مجلة الرسالة/العدد 940/كشف أدبي مهم:

مجلة الرسالة/العدد 940/كشف أدبي مهم:

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1951


ترجمتان لقصة (المعراج)

أحدهما لاتينية والأخرى فرنسية

للمستشرق الإيطالي أمبرتو ريزيتانو

الأستاذ بجامعة فؤاد الأول

من المعروف أن دانني ألجيري شار إيطاليا العظيم الذي عاش فيما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر - قد وضع ملحمة فذة هي (الكوميديا الإلهية) التي تعتبر أنضج ثمار الآداب الإيطالية، ولعلها أسمى تحفة فنية ظهرت حتى الآن، وقد ترجمت الكوميديا الإلهية إلى جميع لغات العالم، كما نقلت نثراً إلى اللغة العربية، أو بالأحرى لخصت في هذه الترجمة العربية رحلة دانتي إلى الجحيم والأعراف والجنة.

وكثيراً ما نقب العلماء والباحثون أثناء القرن الماضي عن المصادر التي استقى منها دانتي فكرته في وضع الكوميديا. وطالما تساءل المهتمون بالدراسات الخاصة بالشاعر الإيطالي ومعاصريه من الكتاب عما إذا كانت فكرة دانتي في ملحمته مبتكرة أو مقتبسه. ولقد مضت على ذلك سنوات دون أن يتقدم هذا البحث تقدما مرضياً، ودون أن يتعدى الأمر مرحلة الترجيح. وذلك لأن الباحثين لم يكن في استطاعتهم أن يحصلوا على البراهين القاطعة في هذا الموضوع. أما في أوائل القرن العشرين فقد تطورت الأبحاث الخاصة بالمصادر التي استقى منها دانتي فكرته، وتمت بفضل مجهودات المستشرق الأسباني آسين بلاثيوس الذي أخرج إلى الناس في سنة 1919 بحثا قيما عنوانه:

أي (العقيدة الإسلامية في الكوميديا الإلهية) فلما ظهر هذا البحث كان له وقع عظيم في نفوس المهتمين بالدراسات الدانتية، ولا سيما أولئك الذين لا يشكون في أصالة فكرة الشاعر الإيطالي. ولقد امتاز بلاثيوس في هذا المؤلف بدقة التحليل والتعليل على عادته في كل ما بحثه وكتبه أثناء حياته من البحوث العلمية الخاصة بالاستشراق. وكان بلاثيوس يعتمد في بحثه هذا على تبحره في دراسة الفلسفة العربية والعقيدة الإسلامية، وبصفة خاصة على إلمامه الوافي بكل ما يخص النشاط العلمي والثقافي في بلاد الأندلس في الوقت الذي التقى فيه الشرق الإسلامي والغرب المسيحي التقاء أدى إلى ازدهار رائع في الآداب والفنون والعلوم.

هذا وقد أشار بلاثيوس في مؤلفه إلى ما بين الكوميديا الإلهية والعقيدة الإسلامية الخاصة بالبعث والقيامة وخلود النفس من تشابه وتقارب، كما أشار إلى ما في الكوميديا الإلهية من صلة بالحديث المعروف عن قصة (المعراج).

أشار بلاثيوس إلى هذا كله إشارة وافية. ومن فرط افتتانه بالموضوع الذي استهواه وتملكه نسب إلهام دانتي في وضع منظومته الخالدة إلى المفكر الصوفي ابن عربي الأندلسي الذي عاش في القرن الثالث عشر. وسرعان ما استفاض الحديث عن هذا البحث واتجهت إليه أنظار المهتمين بالموضوع الذين انقسموا كما هي العادة في مثل هذه الظروف إلى فريقين: فريق أيد نظرية بلاثيوس وفريق عراضها، وظل الفريق المعارض غير مقتنع باستنساخ الباحث الأسباني القدير على دقتها ولا موافق على آرائه بالرغم من دلالتها على علمه المتين وثقافته الرصينة. والواقع أن بحث بلاثيوس كان بضعفه عدم الإشارة إلى السبل التي وصل منها الأفكار الإسلامية إلى دانتي، وذلك لانقطاع الصلة المباشرة بينه وبينها، وكان الأولى أن يشير بلاثيوس إلى تلك النصوص الإسلامية الأصيلة أو المترجمة التي لابد أن يكون دانتي قد اطلع عليها قبل وضع منظومته إذا صح أنه استلهمها من العالم العربي الإسلامي كما أكد بلاثيوس. وبعد معركة حامية بين الفريقين المؤيدين والمعارضين لكثرة ما أثاره هذا البحث من اختلاف الآراء وافتراق الأهواء؛ خيم السكون على هذا الموضوع مدة من الزمن دون أن يصل الفريقان إلى تسوية ما بينهما من اختلاف، ودون أن يقتنع فريق برأي الفريق الآخر.

