مجلة الرسالة/العدد 938/مولانا محمد علي

مجلة الرسالة/العدد 938/مولانا محمد علي

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 06 - 1951



رئيس الجمعية الأحمدية لنشر الإسلام - لاهور - الباكستان

للأستاذ علي محمد سرطاوي

تمهيد

(قدمنا لقراء الرسالة مولانا محمد على في مقال ترجمته له عن مجلة (ليت) الإسلامية التي تشرف عليها الجمعية الأحمدية في لاهور، تقديماً مختصرأن ووعدنا بكتابة مقال مفصل عن حياته المجيدة المباركة. . .

أما وقد بر بوعده صديقي الباكستاني السيد حسين تصدق القاري، فأمدني بما وصل إليه من لاهور عن مولانا محمد علي، فإنه ليشر فني أن أقدم على صفحات مجلة الرسالة الخالدة، أعظم المعاصرين خدمة للإسلام، وأقوى مبشر على الاضطلاع بجلائل الأمور.

والذين تقع في أيديهم ترجمة مولانا محمد على لمعاني القرآن إلى الإنجليزية، وهي تزيد على ألف وثلاثمائة صفحة من القطع الكبير قلما خطر لهم أن هذا العمل قد استغرق سنوات ثمانياً كان يشتغل في كل يوم منها ساعات تزيد في عددها على نصف مجموع ساعات الليل والنهار، وأنه استغرق في ترجمة معاني القرآن إلى الأردية سنوات سبعاً طويلة أخرى، وكان حفظه الله إذا ما أجهده العمل جالسأن راح يعمل واقفاً وراء منضدة مرتفعة عملت خصيصاً لهذه الغاية.

إننا ندعو إلى إقامة حفل تكريمي رائعة لمولانا محمد علي لمناسبة مرور نصف قرن على تطوعه مجاهداً بقلمه تحت راية الإسلام، ونقترح أن تقام في أرض عربية وأن يدعي عظيم المسلمين إلى ذلك الحفل البهيج، من لاهور تقديراً لجهاده وإعجاباً ببطولته، العربية للدراسات الإسلامية ومولانا محمد علي التقى الورع الذي ما انقطع عن أداء صلواته الخمس منذ كان صبياً في المدرسة، وعن صلاة التهجد من الساعة الثانية حتى مطلع الفجر منذ كان في الرابعة والعشرين حتى اليوم، وعن العمل المتواصل ليل نهار دون نصب في نشر مبادئ الإسلام، مثل من أمثلة القدرة الإلهية حين تشاء أن يتم عن طريق البشر ما ليس في استطاعتهم من المعجزات.

ويشاء الله أن يرى مولانا محمد علي الحلم الرائع في سيطرة الإسلام على المبادئ التي يشقى البشر في ظلالها في أوروبا وأمريكا. وسيتم على يد مبادئ الإسلام تحرير الملايين العشرة من العبيد المعذبين في أمريكا الذين لم يستطيع إبراهيم لنكولن اليهودي، تحريرهم في حركته التي لم ترم إلا لبسط ظل اليهود على المسيحيين هناك؛ وسيرى تحرير المعذبين من المنبوذين في الهند، سوف يرى المبادئ الفاسدة والديانات الوثنية في طقوسها فاقدة الحياة على أقدام المبادئ المثالية الخالدة في الدين الإسلامي الحنيف.

ولعمر الحق أن لجوء ألمانيا الغربية في حل المعضلة التي خلقتها الحربان العالميتان المتتاليتان فيها من كثرة النساء وقلة الرجال، إلى السماح بالزواج بأكثر من واحدة زواجاً شرعيأن على الطريقة التي حل بها الإسلام المشكلة نفسها في صدر الجهاد، لنصر كبير لمبادئ الدين الحنيف الخالد.

