مجلة الرسالة/العدد 936/في الحديث المحمدي

مجلة الرسالة/العدد 936/في الحديث المحمدي

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 06 - 1951


6 - في الحديث المحمدي

للأستاذ محمود أبو رية

رواية الحديث بالمعنى:

يحسب كثير من الناس أن أحاديث الرسول (ص) التي يقرئونها في الكتب أو يسمعونها من الذين يتحدثون بها قد جاءت صحيحة المعنى مصونة التأليف. وأن ألفاظها قد وصلت إلى الرواة سليمة كما نطق النبي بها بلا تحريف ولا تبديل فيها.

وكذلك يحسبون أن الصحابة ومن جاء بعدهم ممن حملوا عنهم إلى زمن التدوين قد نقلوا هذه الأحاديث بنصها كما سمعوها، وأدوها على وجهها كما لقنوها، فلم ينلها تغيير ولا اعتراها تبديل، ومما وقر في أذهان الناس أن هؤلاء الرواة قد كانوا جميعاً صنفاً خاصاً من بني آدم في جودة الحفظ وكمال الضبط وسلامة الذاكرة، وأن أذهانهم قد فطرت على صورة فريدة غير ما فطرت عليه أذهان غيرهم، فلا يصيبهم النسيان ولا يدركهم السهو، وأن كل ما يسمعونه لا تفلت منه كلمة ولا بند حرف.

ولقد كان لهذا الفهم أثر ولا جرم أثر بالغ في أفكار بعض شيوخ المسلمين جعلهم يعتقدون أن هذه الأحاديث في منزلة آيات الكتاب العزيز في وجوب الاعتقاد بها، وفرض الإذعان لأحكامها بحيث يرتد من يخالفها، أو ينكرها.

من أجل ذلك رأينا أن نتكلم عن هذه الناحية ليعلم الناس وجه الحق فيها، ويدركوا أن الأحاديث التي رويت عن الرسول (ص) قد وصلت إلينا بمعناها، وأن كل راو قد روى ما بقي في ذهنه منها.

الاختلاف في رواية الحديث بالمعنى:

ولما كانت الآراء في رواية الحديث بالمعنى قد اختلفت بين العلماء، وكان هذا الأمر مهماً جداً؛ فقد رأينا أن نأتي بأطراف من هذه الآراء المختلفة حتى يكون القارئ على بينة.

قال العلامة الجزائري في كتابه توجيه النظر

(اختلف العلماء في رواية الحديث بالمعنى، فذهب قوم إلى عدم جواز ذلك مطلقاً، منهم ابن سيرين وثعلب وأبو بكر الرازي وغيرهم، وروى ذلك عن ابن عمر. وذهب الأكثر ون إلى جواز ذلك إذا كان الراوي عرفاً بدقائق الألفاظ، بصيراً بمقدار التفاوت، نبيهاً خبيراً بما يحيل معناها. . وقد تعرض لهذه المسألة علماء الأصول. . قال الأستاذ أبو إسحق الشيرازي في اللمع: والاختيار في الرواية أن يروى الخبر بلفظه لقوله : (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمع؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). . وقد احتج من منع الرواية بالمعنى بالنص والمعقول. أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام رحم الله من سمع مقالتي الخ. . قالوا وأداؤه كما سمع هو أداء اللفظ المسموع، ونقل الفقيه إلى من هو أفقه منه، معناه والله أعلم: أن الأفطن ربما فطن بفضل فقهه من فوائد اللفظ بما لم يفطن له الراوي لأنه ربما كان دونه في الفقه.

وأما المعقول فمن وجهين: الأول - أنا لما جربنا رأينا أن المتأخر ربما استنبط من فوائد آية أو خبر ما لم يتنبه له أهل العصور السالفة من العلماء والمحققين. . فلو جوزنا النقل بالمعنى فربما حصل التفاوت العظيم، مع أن الراوي يظن أن لا تفاوت (الثاني) - أنه لو جاز للراوي تبديل لفظ الرسول بلفظ نفسه كان للراوي الثاني تبديل اللفظ الذي سمعه بلفظ نفسه؛ بل هذا أولى، لأن تبديل لفظ الراوي أولى بالجواز من تبديل لفظ الشارع، وإن كان ذلك في الطبقة الثالثة والرابعة فذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول، لأن الإنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة لكن لا ينفك عن تفاوت وإن قل، فإذا توالت التفاوت كان التفاوت الأخير تفاوتاً فاحشاً، بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة. .

