مجلة الرسالة/العدد 941/حول مستقبل الأزهر:

مجلة الرسالة/العدد 941/حول مستقبل الأزهر:

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 07 - 1951



الاستقرار أولا

للأستاذ كامل السيد شاهين

إنا وما نكتم من أمرنا ... كالثور إذ قرب للناخع

أو كالتي يحسبها أهلها ... عذراء بكرا، وهي في التاسع!

كنا نرى فيها، فقد خرقت ... واتسع الخرق على الراقع!

إذا كانت الهزات الاجتماعية، والحروب الكاسحة، معوقة للتقدم العلمي، حائلة بين ركب الحضارة وبين الخطو للأمام، فإن الزلازل التي بلى بها الأزهر منذ ست عشرة سنة، جديرة أن تهزه هزا عنيفا يكاد يفقده سمعته العلمية، ويشكك الناس في رسالته، حتى ليوشك أن يبقى اسما فارغا تحته واقع من الفوضى العمياء، والتهويش المخرب، والجهل العميق، والجعجعة الكذوب!

وإذا كان الأزهر في فتائه وإخلاصه للعلم، واستفراغ جهود أبنائه في الدرس، وتوفرهم على البحث - لم يستطع أن يساير الركب إلا لاهثا منهوكا، فأحر به وقد انصرف بنوه رؤساء وأساتذة وطلابا إلى الشغب والاضطراب، وتنور الحركات السياسية المشئومة، والجري معها كما تهوى الأغراض والمنافع، وإرسال الخطب تغريرا بصغار الطلاب ومغفليهم، أحر به وقد انصرف بنوه إلى ذلك كله أن يكبوا كبوا لا يسرع معه إلى النهوض، وأن يكون بمبعدة من ركب الحياة النشط الجاد، لا يدركه إلا بالعجزة بخرق العادة، وتأتي بما وراء الظنون!

امتازت السنوات التي قضاها الشيخ الأحمدي شيخا للأزهر (بين سنة 29 وسنة 34) بأنها كانت مخلصة للعلم والدرس والنظام، ولقد أفاد الطلاب والأساتذة على السواء من هذه النهضة المباركة، ولا يزال من أصابوا حظهم من الدراسة في هذه الفترة، على قدر من الثقافة الأزهرية المؤصلة التي لا تحوج إلا إلى قدر يسير من المعاودة والمراجعة، ليستوي صاحبها عالما ملما متهيئا للإفادة

ولئن كان الشيخ الأحمدي قد أثم أكبر الإثم بما جارى من السياسة الغشوم باشا في تلك الفترة، فأرهب الطلاب والأساتذة، واتخذ بعض العلماء عيونا على بعض، وعاقب بالظنة، وبطش البطشة الكبرى بمن تحوم حولهم شبهة، وكان غليظ القلب في مصادرة الأرزاق، وتشريد الأسر، حتى أصبح الأزهر كله فرقا يموج بالدس والنفاق، وصار أساتذته في ذلة واتضاع من قلة الرواتب وسوء الحال. . . لئن أثم الشيخ الأحمدي هذا الإثم كله لقد ازدهرت الناحية التعليمية في عهده كل مزدهر، وآتى الاستقرار ثمارا لا تزال حلاوتها ملء الأفواه إلى يوم الناس هذا

وأقبل عهد الشيخ المراغي فكان فيه الخير والشر. كان خيره على الجيوب والبطون، وكان خيره على الكرامة الأزهرية والسمعة الخارجية الداوية، وشره كان على العلم والاستقرار، وكان على الإنتاج التحصيل والإعداد

حينما ثار العلماء والطلاب بالشيخ الأحمدي، وهتفوا بالشيخ المراغي، كانت دعواهم الإصلاح والنهوض. فإن كان الإصلاح الذي يريدون إصلاح الرواتب وإصلاح الجو الأزهري، وإصلاح سمعة الأزهر، فقد تحقق لهم من ذلك بالشيخ المراغي كثير مما يبغون. وإن كان الإصلاح الذي يرجون إصلاحا علميا، ونهضة واثبة لتحقيق رسالة الأزهر، فقد ساروا في ذلك خطوات فسيحات، ولكنز. إلى الوراء!

