مجلة الرسالة/العدد 939/عقيدتي

مجلة الرسالة/العدد 939/عقيدتي

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 07 - 1951



للفيلسوف الإنكليزي المعاصر برتر اندرسل

للأديب عبد الجليل السيد حسن

الفصل الرابع

الخلاص الفردي والاجتماعي

إن إحدى نقائص الدين التقليدي هي فرديته، وهذه النقيصة ترجع أيضا إلى الأخلاق المقترنة، وكانت الحياة الدينية دائما بالتقليد حوارا بين الروح والله، فإن تطع إرادة الله، فذلك هو الصلاح. وكان ذلك في إمكان الفرد الذي يهمل حالة المجتمع تماما، وقد نشرت الفرق البروتستانتية فكرة (وجود المخلص) ولكنها كانت دائما موجودة في التعاليم المسيحية، وهذه الفردية في الروح المفارق كان لها قيمتها في مراحل معينة من التاريخ، ولكننا في العالم الحديث في حاجة إلى تصور اجتماعي للخير أكثر من التصور الفردي. وأود أن نرى - في هذا الفصل - كيف يؤثر هذا في تصورنا للحياة السعيدة.

ظهرت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية بين شعوب مجردة من القوى السياسية، قد تحطمت حكومتها القومية وارتبطت بكتلة ضخمة فاقدة الشخصية، وفي أثناء القرون الثلاثة الأولى من العصر المسيحي، كان الأفراد الذين اعتنقوا المسيحية لا يستطيعون أن يغيروا النظم الاجتماعية والسياسية التي كانوا يعيشون في ظلالها على رغم أنهم كانوا مقتنعين تماما بفسادها. وأثناء هذه الظروف كان من الطبيعي أن يؤمنوا بالاعتقاد بأن الفرد من الممكن أن يكون كاملا في عالم غير كامل، وأن الحياة السعيدة ليس لها شأن بهذا العالم. وقد يتضح معانيه أكثر بالمقارنة بجمهورية أفلاطون؛ فحينما أراد أفلاطون أن يصف الحياة السعيدة، وصف المجتمع ككل لا كأفراد، وقد فعل ذلك ليحدد العدالة التي هي معنى اجتماعي جوهري، فقد كانت حقوق (الجمهورية) مألوفة لديه، وكانت المسؤولية السياسية عنده قضية مسلمة، وحينما فقد اليونان حريتهم إلى دور ظهور الرواقية، التي هي - كالمسيحية وليست كأفلاطون - في تصورها الفردي للحياة السعيدة.

ونحن الذين ننتمي إلى ديمقراطيات عظيمة، سنجد عند الآثينيين الأحرار أخلاقا أكثر ملائمة مما نجد لدى الإمبراطورية الرومانية صاحبة السلطان المطلق. وفي الهند حيث الأحوال السياسية مشابهة تماما لما كان في أرض المعاد في زمن المسيح، نجد غاندي يحث على أخلاق مشابهة جدا لأخلاق المسيح، ويعاقبه من أجلها خلفاء بلاطس المسيحيون، ولكن الوطنيين الهنديين المتطرفين، ليسوا راضين عن الخلاص الفردي، فهم يريدون خلاصا قوميا، وهم في هذا قد أخذوا بنظرة الديمقراطيات الغربية الحرة، وأريد أن أذكر بعض الجوانب التي جعلت هذه النظرة - بسبب المسيحية - إلى الآن خالية من القوة والوعي والكفاية، بل ما زال الاعتقاد في الخلاص الفردي يقيدها.

والحياة السعيدة كما نتصورها تحتاج إلى عدد عظيم من الشروط الاجتماعية التي لا يمكن أن تتحقق بدونها. والحياة السعيدة كما قلنا هي الحياة التي يلهمها الحب وترشدها المعرفة. والمعرفة المتطلبة لا توجد إلا حيث تقف الحكومات وأصحاب الملايين أنفسهم على اكتشافها ونشرها؛ فمثلا انتشار السرطان شئ مخيف، وماذا يجب علينا أن نعمل بازائه؟ في الحالة الراهنة لا يستطيع أحد أن يجيب عن هذا السؤال، لنقص المعرفة. والمعرفة ليس من المحتمل أن تظهر وتكتشف إلا بالبحث الموقوف عليها. ومرة أخرى معرفة العلم والتاريخ والأدب والفن، يجب أن يحصل عليها كل من يرغب فيها، وهذا يقتضي استعداد متعدد النواحي من جانب السلطة العامة، ولا يبلغ إلى ذلك عن طريق التحول الديني. وحينئذ فهاهنا تجارة خارجية بدونها يموت جوعا نصف سكان بريطانيا العظمى. وإذا متنا جوعا، فإن قليلا منا سوف يحيون الحياة السعيدة. ولا داعي لأن نكثر من الأمثلة، ولكن النقطة المهمة هي أنه من بين كل ما يفرق بين الحياة السعيدة والحياة السيئة، هو أن العالم وحده، وأن الإنسان الذي يدعي أنه يعيش مستقلا طفيلي، سواء شعر بذلك أم لم يشعر.