لقد آن الأوان أن يهب المسلمون في بقاعهم المختلفة، يعرضون في سوق المبادئ، باللغات البشرية جميعهأن ما عندهم من مثل رائعة، ومبادئ سامية، وإنسانية صحيحة، وديمقراطية فطرية، ومساواة تامة، واشتراكية عادلة، على العالم المنهوك الذي يلفظ أنفاسه في ضجيج الآلات وانفجار القنابل الذرية.

ولقد آن للأزهر أن يستيقظ من سبات ألف سنة، وأن يشعر عن ساعد الحد ويتقدم إلى معركة الجهاد الصحيح، ويدخل في مناهجه تدريس عشر لغات على الأقل من لغات البشر المشهورة تدريساً متقناً؛ بحيث يكون في مقدرة خريجي قسم الدعاية الكتابة والخطابة والتحدث بسهولة عظيمة مع أصحاب هذه اللغات متى جاء دورهم للجهاد.

إن البشرية مشرفة على الفناء، والإنسان الذي يشاهد غريقاً ولا يمد له يد المساعدة، وهو يستطيعها؛ إنما هو إنسان غير كريم، والنبي العربي لم يخلق إلا ليتمم مكارم الأخلاق، فأدوا هذه الرسالة الأخلاقية الإنسانية أيها المسلمون.

وإذا قدر للصفحات التالية التي تفضلت الرسالة الغراء، ينشرهأن عن حياة مولانا محمد علي، أن تظهر للذين يقاومون المنكر بأضعف الإيمان، ما يصنع الإيمان الصحيح من المعجزات عن طريق العمل الخالص لوجهه تعالى، فقد وفقت إلى بعض ما ذهبت إليه في نشرها على المؤمنين. ومن يدري؟ فلعل ما فيها من حقائق تدفع العرب وهم مادة الدين إلى تأسيس الجمعيات التي تبشر بمبادئ الدين في الأقطار البعيدة، أسوة بالجمعية الأحمدية في لاهور.

وأتوجه، وأنا في نهاية هذا التمهيد إلى حياة مولانا محمد علي، بالدعاء إلى الله أن يمد الله في عمره المبارك المجيد، وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدم من خير للاسلام، وأن يحفظ الله الدولة الإسلامية الجبارة الفتية الباكستانية، وأن يمكن لها في الحياة ويعزها بالنصر، ويكلأها بعنايته. كما أتوجه بالشكر الجزيل للأستاذ محمد طفيل كاتب هذا المقال الرائع عن مولانا محمد علي، الأستاذ العلامة الباكستاني السكرتير المساعد للجمعية الأحمدية في لاهور الذي نشرة في مجلة (ليت) عدد (أيار 24 عام 1949)

لا مشاحنة في أن الحركة الأحمدية في التاريخ مدينة إلى مولانا محمد علي في الاتجاه الذي رسمه لها فسارت نحوه في خطوات وئيدة راسخة. ومن المحقق أنها كانت تكون حركة تختلف عما هي عليه الآن، لو لم يكن فجرها الذي أشرق على الظلام الذي اكتنفها في الوجود، إذ ورث عن مؤسس القاديانية ميزا غلام أحمد علمه الرائع العظيم في سيطرة الإسلام على جميع بقاع أوربا وأمريكا.

ومن المحتمل أن يكون قد ولد، ذلك الغلام الذي قدر له أن يترجم معاني الكتاب المعجز الخالد إلى الإنجليزية في قرية مرار الصغيرة التابعة لحكومة كابور ثالا في الهند ويتصل نسبه بأسرة عريقة في حسبها ونسبهأن فهو الابن الخامس لحافظ فاتح الدين زعيم القرية المذكورة.

وحينما بلغ الخامسة من عمره، أرسله أبوه مع أخيه مولانا عزيز بوخاش إلى المدرسة القريبة في قرية دباليور المجاورة، وكان أخوه أكبر منه بأربع سنين أو خمس وبعد مرور سنوات ثلاث عليهما في هذه المدرسة، أرسلا إلى المدرسة العليا في كاربو ثالا وبقيا فيها حتى أتما الدراسة الثانوية عام 1890.

