مجلة الرسالة/العدد 937/عقيدتي
مجلة الرسالة/العدد 937/عقيدتي
للفيلسوف الإنجليزي المعاصر برتر ان ندرسل
ترجمة الأديب عبد الجليل السيد حسن
الفصل الثاني
الحياة السعيدة
لقد كان يوجد في أزمان متباينة وبين شعوب متباينة، تصورات مختلفة عن الحياة السعيدة. وكانت الاختلافات - إلى مدى محدود - تنقاد إلى الحجة، وذلك حينما يختلف الناس بصدد الوسائل التي يبلغون بها غاية مقصودة؛ فالبعض يظن أن السجن نهيج قويم للقضاء على الجريمة، وآخرون يعتقدون أن التربية أقوم منه. ومثل هذا الاختلاف يمكن فضه بدليل كاف، ولكن بعض الاختلافات لا يمكن أن تختبر بمثل هذه الطريقة؛ فإن (تولستوي) يحمل على جميع أنواع الحروب؛ ويعتقد آخرون أن حياة الجندي الذي يخوض المعارك من أجل الحق في غاية النبل. ومن الممكن في هذا المقام وقوع اختلاف جوهري متشابك بالنسبة للغايات عند كل منهم، فهؤلاء الذين يثنون عادة على الجندي يعتبرون عقاب الخاطئين خير في ذاته، وتولستوي لا يوافق على ذلك. وفي مثل هذا المجال لا يحتمل الجدال. ولذلك فلن أستطيع أن أجزم بأن نظرتي عن الحياة السعيدة هي الصواب، ولكن أستطيع فقط أن أطرح نظرتي وآمل أن يوافق عليها كثيرون بقدر المستطاع، أما نظرتي فها هي ذي:
(إن الحياة السعيدة هي الحياة التي يوحيها الحب وتهديها المعرفة).
وكل من المعرفة والحب غير محدود المدى؛ ولذلك فإن أية حياة سعيدة يمكن أن تتخيل حياة أسعد منها. وليس الحب بدون المعرفة أو المعرفة بدون الحب بجالب الحياة السعيدة؛ ففي العصور الوسطى كان رجال الدين حينما يظهر وباء في أحد البلاد، ينصحون السكان بالتجمع في الكنائس والدعاء للنجاء؛ وكانت النتيجة أن تنتشر العدوى بسرعة غريبة بين حشود الضارعين، وكان ذلك مثلا للحب بدون معرفة. أما الحرب الأخيرة (بقصد الحرب العالمية الأولى) فقد قدمت خير مثال للمعرفة بدون حب. وفي كلا الحالين كانت النتيجة انتشار الهلاك على نطاق واسع.
ومع أن كلاً من المعرفة والحب ضروري؛ إلا أن الحب بمعنى من المعاني أكثر أهمية لأنه يدفع بالأذكياء من الناس إلى البحث عن المعرفة، حتى يعرفوا كيف يفيدون من يحبون، ولكن إذا لم يكونوا بالأذكياء فإنهم سيقنعون بتصديق ما قيل لهم (منذ الصغر) وقد يرتكبون بذلك ضرراً رغماً عن حبهم الصادق للخير. ولعل الطب هو الذي يقدم خير مثال لما أعني؛ فإن الطبيب القدير أنفع للمريض من أعز أصدقائه. والتقدم في المعرفة الطبية يحسن إلى صحة المجموع أكثر من محب دعا الإنسانية، ومع ذلك فإن عنصر (حب الخير) ضروري حتى في حالة الاكتشافات العلمية التي لا يستفيد منها إلا الأغنياء.
والحب نقطة تندرج تحتها ضروب من المشاعر، وقد استعملتها هادفاً إلى ذلك لأني أقصد شمولها كلها. والحب كعاطفة - وهي تلك التي أتكلم عنها لأن الحب يبدو لي أنه أصلي خالص - تتذبذب بين قطبين: في أولهما، السرور المحض في التأمل، وفي ثانيهما حب الخير المحض والسرور لا يتدخل قط إلا حينما يتعلق الأمر بالموضوعات الجامدة، فلا يمكن أن تشعر بحب الخير إزاء منظر طبيعي أو قطعة موسيقية. ومن المحتمل أن يكون هذا النمط من السرور هو مصدر الفن، وهذا أقوى عند الأطفال منه عند البالغين الذين تعودوا أن يتناولوا الموضوعات بروح المنفعة التي تلعب دوراً هاماً في التأثير على مشاعرنا، تجاه الكائنات البشرية: فبعضهم ساحر فتان، وبعضهم على الضد من ذلك، حينما يعتبرون كموضوعات لتأمل الجمال فقط.