وحجة الجواز أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمعون الأحاديث ولا يكتبونها ولا يكررون عليها، ثم يروونها بعد السنين الكثيرة، ومثل هذا يجزم الإنسان فيه بأن نفس العبارة لا تنضبط ّبل المعنى فقطّ لأن أحاديث كثيرة وقعت بعبارات مختلفة، وذلك مع اتحاد القصة، وهو دليل جواز النقل بالمعنى، ولأن لفظ السنة ليس متعبداً به بخلاف القرآن، فإذا ضبط المعنى فلا يضر فوات ما ليس بمقصود.

وقال القاسمي في قواعد التحديث

رخص في سوق الحديث بالمعنى دون سياقه جماعة منهم: علي وابن عباس وأنس بن مالك وأبو الدرداء ووائلة بن الأسقع وأبو هريرة ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم، منهم إمام الأئمة حسن البصري ثم الشعبي وعمر بن دينار وإبراهيم النخعي. . . وكذلك اختلفت ألفاظ الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله؛ فمنهم من يرويه تاماً، ومنهم من يأتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصراً، وبعضهم يغاير بين اللفظين ويراه واسعاً إذا لم يخالف المعنى وكلهم لا يتعمد الكذب، وكانوا يقولون: إنما الكذب على من تعمده

وإذا كانوا قد اختلفوا على هذا الأمر فإن العمل قد جرى على رواية الحديث بالمعنى.

قال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة والمعنى واحد والألفاظ مختلفة. وروي عن عمران بن مسلم قال، قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنما تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقاً وأجود تحبيراً، وأفصح منه إذا حدثنا به! فقال: إذا أصبت المعنى فلا بأس بذلك. وقال النضر بن شميل: كان هيثم لحاناً فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة يعني بالإعراب وكان سفيان يقول: إذا رأيتم الرجل يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس فعلم أنه يقول: اعرفوني! وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه، فقال له يحيى: يا هذا ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد.

وقال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني فإنما هو المعنى وقيل له يا أبا عبد الله، حدثنا كما سمعت! فقال: والله ما إليه سبيل وما هي إلا المعاني فأخبر بذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: هو كذلك. وقال النووي جمهور العلماء على جواز رواية الحديث بالمعنى. وقال الآجري عن أبي داود: كان سليمان بن جرب يحدث بالحديث ثم يحدث به كأنه ليس ذاك، قال النسائي كان ثقة مأموناً.

وقال وكيع: إذا لم يكن المعنى واسعاً فقد هلك الناس! وكان أبو الدرداء إذا حدث عن رسول الله ثم فرغ منه يقول: اللهم إن لم يكن هذا فشكله. وكان أنس بن مالك إذا حدث عن رسول الله حديثاً قال: أو كما قال. وعن مسروق عن عبد الله أنه حدث يوماً بحديث فقال سمعت رسول الله! ثم أرعد وأرعدت ثيابه وقال: أو نحو هذا أو شبه هذا. وفي رواية أخرى: أو نحو ذلك أو قريباً من ذلك.

وقال العلامة السيد رشيد رضا رحمه الله عند كلامه على أحاديث أشراط الساعة): لا شك أن أكثر الأحاديث قد روي بالمعنى كما هو معلوم واتفق عليه العلماء ويدل عليه رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها وما دخل على بعضها من المدرجات وهو ما يدرج في اللفظ المرفوع من كلام الرواة فعلى هذا كان يروي كل أحد ما فهمه، وربما وقع في فهمه الخطأ وربما فسر بعض ما فهمه بألفاظ يزيدها إلى أن قال: فهل من الغرابة أن يقع الخلط والتعارض فيما يروى عنه بالمعنى بقدر فهم المراد. وسئل رحمه الله عن رأيه فيمن قال: إنه لم يثبت عن النبي إلا 12 أو 14 حديثاً فأجاب: (هذا القول غير صحيح بل لم يقل به أحد بهذا اللفظ؛ وإنما قيل هذا أو ما دونه في الأحاديث التي توتر لفظها) وإليك أمثلة من رواية الحديث بالمعنى.

روى مسلم عن طلحة بن عبيد الله أن رجلاً جاء إلى رسول الله ثائر الرأس يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله: خمس صلوات في اليوم والليلة إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان إلا أن تطوع، وذكر له رسول الله الزكاة فقال هل علي غيرها؟ فقال لا إلا أن تطوع. فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد عن هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله: أفلح إن صدق.

