مجلة الرسالة/العدد 937/حول مستقبل الأزهر

مجلة الرسالة/العدد 937/حول مستقبل الأزهر

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 06 - 1951



للأستاذ كامل السيد شاهين

المسئولون في الأزهر قلما يمدون أبصارهم لترى مستقبله القريب أو البعيد، فلهم الساعة التي هم فيها، فإذا ما عبرت، استقبلوا ما يليها لا ممتدين ولاعابثين، ولكن ممدودي الأبدي مرتمي الصدور. وكأنهم مسئولون - حسب - عن الميزانية زادت أم نقصت، وعن العلاوات أطلقت أم حبست، وعن الترقيات أصيب بها موضعها أم جرت مع أهواء العصبية والحزبية والقرابة. فهذا من حسابهم، يدركونه مرة، ويكبون دونه مرات؛ ويرعون فيه الذمة والأمانة تارة، وينساقون وراء الآراب والشهوات تارات. فيحقرون الذمم ويخونون الأمانة، ولكنهم يرون هذه الشؤون - على أي حال - مما يدخل في حسابهم. فإما مستقبل الأزهر فما عليهم من حسابه من شئ!

أقول هذا بمناسبة ما تناوله مجلس التعليم الأعلى الذي مثلت فيه الطوائف ما عدا الأزهر الشريف، وبحث فيه أمر مراحل التعليم، وتوحيد مرحلته الأولى ثم تشعيبها أفناناً وطرائف، والأزهر يغط في نومته لا يدري أينبت الطريق إليه أم يتصل، أيعوج أم يستقيم. وليس هذا من عيب الوزارة التي أغفلته، ولكن عيب هؤلاء المسئولين فيه الذين استرسلوا في غفلتهم فلم تنبئهم الجرائد، ولم توقظهم الإذاعات، ولم يفتح أذهانهم هذا اللغط اللاغط الذي يتناثر من أفواه المتكلمين في الطرق والمقاهي والمجالس العامة أو الخاصة.

من المسئول عن هذه الغفلة من رجال الأزهر. شيخة؟ وماذا يمنع أن نقول نعم جريئة قوية. وما نحسب أن المرض الذي غشيه مانع من التفكير والتدبير. أم وكيله؟ وماذا يمنع أن نقول نعم جريئة قوية. وما نحسب أن شؤون الأزهر التي جمعها في حجره يعرفها في تؤدة وعناء وولاء، ويقوم عليها في الإصباح والإمساء ما نعته من التفكير في مستقبله، وتأمين الطريق إليه، فإن كان كذلك فقد استهلك وكيل الأزهر وقته في الجزئيات التي كان يستطيع أن يملأ بها الأيدي الفارغة التي أصابها أكال من قلة العمل. فهذا مدير الأزهر، وهذا سكرتيره العام، لا يكادان يجدان عملاً، وهما من قبل ومن بعد يقضيان صدر نهارهما في الإدارة العامة، مجالسة ومؤانسة وترحيباً.

وكيل الأزهر، يضع عائشة على أم الخير، وقد كان في أم الخير له شاغل أي شاغل، ولكنه يقاوم ويقوى ويعمل على رهق. . ومثل هذا جدير بأن يزل وأن يكثر منه هذا الزلل. وميزان العمل جدير بأن يختل، وأن يطول به هذا الاختلاف. . وحقيق بوكيل الأزهر مادام يدير دولاب العمل وحده أن ينصرف عن النظر في مستقبل الأزهر، إلى النظر في التوافه والسفاسف التي تملأ الوقت ولا تؤتي الثمر.

نظر مجلس التعليم في أمر المرحلة الأولى فجعلها نوعاً واحداً قائماً على دراسة ست سنوات سماها التعليم الابتدائي، منها اثنتان لرياض الأطفال. وأباح - بقرار من الوزير - إنشاء فرق لتحفيظ القرآن الكريم تمهيداً لمن شاء أن يتم دراسته في المعاهد الدينية، ثم قسم التعليم الثانوي إلى علمي وتجاري وزراعي وصناعي، وجعلها كلها إمداداً للكليات في الجامعات.

