو المسؤول، لأن السكير في رمضان لا يشرب، والمقامر في رمضان لا يلعب. وصاحب القهوة مضطر بحكم الصنعة أن يقدم إلى الصائمين أدوات التسلية بالمجان حتى المغرب، وأن يقدم إلى المفطرين أكواب الماء المثلج طول السهرة حتى السحر! والشيطان يستقبل في رمضان حصناً من الخير لا يدخله الشر ولا تفتحه الرذيلة. فإذا حاول إبليس أن يدنو منه رده بالنهار، وصده القرآن بالليل، فيظل كما يعتقد القرويون مصفداً بالأغلال مقيداً بالسلاسل حتى ينطلق من إساره في آخر يوم من أيام رمضان.
والمسلم المزيف يستقبل في رمضان فطاماً لشهواته ولجاماً لغرائزه وقيداً لحريته؛ فهو يرميه بما يرميه به الأوربيون من قلة الإنتاج وكثرة الإهلاك وشل الحركة وقتل الصحة، فيشيح بوجهه عنه، ويتخذ لنفسه رمضان آخر رقيق الدين خفيف الظل باريسي الشمائل، يبيح النظرة الآثمة والكلمة العارية والأكلة الدسمة والكأس الدهاق والسيجار الغليظ، ولا يكلفه إلا أن يجعل عشاؤه من باب المجاملة عند الغروب وبعد طلقة المدفع. وإذا كان في بيوت المحافظين قارئ يقرأ القرآن، وذاكر يذكر الله، وساق يقدم المرطبات، فليكن في بيت هذا الصنف من المسلمين مقصف يجمع ما حل وما حرم من لذائذ الحس، فتجتمع إليه زمر من السيدات والأوانس ومعهن أبناؤهن وأخوتهن من الأيفاع والشباب، فيعزف البيان، ويخفق العود، ونشدوا الكواعب، ويهزج الفونغراف، ويدور الرقص على نمطيه الشرقي والغربي، فتلتف السواعد على الخصور، وتلتصق الصدور بالصدور، وتمتزج أنفاس الخمور بأنفاس العطور، ويقف رمضان الأصيل من هذه المناظر المريبة وقفة من شيوخ الدين دفعت به الأقدار إلى ماخور.
وهكذا يجد العالم ونحن نلعب! كأنما كتب علينا أن نأخذ الحياة من جانبها الفضولي العابث فنتأثر بها ولا نؤثر فيها! وكأنما قضى الله أن نعيش صعاليك على تقاليد الأمم دون أن تميزنا خصيصة من قومية ولا شعيرة من عقيدة! وكأنما عاقت شعائر التلمود القاسية وعقائد التوراة الصلبة أشتات اليهود من المغامرة والنبوغ والتقدم وتكوين دولة نقول إنها مزعومة، ولكنها أخذت تهدد بقوتها سلامة العرب، وتتحدى بأطماعها سيادة الشرق!
ذلكم أيها السادة موجز مما يقال في استقبال رمضان، وجدتموه ولا ريب أقل مما تجسونه في أنفسكم من الإجلال والإكبار والحب لهذا الشهر العظيم الكريم، ولكنها على كل حال تحية خالصة قالها مؤمن وسمعها مؤمنون ولا يدري إلا الله ماذا تدخر مدنية المال ومادية العلم لهذه الروحية التي تتجلى في الصوم، التي تتمثل في الصائم.
وقى الله رمضاننا الكريم شر العلم الجاهل والدين الكاذب والتقليد الأعمى والتمدن المشوه! وجدد الله عليكم به الأعوام المقبلة يا سادتي وأنتم ناعمين في ظلال الأمن ممتعون بنعمة العافية.
أحمد حسن الزيات