وروي عن أبي هريرة حديث جبريل: جاء رجل فقال يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان قال: صدقت ثم سأله عن الإيمان وعن الإحسان.

وعن أبي أيوب قال: جاء رجل إلى النبي فقال: دلني على عمل أعمله يدنيني من الجنة ويبعدني من النار، قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل ذا رحمك. قال رسول الله: إن تمسك بما أمر به دخل الجنة.

وعن أبي هريرة أن إعرابياً جاء إلى رسول الله، فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئاً أبداً ولا أنقص منه. فلما ولى قال النبي من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.

قال الإمام النووي معلقاً على هذه الأحاديث ما نصه: (واعلم أنه لم يأت في حديث طلحة ذكر الحج ولا جاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة، وكذا غير هذه الأحاديث لم يذكر في بعضها (الصوم) ولم يذكر في بعضها (الزكاة) وذكرت في بعضها صلة الرحم وفي بعضها أداء الخمس، ولم يقع في بعضها ذكر الإيمان فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادة ونقصاً وإثباتاً وحذفاً. وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله بجواب لخصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وهذبه فقال: (ليس هذا باختلاف صادر من رسول الله بل هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه فأداه ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات! وإن كان اقتصاره على ذلك يشعر بأنه (الكل) فقد بان بما أتى غيره من الثقاة أن ذلك ليس (بالكل) وأن اقتصاره عليه كان لتصور حفظه عن تمامه. ألا ترى حديث النعمان بن نوفل الذي اختلفت الرواية في خصاله بالزيادة والنقصان مع أن راوي الجميع واحد!

حديث زوجتها بما معك

جاءت امرأة إلى النبي وأرادت أن تهب نفسها له فتقدم رجل فقال يا رسول الله (أنكحنيها) ولم يكن معه من المهر غير القرآن فقال له النبي (أنكحتها بما معك) وفي رواية قد زوجتكها بما معك من القرآن) وفي رواية (قد زوجتكها بما معك من القرآن) وفي رواية (زوجتكها على ما معك) وفي رواية (قد ملكتكها بما معك) وفي رواية (قد أملكتكها بما معك من القرآن) وفي رواية أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها) وفي رواية (أمكناكها) وفي رواية (خذها بما معك) فهذه ثماني روايات في لفظة واحدة!

قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصة واحدة واختلف فيها مع اتحاد مخرج الحديث. وقال العلائي: من المعلوم أن النبي لم يقل هذه الألفاظ كلها تلك الساعة، فلم يبق غلاً أن يكون قال لفظة منها وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى، فمن قال بأن النكاح ينعقد بلفظ التمليك ثم احتج بمجيئه في هذا الحديث إذا عورض ببقية الألفاظ لم ينهض احتجاجه، فإنه جزم بأن هو الذي تلفظ به النبي وقال غيره ذكره بالمعنى؛ قلبه على مخالفه وادعى ضد دعواه فلم يبق إلا الترجيح بأمر خارجي.

وروى البخاري عن ابن عمر أن النبي قال يوم الأحزاب: لا يصلين أحد (العصر) إلا في بني قريظة. فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتها وقال بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي فلم يعنف أحداً منهم.

قال ابن حجر في شرح هذا الحديث كذا وقع في جميع النسخ عند البخاري ووقع في جميع النسخ عند مسلم (الظهر) مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإسناد واحد. وقد وافق مسلماً أبو يعلى وآخرون وكذلك أخرجه ابن سعد. وأما أصحاب المغازي فقد اتفقوا على أنها العصر ثم قال ابن حجر بعد ذلك إن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجوز ذلك بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ كثيراً.

ولقد بلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى كتب السنة.

قال العراقي في شرح الغنية: إن البيهقي في السنن والمعرفة والبغوي في شرح السنة وغيرهما يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى البخاري ومسلم مع اختلاف الألفاظ والمعاني، فهم إنما يريدون أصل الحديث لا عزو ألفاظه.

ومن هذا القبيل قول النووي في حديث (الأئمة من قريش) أخرجه الشيخان مع أن لفظ الصحيح (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان) ونكتفي بهذه الأمثلة.

المنصورة

للبحث صلة

محمود أبو رية