فما موقف الأزهر من هذا التنظيم؟ أيبقى على القسم الابتدائي فيه، وكيف ينسق هذا القسم مع الابتدائي العام، أيكون بعده، فيقضي التلميذ ست سنوات في الابتدائي العام ثم يتقدم للقسم الابتدائي في الأزهر؟. إننا إذا اتبعنا هذا فسوف نجد ابتدائي الأزهر خاوياً لا ينظر إليه أحد، لأن أحداً لا يضيع على نفسه ست سنوات كاملات لا لشيء إلا ليدرس في الأزهر. وما الدارسة في الأزهر بممتازة شيئاً، ولا بمعادلة في نظر الكثرة من الأمة للدراسة في المدارس أيا كان شكلها. إذا فنحن مضطرون إلى إلغاء هذا القسم، ولكن كيف ينظم هذا الإلغاء، وإلى أين يذهب هؤلاء المدرسون؟ هذا يحتاج - من غير شك - إلى مباحثة وزارة المعارف والاتفاق معها على هذه التصفية، ولندع الآن أمر هذه التصفية وطرقها، ونستقيم في طريقنا الذي نعرض فيه موقف الأزهر من التعليم العام.

إذا ألغى القسم الابتدائي من الأزهر بقي القسم الثانوي نهراً لا يرفده رافد. فالتلميذ الحاصل على الشهادة الابتدائية لا يستطيع أن بشق طريقه في القسم الثانوي بالأزهر. ثم هو راغب عن هذا الطريق لأن أمامه طرقاً كثيرة أيسر يسراً، وأوضح قصداً، وأربح غاية. والنظر اليوم للحياة نظرة تسليح الطالب والغلاب، ولاشك أن كليات الجامعة في هذه الناحية تسلح الطالب للحياة أكثر مما تسلحه كليات الأزهر، وقد كان كيان الأزهر قائماً على شيئين: القداسة والفقر. فأما الفقر فقد كان عاملاً مهما في انصراف الناس عن المدارس إلى الأزهر. فقد كان للمدرسة منذ عشر سنوات مضت مظاهرها ومصاريفها للكتب وللتعليم وللحفلات. أما اليوم فالكتب بالمجان والتعليم بالمجان ووجبة الغداء بالمجان، فأي مدعاة بعد انقضاض هاتين الدعامتين تدعوا أمراً إلى أن يدفع بابنه إلى التعليم الأزهري؟ لقد رأينا الأساتذة من مدرسي الأزهر حينما يوسرون بعض اليسار يعرضون عن الأزهر إعراضاً، ويسلكون أبناءهم في التعليم المدني إيثاراً له، وإدراكاً منهم أن الدولة تنظر إلى التعليم في الجامعة نظرة أعلى من نظرتها للتعليم في الأزهر. وأن الحياة تطلب النوع الأول ألحف من طلبها للنوع الآخر. . فإذا أنحينا على القسم الثانوي بلا سلم، وهو بعد بعيد كل البعد عن كل نوع من أنواع الإغراء. فالدراسة فيه ليست سهلة ممهدة. ونتيجتها ليست زاهرة باهرة محببة.

إذن فكل ظواهر المنطق تؤذن بأن الأزهر مقضي عليه لا محالة. ومخدوع من مخدوعين ذلك الذي يزعم أن النزعة الدينية في الأمة يمكن الاعتماد عليها في الإبقاء على الأزهر وحفظ كيانه فإن التيار العام أقوى وأعتى من أن يتصدى له أفراد شذاذ من سوقة الأمة ورعاعها. ومخدوع كذلك من يعتمد على وزارة المعارف في توجيه طائفة من أبناء الأمة للتعليم في الأزهر، فوزارة المعارف في توجيه طائفة من أبناء الأمة للتعليم في الأزهر، فوزارة المعارف لا تملك هذا التوجية، ولو ملكته لوجب ألا تلجأ إليه، فما لم يكن للأزهر في نفسه من المحببات فيه ما يقيمه ويدفع قلوب الناس إليه راغبين، فعليه العفاء. ونحن لا نملك أن نوجه لوماً إلى وزارة المعارف فيما يسرت من أمور التعليم واحترمت من رغبات المتعلمين، وإن عاد ذلك على الأزهر بالضمور والاضمحلال؛ فإن حجتها في ذلك أبهر وأظهر من أن يدل عليها. وكيف نطلب الحماية للأزهر من التعليم العام إلا إذا كان الأزهر نفسه لم يستطع أن يثبت صلاحيته ويقوم على قدميه، فإذا كان هذا حالة فلتذهب به الرياح ليبقى الأصلح والأنجع، وخلا المعارف ذم.