والقطب الآخر من الحب هو الخير المحض. فهناك رجال قد وقفوا حياتهم على مساعدة المجذومين، فالحب الذي يشعرون به في مثل هذه الحالة ليس فيه أي عنصر من السرور الجمالي.
والعاطفة الأبوية يصحبها البشر حين يشرق الطفل، ولكنها تبقى قوية حين يغيب هذا العنصر تماماُ. ومن الشاذ أن نسمي عناية الأم بالطفل المريض (عاطفة حب الخير) لأننا نكون تسعة أعشار مدعين في تعودنا استعمال هذه اللفظة لنصف بها عاطفة باهته. ومع ذلك فمن الصعب أن تجد كلمة لتصف بها الرغبة في سعادة شخص آخر. وحقيقة أن رغبة من هذا النوع قد تبلغ أعظم درجة من الشدة في حالة الشعور الأبوي. وفي الحالات الأخرى تكون أقل شدة. وفي الحقيقة يبدو أنه من المحتمل أن كل عاطفة إيثارية هي نوع من فيضان (غمرة) الشعور الأبوي، أو في بعض الأحيان هي إعلاء له. وللافتقار إلى كلمة أصلح سأسمي هذه العاطفة (عاطفة حب الخير) ولكني أريد أن أوضح أني إنما أتحدث عن عاطفة لا عن قاعدة، وإني لا أدرج تحتها أي شعور بالسمو، كهذا الذي يقترن بالكلمة أحياناً. وكلمة (المشاركة الوجدانية) تعبر عن جزء مما أعنيه، ولكنها تترك عنصر الحيوية الذي أود أن أشمله.
والحب في أكمل مظاهره رباط وثيق بين عنصري السرور وتمني الخير، وسرور الأب بالطفل الجميل المفلح، يتضمن كلا العنصرين. كذلك يفعل الحب الجنسي في أرقى صوره؛ ولكن في حالة الحب الجنسي لن توجد عاطفة حب الخير إلا حينما توجد ملكية مضمونة، وإلا ستعصف به الغيرة، في حين إلا حين أنها ربما تزيد السرور في حالة التأمل، والسرور بدون تمني الخير قد يكون قاسياً، وتمني الخير بدون السرور يصبح بارداً وقليل السمو. والشخص الذي يرغب أو يود أن يكون محبوباً، يرغب كذلك أن يكون موضوعاً أو يود أن يكون محبوباً، يرغب كذلك أن يكون موضوعاً لحب يشتمل كلا العنصرين، ما عدا حالات الضعف القصوى، كما في الطفولة والمرض الشديد، ففي هذه الحالات قد يكون (عاطفة حب الخير) هو كل ما يرغب فيه، وعلى العكس من ذلك في حالات القوة القصوى يستحب الإعجاب أكثر من حب الخير، وهذه هي حالة الاحتفال بأصحاب الحول والطول، والغانيات المشهورات؛ ونحن نرغب فقط في تمنيات الغير الطيبة، حينما نشعر أنا في حاجة إلى مساعدتهم أو في خطر من أذاهم، وعلى الأقل يبدو أن ذلك هو المنطق البيولوجي للموقف، ولكنه ليس صادقاً كل الصدق بالنسبة للحياة، فنحن ننشد الود لكي نهرب من الشعور بالوحدة، ولنكون - كما نقول - (مفهومين). وهذا هو أهمية المشاركة الوجدانية، وليس فقط عاطفة حب الخير؛ فالشخص الذي يرضينا وده، لا يجب أن يتمنى لنا الخير فقط، بل يجب أن يعرف في أي شئ تكمن سعادتنا، ولكن هذا ينتمي إلى العنصر الآخر من الحياة السعيدة، وأعني به عنصر المعرفة.