وامتازت حياته في المدرسة بالذكاء والجد. وحينما كان يرجع إلى مسقط رأسه في مرار لقضاء عطلة الصيف كل سنة، كان يحرص على مشاركة القرويين في ألعابهم؛ ولاسيما في اللعبة التي كان يحب ممارستها كثيراً؛ ألا وهي لعبة (الكايادى). وكان إذا عاد إلى المدرسة يلعب (الكركيت) وبعض الألعاب الأخرى.

وقد امتاز في هذا الوقت من عمره بالميل الشديد إلى الصدق والاستقامة في العمل والقول، والسير في ركاب الفضيلة والخلق القويم.

ولم يتعلم تجويد القرآن وتلاوته قبل الذهاب إلى المدرسة، ولكنه انصرف إلى إتقان ذلك من تلقاء نفسه، فعكف على القراءة وصبر على احتمال الصعوبات حتى أصبح يجيد التلاوة والتجويد.

ولما أتم دراسته الثانوية، كانت رغبة أبيه تتركز في أن يتمم دراسته الجامعية على الرغم من سوء حالته المادية، ولكنه استعان على كل ذلك بالصبر والجلد والعزيمة وأرسله إلى الجامعة في لاهور.

وقضى هناك خمس سنوات في الدرس المتواصل والاجتهاد فنال درجة بكالوريوس في العلوم عام 1894 ودرجة أستاذ في العلوم عام 1895.

وامتاز في دراسته الجامعية، كما امتاز في دراسته الثانوية، بالذكاء والنبوغ، وكان موضع إعجاب الجامعة بأسرها. وقد اختار اللغة العربية وتعمق في دراستها الجامعية، دون أن تكون من مواضيع اختصاصه، إذ كان الأول في الرياضيات في جامعة البنجاب وحينما طلب مرة شهادة من أحد أساتذته كتب له فيها: (أنه أحسن طالب في الرياضيات في جامعتنا) وبعد حصوله على شهادة البكالوريوس في العلوم، أخذ يستعد للحصول على شهادة الأستاذية في العلوم، فاختار اللغة الإنجليزية وتخصص فيها وعكف على دراسة آدابها فبلغ في ذلك شأوا بعيدأن وكان من بين الطلاب الخمسة الذين حصلوا على هذه الشهادة من جامعة البنجاب من مجموع ثلاثة وعشرين طالباً تقدموا للحصول عليها.

والغريب في حياته الجامعية، أنه لم يشترك في أي نشاط أدبي مهما كان نوعه، ولم يكتب في تلك الجامعة أي موضوع للنشر، ولم يرتق منصة الخطابة للتحدث عن أي موضوع، وأكثر من ذلك لم تبدر منه أية بادرة تدل على تلك الثروة الأدبية الرائعة المخزونة في ذكائه النادر، والتي قدر لها في مستقبل حياته أن تصنع المعجزات في خدمة الدين الحنيف. إنما كان منصرفاً إلى الألعاب الرياضية في أوقات فراغه في الجامعة ولاسيما لعبتي الكر كيت وكرة القدم. وحتى هذا الهدف وهو في الخامسة والسبعين من عمره السعيد المجيد المبارك، يخرج في الصباح مبكراً للسير مسافات لا يستطيعها من كان في مثل سنة، وإلى هذا الميل إلى الرياضة، يعزى السبب الأول في تمتعه بالصحة الجيدة في عمر من هذا النوع

وبعد اجتيازها امتحان البكالوريوس في العلوم اختارته الكلية الإسلامية في لاهور أستاذاً للرياضيات فيهأن وهو لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وهو لا يزال مرتبطاً بجامعة البنجاب في استعداده على فحص الأستاذية في العلوم. وحينما حصل على الشهادة الأخيرة، التحق بكلية الحقوق في الجامعة نفسها وكان الثاني والأول والثالث في ترتيبه في امتحانات السنوات الثلاث في القانون في تلك الجامعة، وبذلك حصل على شهادة الحقوق بامتياز.