جاء الشيخ المراغي وفي صدره حب طاغ للأزهريين بعامة، وللطلاب بخاصة. وانثغرت الثغرة الأولى في عامه الأول، فلم تتم المقررات، ليس في الكليات وحدها، بل في المعاهد كذلك، ونادي منادون أن تريث المشيخة بالامتحان حتى يتم الطلاب دروسهم شرحا. وكان حل لهذا المشكل، ولكن على حساب العلم؛ فأوحى إلى وضاع الامتحان أن يكون في المقروء لا في المقرر، فكان هذا بدء الانثلام

وبعد هذا بدأت إضرابات واضطرابات كان يعالجها الشيخ بكثير من الرفق، وفق هوى الطلاب. فاستشعر الطلاب أنهم جانب ذو بال في تسيير دفة الأمور، فعزلوا وولوا، وكان ممن عزل بالهتاف والوقيعة، وممالأة الطلبة، الشيخ الضرغلمي شيخ معهد أسيوط، والشيخ السرتي شيخ معهد طنطا، وأمر أمر الطلاب إلى حد كبير حتى كانت المشيخة تتنور اتجاهاتهم ورغباتهم لتسير كما يطوع هواهم

نسيت المشيخة أن الطلاب لهم قلوب وآراء واتجاهات، وأن شراء ذممهم بالمال تربية سافلة، وسنة قذرة يجب أن تتوقاها مشيخة كريمة جهد التوقي نسيت المشيخة أنها بذلك تعلم رجال الأحزاب احتقار الأزهر وآله الذين يسخرون بالدراهم، ويسيرون بالرشا. . ولقد ذهب الطلاب إلى الدكتور ماهر ذات يوم يطلبون إليه أمرا من أمور الأزهر، ويذكرونه فضلهم في خدمة الحكومة القائمة. فأجابهم: أما ما تذكرون من الفضل. . فلا. . فقد قبضتم الثمن!

هذا العمل كان جديرا أن يصدر من شيخ غير المراغي العظيم، ولكن الشيخ - غفر الله له - باع الأزهر في سبيل الكيد والمغايظة، ولم يعبأ بانتقاء السلاح الذي ينبغي له استعماله

إن من الإجرام أن يسير الأزهر في ركاب حزب من الأحزاب. وإن من الإجرام أن يحاول حزب من الأحزاب أن يلون الأزهر بلونه. يجب أن تتوقى الأحزاب جرجرة الأزهر واستغلاله في مهاترتها ومناوراتها ومكايدها. وإذا كان لا بد للأزهر أن يتحزب، فليتحزب تحزبا إسلاميا يتفق مع دراسته ورسالته

لقد كان من الآثار الباقية لهذه الحركة المشئومة أن آمن الطلاب والأساتذة من يومئذ بأن الاضطراب أمر مشروع تسنه المشيخة وتباركه وتكافئ عليه وتدعو له، وأن الامتحان مأمون الخطر ما دام في المقروء، وما دام الأساتذة في أيدي التلاميذ، يقرءون ما أراد الطلبة لهم أن يقرءوا، وينتهون إلى حيثما يريد الطلبة بهم أن ينتهوا. . وتخرج على هذا الوضع متخرجون هم في الجهالة ما هم!

وانتهى عهد الشيخ المراغي وقد خلف للأزهر فسادا شاملا وسننا من أسوا ما ضرب للمتعلمين في أي معهد من معاهد التعليم

فإذا كان للشيخ مناح محمودة مشهودة من خلقه ووفائه، ومن عزته وإبائه، ومن علمه وجلالته، ومن حفاظه وكرامته. فليس هذا عليه بمنكور، ولكنا لسنا بصدد التحدث عن ذلك؛ وإنما نحن بصدد الحديث في أمر الفوضى والاستقرار، فليطرد فيه الكلام حسب

من بعده تولى الشيخ مصطفى عبد الرزاق، وقد جاء وصدره تتزاحم فيه الآمال. وأنهى إلى الأزهريين أنه راغب أن يدفعهم إلى الأمام بكلتا يديه. . ولكن مثقلة من انحلال خلقي، وتكتل إقليمي، ونزوع للفوضى، مما يحتاج في علاجه إلى صلابة وجه، وشدة جسم. . . أمر يتكاءد رجلا موفور الحياء، جم التواضع، بالغ الرقة، كالشيخ مصطفى أن ينجح في علاجه وتصفيته. إذن فقد مضت الأمور آخذة أخذها القديم، ولم يتأذن الله للشيخ مصطفى أن يغير من أمر الأزهر شيئا، ولم يكن الشيخ بطبيعته رجل هذا التغيير. . لقد مات الشيخ مصطفى مغيظا حزينا متأثرا بنداءات خشنة مجانبة للذوق والأدب، صكت سمعه في حرم الأزهر. . لقد قتل الشيخ مصطفى مظلوما. . ظلمه النقراشي باشا إذ ولاه - على رغمه - مشيخة الأزهر!