في عالم كامل، سيكون كل كائن حساس، موضوع حب عميق للآخر متآلف من السرور وعاطفة حب الخير والفهم. كل ذلك مختلط بصورة معقدة، ولا يعني ذلك أنه يجب علينا - في هذا العالم الواقعي - أن نجهد في الحصول على مثل هذه الاحساسات تجاه كل الكائنات الحساسة التي نصطدم بها؛ فمنها كثيرون لا نستطيع أن نحس نحوهم شيئاً من السرور، إذ يتقزز منهم بطبيعتهم. وإذا أرغمنا أنفسنا بمحاولة رؤية أي جمال، فإنا نبلد بذلك احساساتنا نحو ما نجده جميلاً حقيقة. وقد لا نعني بذلك الكائنات البشرية فهناك البراغيث والقمل والبق، فإنه لحتم علينا أن نكره أنفسنا بشدة كالبحارة القدماء قبل أن نشعر بالسرور من تأمل هذه المخلوقات. وبعض القديسين - وهذا ثابت فعلاً - قد دعاها (لآلئ الله) ولكن ما كان يسر به هؤلاء الرجال هو فرصة إظهار قداستهم فقط.
من السهل اتساع دائرة حب الخير ولكن إلى حدود معينة. فإذا أراد رجل أن يتزوج سيدة فلا نظن أن من الخير له أن يتراجع إذا وجد شخصاً آخر يريد زواجها، بل علينا أن ننظر إلى ذلك كميدان حر للمنافسة، ومع ذلك فإن مشاعره تجاه أي منافس لا يمكن أن تكون خيرة جميعاً. وأحسب أننا هنا على الأرض عند أي وصف للحياة السعيدة يجب أن نضع نصب أعيننا بعض أسس الحياة الحيوانية والغريزة الحيوانية؛ فبدون هذا تصبح الحياة فاقدة الروح غير ذات أهمية، ويجب أن تكون المدينة شيئاً يضاف إلى هذا لا شيئاً يستعاض به عنها، فالقديس الزاهد والحكيم المتزن يفشلان على هذا الاعتبار في كونهم كائنات بشرية كاملة. وعدد صغير منهم قد يثقف ويزين مجتمعاً، ولكن عالماً مؤلفاً منهم قد يموت من الانحلال.
وهذه الاعتبارات تؤدي إلى توكيد أن عنصر السرور أحد العناصر الجوهرية في أنواع الحب. والسرور - في هذا العالم الواقعي - أمر اختياري لا مفر منه، ويمنعنا من أن يكون عندنا نفس المشاعر تجاه الجنس البشري كله وحينما ينجم التعارض بين السرور وعاطفة حب الخير يجب أن يفضا باتفاق متبادل، لا بالتسليم التام من كليهما، فللغريزة حقوقها؛ وإذا شددنا عليها النكير أكثر من حد معلوم، فإنها تثأر لنفسها بطرق ملتوية، ومن ثم ينبغي أن يكون مدى إمكانيات الإنسان حاضرة في أذهاننا حينما تهدف إلى حياة سعيدة. وها نحن أولاء قد رجعنا ثانية إلى ضرورة المعرفة.
وحينما أتكلم عن المعرفة كأحد العناصر الجوهرية في الحياة السعيدة، لا أفكر مطلقاً في المعرفة الأخلاقية، بل في المعرفة العلمية، والمعرفة ذات الحقائق الدقيقة. ولست أحسب أنه يوجد - وأنا أتكلم على سبيل الحصر - شئ اسمه المعرفة الأخلاقية. فإذا أردنا أن نصيب هدفاً معينا، فإن المعرفة قد ترينا الوسائل. وهذه المعرفة قد تمر مع شئ من التساهل على أنها معرفة أخلاقية؛ ولكني لا أظن أنا نستطيع أن نقرر أي نوع من السلوك هو حق أو باطل إلا بالإشارة إلى نتائجه المحتملة. وتحديد غاية لبلوغها مسألة، العلم هو الذي يكتشف لنا كيف نبلغها. وكل الأسس الخلقية يجب أن تختبر بالتحقيق من أنها تجنح إلى تحقيق الغايات التي نرغبها. وأقول الغايات التي نرغبها لا الغايات التي (ينبغي) أن نرغبها. لأن (ما ينبغي) أن نرغبه ليس شيئاً أكثر مما يريد شخص آخر أن نرغبه. وعادة هو ما ترغب السلطات أن تريده - كالوالدين والأساتذة ورجال البوليس والقضاة - وإذا قلت لي: (يجب أن نفعل كيت وكيت) فإن القوة الباعثة على قولك تكمن في رغبتي في موافقتك لما قد يحتمل من الجزاء أو العقاب المرتبط بموافقتك أو مخالفتك، وما دام كل سلوك يصدر عن الرغبة، فمن الواضح أن الأفكار الأخلاقية ليست لها من أهمية إلا بمقدار ما تؤثر به على الرغبة. وهم يفعلون ذلك رغبة في الموافقة وخوفاً من المخالفة، لأن هذه قوى اجتماعية شديدة: وسنحاول بالطبع أن نكسبها إلى جانبنا إذا رغبنا أن نحقق أي غرض اجتماعي. وحين أقول إن خلقية السلوك يجب أن يحكم عليها بنتائجها المحتملة، أعني أني أرغب أن أرى الموافقة تطلق على السلوك المحتمل أن يحقق أغراضاً اجتماعية، والمخالفة تطلق على السلوك المضاد. وهذا لا يفعل في الوقت الراهن، لأن هناك سننا تقليدية معينة، يقاس بمقتضاها الموافق والمخالف والملائم والمنافر، دون نظر إلى النتائج. ولكن هذا موضوع سنتناوله في الفصل التالي.