ولكن ينبغي أن نضع في حسابنا أمرين قبل أن نحكم على الأزهر بالإعدام. أول لكليات الجامعة أن تقوم بها؟ الجواب. لا. ثم نتساءل: هل هذه الدراسة مفيدة في ذاتها، مطلوبة لصيانة الأمة الإسلامية. ولو فكرنا من ناحية حفظ تراث إن لم نحتجه اليوم فربما احتجناه غداً، وإن غطى الزمن على بهارة نوره فترة، فربما كشف عنها في مقبل منه قريب أو بعيد؟ الجواب نعم: وما دام الأمر كذلك فيجب أن يبقي الأزهر. ويجب أن يفهم المسئولون عن التعليم أنه لابد من بقائه لأداء رسالة حاضرة أو مقبلة، ولفظ تراث مجيد من اللغة والفقه، ولو أنه حفظ يقوم على الترديد أكثر مما يقوم على التجديد حتى يتاح له من يخطو به يوماً.

وثاني الأمرين: هذه الإشاحة المعرضة عن الدراسات الأزهرية هل تنبني دائماً على حسن التقدير أو يداخلها قليل أو كثير من الوراثة لأفكار جاهلة تتبع أكثر مما تتأمل، وتنخدع أكثر مما تصيب، ويغرها الزخرف أكثر مما تبهرها الحقيقة. فالحق أن كثيراً ممن يعرضون عن الدراسات الأزهرية، قد استقر في أذهانهم أن الأزهر إنما يدرس فيه أبناء الفقراء، وان الالتحاق به عبادة أكثر مما هو دراسة، وأن أبناءه لا تنظر إليهم الحكومات بعين الاعتبار والتقدير، وإنما تجاملهم مجاملة، أو تطاولهم مطاولة، أملاً في أن تصل على ظهورهم لغاية، أو تكف بسكونهم شراً وتتقي قلاقل.

وإذن فما عند الناس من أفكار سيئة عن الدراسات الأزهرية لا يمثل الحقيقة، والدراسات الأزهرية جديرة بالإقبال عليها لذاتها. والحكومة والأمة الإسلامية جديرة أن تحميها وأن تحتفظ بها. ولكن كيف السبيل اليوم، وليس لأحد أن يرغم أحداً على اتجاه بعينه في الدراسات؟

قلنا إن الأزهر قام على عنصرين: على القداسة، وعلى الفقر. ونحن لا نحب أن نبقي على العصا الأولى لأنها عصا وهمية سخيفة، ولو أدخلناها في الأساس اليوم، فأجدر أن ينهار البناء كله وأما العصا الأخرى فما زالت باقية برغم مجانية التعليم ووجبة الغداء. ذلك بأن أقواماً - وكثير ما هم - في ضر من العيلة. فإن وجدوا مجانية التعليم ووجبة الظهيرة، فمن لهم بوجبة الصباح ووجبة المساء؟ ومن لهم بمصروف اليد والكساء؟ إذن فليحتضن الأزهر الفقراء من هذا الصنف، وليبق بأقسامه الثلاثة قائماً، وليقلل من هذه المعاهد المنبثة في أنحاء القطر، فلبست الدولة بحاجة إلى كثيرين من المتوسعين في دراسات الأزهر. وأخيراً فليكن الأزهر جامعة داخلية تضمن الطعام والكساء والتربية والتعلم على يزيد داخلوه كل عام على مائة. وليضمن لطلابه ومتخرجيه من الميزات ما تضمن الحكومة لمتخرجي الجامعات الأخرى.

وليستصف هذا الوفر الوفير من الأساتذة والكتاب عاماً في إثر عام، وليبق فيه خلاصة مخلصة من الأفذاذ علما وخلقا، وليرب هؤلاء الجدد من الطلاب تربية حرة لا تخضع لمبدأ من مبادئ السياسة، ولا تنقاد لغرض من أغراض الحكام. فإذا تخرج علمية وخلقية، وليقومن الأزهر بعد على قدمية، وليثبتن أنه أهل للحياة!

وقد يظن ظانون أن هذا خيال خائل، ولكن سوف يشهدون بأعينهم هذا الإعراض الشنيع عن الأزهر، وعن دار العلوم حين ينقطع سببها من الأزهر، وسيجدون أنفسهم قد أخلدوا إلى الآمال أكثر مما يصح الإخلاد، وأن ما يواجههم من الشر أكبر من أن يدفع بالتصايح والبكاء!

كامل السيد شاهين