ظلت الأمور على هذه الحال حتى نشر المستشرق الإيطالي مونيري دي فيبار في عام 1944 مؤلفا هاما عن دراسة الإسلام في أوربا أثناء القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ولفت واضعه أنظار الباحثين إلى مخطوطين: أولهما مكتوب باللغة الفرنسية ومودع بمكتبة أكسفورد؛ والآخر مكتوب باللغة اللاتينية تملكه المكتبة الأهلية بباريس، وكلاهما يشتمل على ترجمتين غريبتين لقصة المعراج كما رواها أهل الحديث، وافترض المستشرق الإيطالي إذ ذاك أن الترجمتين أصلهما واحد وجاء من بعده المستشرق الإيطالي تشيرولي ودرس المخطوطين وسرعان ما اثبت بطريقة لا تحتمل الشك صدق نظرية (مونتيري) وقد نشر أخيراً هذين المخطوطين وأضاف إليهما كل ما استطاع إضافته من المقدمات والحواشي والتفسيرات لتوضيح المسألة التي كانت موضع الخلاف.

أما المخطوط المشتمل على الترجمة اللاتينية فعنوانه

وأما المخطوط الفرنسي فعنوانه

ومعناهما (كتاب معراج محمد) وهو ملف غفل لم يعرف واضعه للآن، ترجم أولاً من اللغة العربية إلى اللغة القشتالية (نسبة إلى قشتالة) من لغات أسبانيا، وكان الذي قام بترجمته هو (إبراهيم العقيم اليهودي) الذي كان طبيباً ببلاط الملك الصالح الأسباني، كما نقله فيما بعد من هذه اللغة إلى اللغتين المذكورتين آنفاً الكاتب الإيطالي. بونافنتورا داسينا الذي كن سكرتيرا ببلاط الملك السالف الذكر في منتصف القرن الثالث عشر.

وبالرغم من أن المترجم الإيطالي قد اعتمد في نقله إلى اللغتين اللاتينية والفرنسية على الترجمة القشتالية لا على النص الأصلي؛ فإن كل ما في المخطوطين اللذين قام تشيرولي بنشرهما، من المصطلحات والعبارات والتراكيب والأسلوب يدل دلالة قاطعة على أن النص الأصلي إنما هو نص عربي، كما يدل أيضاً على عروبته أسماء الأماكن وأسماء الأعلام وذكر الآيات القرآنية الكريمة الواردة فيهما. ولولا ذلك لما ذكر المترجم الإيطالي بونافنتورا داسينا جملاً عربية كاملة مكتوبة بالأحرف اللاتينية؛ في إمكان القارئ الملم بلغة الضاد أن يعيدها إلى أصلها العربي بكل سهولة مهما طرأ عليها من التحريف، ولكن ماذا يا ترى يكون ذلك النص العربي المجهول؟ ومتى ألف؟ ومن عساه أن يكون مؤلفه؟

يمكننا بالرغم من عدم استطاعتنا الإجابة عن هذه الأسئلة كلها - أن نثبت على الأقل أن المصدر العربي الذي أستيقن منه الترجمات الثلاث لابد يكون كتابا عربياً يشتمل على قصة المعراج كما كانت تروي في بلاد الأندلس في القرن الثالث عشر. وبمجرد أن ترامي إلى سمع الملك ألفونس المذكور وجود قصة ظريفة من هذا النوع أمر بترجمتها حتى يستطيع علماء الغرب أن يطلعوا عليها.

هذا وقد يتساءل الباحث عما إذا كانت ترجمة من هذه التراجم الثلاث كانت معروفة في إيطاليا أثناء القرون الوسطى؟ والإجابة في هذه المرة لابد أن تكون بالإعجاب؛ إذ ورد ذكر هذا الكتاب الخاص بقصة المعراج في مؤلفين من مؤلفات كاتبين إيطاليين، عاش أحدهما في منتصف القرن الرابع عشر وعاش الآخر في أواخر القرن الخامس عشر، وليس هذا إلا دليلاً على انتشار المعلومات عن العقائد الإسلامية وفلسفة العرب في بلاد أوربا ولا سيما في إيطاليا في القرون الوسطى. هذا ولم يقتصر المستشرق في تشيرولي على نشر الترجمتين الفرنسية واللاتينية؛ وعلى ملخص الترجمة القشتالية، فحسب بل أضاف إلى ذلك قسماً آخر يبرهن على هذا الذيوع، كما أضاف قسما ثالثا جمع فيه كل الشواهد التي تثبت هذا الانتشار، وعلى رأسهما حوار جرى بين النبي محمد (ص) وعبد الله بن سلام اليهودي، ترجمه إلى اللاتينية أرمانو الدلماطي سنة 1141 - نقلاً عن الكتاب المعروف باسم (رد الكلام في مسائل عبد الله بن سلام).

وقد يتساءل الإنسان كذلك عن قيمة البحث الذي قام به المستشرق تشيرولي والإجابة عن ذلك أنه نجح كل النجاح في إيضاح المسألة على أساس أمتن من الأساس الذي وضعها عليه المستشرق الأسباني.

كذلك يمكن التساؤل عن موقف تشيرولي في هذا الموضوع. لقد كان المستشرق الإيطالي شديد الحذر عند الإشارة إلى تأثير هذه المعلومات الإسلامية على فكرة دانتي؛ ولذلك اجتهد في أن يثبت آراءه بأكثر مما يلزم من الأدلة وذكر أن من المحتمل كثيراً أن يكون دانتي قد تأثر بقصة المعراج بصفة عامة عندما خطرت بباله فكرة رحلته إلى الأقاليم الثلاثة؛ ولكنه لم يصل إلى الجزم بأن الملحمة مأخوذة بتفاصيلها مأخوذة عن قصة المعراج كما فعل بلاثيوس!

أمبرتو ربزيتانو