إن الزيادة في الأخلاق النظرية لواضحة في حالات بسيطة. فلنفرض مثلاً أن طفلك مريض، فالحب يجعلك تريد أن تشفيه، ولكن العلم هو الذي يخبرك كيف تعمل ذلك. وليس هناك من مرحلة وسطى في النظرية الأخلاقية، حيث يتضح أن طفلك كان يحسن أن يشفى، وفعلك يصدر مباشرة عن الرغبة في الوصول إلى هدف، وأيضاً في نفس الوقت مع معرفة الوسائل إليه. وهذا صادق تماماً في كل الأفعال سواء أكانت خيراً أم شراً. والغايات تتباين، والمعرفة أكثر سداداً وصلاحية في بعض الحالات منها في الأخرى، ولكن ليس هناك من طريق تتصور لجعل الناس يؤدون مالا يرغبون في أدائه، ولكن الشيء الممكن هو أن تغير رغباتهم عن طريق نظام الجزاء والعقاب اللذين من بينهما الموافقة والمخالفة الاجتماعية، لا تقل قوة. ومن ثم فإن المسألة للمشرع الأخلاقي هي كيف يعد نظام الجزاء والعقاب هذا حتى يصون أقصى حد ترغبه السلطة المشرعة؟ فإذا قلت أنا: إن السلطة المشرعة نياتها سيئة، فإني أعني فقط أن رغباتها تتعارض مع رغبات قسم من المجتمع أنتمي إليه، لأنه ليس هناك من مستوى خلقي خارج الرغبات البشرية.
وهكذا فإن ما يميز الأخلاق عن العلم، ليس هو أي نوع خاص من المعرفة، بل هو الرغبة. والمعرفة المحتاج إليها في الأخلاق، هي بالضبط مثل أي معرفة أخرى. والشيء الغريب هو أن هناك غايات يرغب فيها. والسلوك الحق هو الذي يفضي إليها، وبالطبع إذا كان تعريف السلوك الحق يثير رغبات واسعة متعددة، فإن الغايات يجب أن تكون كما يريد أقسام كبيرة من الجنس البشري. فإذا عرفت السلوك الحق بأنه هو الذي يزيد دخلي الخاص، فإن القراء لن يوافقوا، وإن القوة كلها في أية حجة أخلاقية لتكمن في جزئها العلمي، أعني في البرهان على أن نوعاً من السلوك أكثر من سلوك آخر وسيلة لغاية ترغب بشدة. ولكني أميز بين الحجة الأخلاقية والتربية الأخلاقية، فالأخيرة تتوقف على تقوية رغبات معينة وإضعاف أخرى، وهذه عملية مختلفة تماماً ستناقش وحدها في مكان آخر.
ونستطيع الآن أن نشرح بدقة أكثر معنى تعريف الحياة السعيدة. الذي بدئ به هذا الفصل فحين قلت إن الحياة السعيدة تتألف من الحب الذي إليه المعرفة، كانت الرغبة التي دفعتني هي الرغبة في أن ترى الآخرين يعيشون نفس الحياة. والإقناع المنطقي في هذا القول هو أنه في مجتمع يعيش فيه الناس على هذه الصورة، سترضي رغبات أكثر من مجتمع آخر، فيه حب أقل ومعرفة أقل، وأنا لا أعني أن مثل هذه الحياة (فاضلة) أو عكسها (رذيلة) لأن هذه تصورات يبدو لي أن ليس فيها تأييد علمي.
عبد الجليل السيد حسن