وفكرة الخلاص التي كان المسيحيون الأولون يعللون بها أنفسهم لخضوعهم السياسي تصبح مستحيلة بمجرد أن نتخلى عن التصور الضيق للحياة السعيدة، ففي تصور المسيحية السليمة أن الحياة السعيدة هي حياة الفضيلة والصلاح، والفضيلة في إطاعة إرادة الله، وإرادة الله تتضح لكل إنسان خلال صوت الضمير، وهذا تصور أناس خاضعين لسلطة مطلقة أجنبية مستبدة، والحياة السعيدة تشمل كثيرا، بجانب الفضيلة - الذكاء مثلا - وكثيرا ما يكون الضمير مرشدا مضللا، لأنه يتضمن ذكريات غامضة لمدركات منذ الطفولة، ولذلك فهو ليس أحكم من صاحبته المربية أو الأم. ولكي يحيا المرء الحياة السعيدة بأتم معانيها، يجب أن ينال قسطا وافرا من التربية، وأن يكون الأصدقاء والحب والأطفال - إذا أرادهم - ودخل كاف ليحفظه من العوز والقلق، وصحة جيدة، وعمل ليس بالممل. وكل هذه الأشياء بدرجات متفاوتة، وتعتمد على المجتمع؛ وتساعدها أو تعوقها الأحداث السياسية. والحياة السعيدة لا تكون أبدا إلا في مجتمع سعيد، وليست بممكنة في عالم ليس كذلك.

وهذا نقص أساسي في المثل الأرستقراطي الأعلى، فبعض الأشياء الصالحة مثل الفن والعلم والصداقة، يمكن أن تزدهر أيما ازدهار في مجتمع أرستقراطي، فقد وجدت في اليونان على أساس الرق، وتوجد بيننا على أساس الاستغلال والتسخير؛ ولكن الحب في صورة المشاركة الوجدانية وحب الخير لا يمكن أن يوجد وحده طليقا في مجتمع أرستقراطي. فالأرستقراطي يقنع نفسه بأن الرقيق أو الأجير أو الرجل الملون من طينة أدنى فإيذاءهم لا يهم وإن الرجل الإنجليزي المثقف في الوقت الحاضر ليضرب الأفريقيين بشدة، حتى أنهم يموتون بعد ساعات من الألم الفظيع. وأنا لا أستطيع أن أقول أن هؤلاء المهذبين - حتى ولو كانوا متعلمين جيدا وفنانين ومحدثين لطافا - يحيون حياة سعيدة، فإن الطبيعة البشرية لتضع بعض الحدود للمشاركة الوجدانية، ولكن ليس بدرجة مثل هذه. وفي المجتمع ذي الوعي الديمقراطي لا يسلك هذا المسلك إلا المهووس وتحديد المشاركة الوجدانية التي يشتمل عليها المثال الأعلى الأرستقراطي لهوسها. والخلاص مثال أرستقراطي لأنه فردي، ولهذا أيضا لا تصلح فكرة الخلاص الشخصي - مهما أولت ووسمت - لتعريف الحياة السعيدة.

وطابع آخر من مميزات (الخلاص) وهو أن ينجم عن تغيير محني (نتيجة محنة) كتحول القديس بولص وأشعار (شلي) تقدم صورة لهذا المعنى تنطبق على المجتمعات، فاللحظة تحين حين يتغير كل إنسان (وتطير الفوضى واختلال الحكم) (ويبدأ عمر العالم العظيم من جديد) ولكن: قد يقال إن الشاعر ليس بذي أهمية، وأفكاره لا نتيجة لها؛ ولكني أقول: إن جزءا كبيرا من القواد الثوريين كان لديهم أفكار مثل ما لدى (شلي) إلى حد بعيد، فقد فكروا في أن البؤس والقسوة والانحطاط ترجع كلها إلى الظلمة، أو القسس أو الرأسماليين، أو الألمانيين. ولو طرحت منابع الشر هذه لحدث تحول عام في القلوب، ولعشنا جميعا سعداء أبدا. ولاعتقادهم في مثل هذه الاعتقادات فقد أريد منهم أن يستمروا في (الحرب حتى تنتهي الحرب) وبالمقارنة نجد أن المحظوظين هم هؤلاء الذين عانوا الهزيمة والموت، وهؤلاء الذين حالفهم سوء الحظ، فظهروا كمنتصرين، كانوا في حاجة إلى شئ من احتقار اللذات أو الكلبية المسيحية، وكانوا بائسين بتحطيم كل آمالهم البراقة، والمنبع النهائي لهذه الآمال كان العقيدة المسيحية في التحول المحني كطريق للخلاص.

وأنا لا أريد أن أقول إن الثورات ليست بضرورية مطلقا، بل أريد أن أقول أن إنها ليست أقرب الطرق إلى عودة المسيح وليس هناك من طريق مختصر إلى الحياة السعيدة سواء أكانت فردية أم اجتماعية، ولكن لكي نشيد حياة سعيدة علينا أن نشيد الذكاء وضبط النفس والمشاركة الوجدانية، وهذا أمر كمي؛ أمر إصلاح تدريجي وتدريب مبكر وخبرة تربوية. والذي يجعل مكانا للاعتقاد في الإصلاح المفاجئ هو عدم الصبر فقط، والإصلاح التدريجي الممكن، والطرق التي يبلغ إليه بها، أمور قد تكفل بها علم المستقبل، ولكن في مقدورنا أن نقول شيئا الآن، وطرفا مما يمكن قوله. وسأحاول معالجته في ختامي.

عبد الجليل السيد حسن