وفي عام 1897 ترك التدريس في الكلية الإسلامية وانضم إلى مدرسة اللغات الشرقية في لاهور وبقي أستاذاً فيها حتى عام 1900 وحين ترك عمله في هذه المدرسة ليتمرن على المحاكاة في جورادسيور اتجه اتجاها جديداً لم يدر له على خاطر أو يمر له على بال. ذلك أنه أمضى في تمرينه في تلك المدينة ثلاثة أشهر، ولكنه ترك ذلك العمل استجابة لرغبة ميرزا غلام أحمد القادياني مؤسس الحركة الأحمدية في تاريخ عام 1890، ليرأس تحرير مجلة (ريفيو أف ربلجن) التي أزمع تأسيسها لحمل رسالة الإسلام إلى أوربا وأمريكا.

وترجع صلة مولانا محمد علي بمؤسس الأحمدية إلى عام 1892 حينما زار حضر مزرا غلام أحمد مينة لاهور، فذهب الشقيقان لزيارته، لكثرة ما كان يصل إلى مسامعها في قربتهما من أخبار صلاحه وتقواه، تلك القرية التي لم تكن لتبعد عن (قاديان) مسقط رأس المجدد غير عشرين ميلاً. وقد سمعا من حديثة أن الوقت قد حان لسيطرة الإسلام على بقاع الأرض بأسرهأن متأثراً بدعوته تأثراً عميقاً.

وفتحت هذه الحادثة صفحة جديدة في حياة مولانا محمد علي ولو لم يقدر له التاريخ الاتصال بشخصية مؤسس الحركة الأحمدية الجبارة والتأثر بهأن لما كان أعظم شخصية حية الآن في عمق الاطلاع على الدين الإسلامي.

وبعد انضمامه إلى الحركة الأحمدية، بقي ثلاث سنوات في لاهور، كان يزور فيها قاديان وينقل إلى اللغة الإنجليزية النشرات والكتب التي كانت تصدر عن مرزا غلام أحمد.

وكان الوصول إلى قاديان في تلك الأيام عسيراً جداً؛ لأنها كانت تبعد أثنى عشر ميلاً عن بانالأن أقرب محطة لسكة الحديد، ولأن قطع هذه الأميال صعب جداً لوعورة الطريق، ولكن مولانا محمد علي، كان الرغم من تلك، يذهب أيام السبت من كل أسبوع في صحبة بعض الأصدقاء سيراً على قدمية، ويعود صباح الأحد لمواصلة أعماله في الكلية.

وحينما أراد العمل في المحاماة والتمس النصح والإرشاد من المجدد، فأشار عليه أن يتريث قليلاً في الأمر، لأنه يفكر في إصدار مجلة تحمل رسالة الإسلام إلى أوروبا وأمريكأن وأنه يرغب في أن يتولى تحرير المجلة والإشراف عليهأن فاستجاب للرغبة الكريمة، وأقلع عن فكرة الاشتغال بالقانون، وعكف على عمله الجديد بكل ما أوتي من عزيمة، كان يغذيها الإيمان العميق بالرسالة السامية التي وقف حياته عليهأن وأخذ الذكاء الجبار الجيش، ويتحرك في النفس العظيمة المؤمنة، وراحت العبقرية الفذة تنطلق إلى آفاق العمل بأجنحة من نور، ومضت المقالات المركزة تتحرك إلى ميادين المعارك في أوروبا وأمريكأن تحمل في طياتهأن بلغة إنجليزية أنيقة، يطل من وراء كلماتها خيال شرقي رائع جميل، لإيقاع العالم بما في الإسلام من جمال وروعة وحلول عملية لأعقد مشاكل الحياة، ولقد مرت عليه خمسون سنة وهو لا يكل ولا يمل في هذا العمل المجيد الذي كان توفيق الله حليفه فيه.

البقية في العدد القادم

علي محمد سرطاوي