وما كاد الشيخ مأمون يقتعد كرسي المشيخة، حتى قرب وباعد، وسر وساء، ولكن في مدى معقول غير متطرف، وسار في الأزهر سيرة تعد مزيجا من (الدودشة) والدهاء. والحق أنه عزم ليردن الطلاب إلى الدرس والنظام وليقيمنهم على الطريق، وحاول ذلك جاهدا، وأذن في المفتشين ليرابطن كل مفتش في معهد لا يرميه شهرا، ثم ينتقل إلى آخر ويخلفه مفتش آخر، وكانت سيرة محمودة لو كتب لها النجاح. . ولكن ثقل النظام على الطلاب، وبرم الأساتذة بالدرس المستقر، فتلمسوا الفرص - وما أكثرها - ورجعوا لما اعتادوه من الفوضى والشغب. وحاول الشيخ أن يعالج هذا الاضطراب بضبط الامتحان؛ ولكن الطلاب قد دخل في روعهم - من قبل - أن النجاح حق لهم، وأن الغش حل، بل يدافعون عنه بالهراوي والمدي والغدارات. . . وفعلها الطلاب، ودخلوا بالكتب، وزادوا عن حقهم ما أطاقوا، وكانت حوادث، وظهر من شيوخ المعاهد من يحمي الغش ويدافع عنه ويواطيء الطلاب عليه، وظهر من الأساتذة المراقبين من يدير ظهره ليراقب المشرفين حتى إذا بدا منهم أحد اتجه إلى الطلاب يزجوهم إخفاء ما استعلن. غير أن بعض الشرفين آثر الأمانة في معهد قنا، وصدق المشيخة ما هنالك، فألغت الامتحان، وكانت هذه خطوة جريئة مشكورة

ولكن الشيخ أدركه الهرم، واضطربت أعصابه، وبقي مع ذلك يصرف شؤون الأزهر، ويقوم عليها مصبحا ممسيا، فخرجت الأمور معتلة مختلة، ولم تجن المشيخة ثمار الحزم، وعاد الطلاب إلى الفوضى والاضطراب على أشنع وجه وأبشع صورة

ومما زاد النقمة على الشيخ أنه شايع السياسة، واضطهد الإخوان المسلمين حين كانت السياسة تضطهدهم، وكان جديرا بمشيخة الأزهر أن ترفع يدها فلا تحارب قوما يؤدون رسالة هي لباب رسالة الأزهر ومخهاز وأياما كان فقد أسف الشيخ شر إسفاف بجريه في تيار السياسة التي يجب أن يباعد بين الأزهر وبين رذائلها جهد المباعدة وما كاد الشيخ عبد المجيد سليم يتولى المشيخة حتى أعلن أزله خططا منهجية يريد الأخذ بها، ولكنه فوجئ بمطالب، ونوهض بمصاعب، ردته عما كان يولي وجهه شطره من إصلاح. ثم أدركه الضعف فدخل مجلس الأزهر عنصر سياسي يتكلم باسم الحكومة، ويقدم طلبات المشايعين لها، ويتعصب لهم ويحمل المجلس على احتظائهم؛ لأن في رفض طلبه إهانة للحكومة واستخفافا بها، والنار والدمار للمجلس وللأزهر كله، إذا لم تسمع كلمة الحكومة، ولم يستجب لندائها

وقرب على هذا الأساس ناس، وبوعد ناس، وعاد شيخ الأزهر بعد مرضته ليلقى باليدين وبالجران لهؤلاء الذين يتكلمون باسم الحكومة، بلا مخالفة ولا اعتراض، لأن في المخالفة الشر كله

ولقد ضخم الوهم من أمر العنصر الطارئ ما ضخم حتى صارت إشارته حكما، والاستجابة له غنما، وحتى أصبح المجلس بوقا ينفخ فيه واحد فتخرج منه أصوات كثيرة عدد أعضاء المجلس الموقر، كلها منسجمة ملتئمة، لا شذوذ فيها - بحمد الله - ولا نشوز

وإذا كنا نستنكر من الشيخ المراغي أن يجيش الأزهر عام 1938 لمحاربة الوفد، فإننا نستنكر على هذا العهد أن يطا من رأسه كذلك للرغبات الحزبية أيا كان مصدرها

وإذا كنا نعز الأزهر عن أن يسير في ركاب محمد محمود والنقراشي وعبد الهادي، فإننا نعز الأزهر كذلك عن أن يسير في ركاب مصطفى النحاس

وإذا كان الهتافة في عهد السعديين مسلطين على رقاب الأزهريين، وكان الهتافة في الوفديين مسلطين على رقاب الأزهريين، فإن ذوي الكفاءات جديرون أن يعفوا أنفسهم من الجهد والعمل والجد، وأن يتربصوا بالزعماء في دورهم وفي أفواه الطرق وأعراض السرادقات هاتفين مصفقين، أولا، فليتخذوا غير الأزهر مكانا يحترم العلم، ولا يضعف أمام الحزبية كما فعل الدكتور محمد يوسف موسى

على أن الحكومة ما تفتأ تنادي بتلطيف حدة الحزبية، فيعلن وزير فيها أنه وزير للعلم لا للسياسة، ويصرح آخر بأنه يربأ بنفسه أن يكون عضوا في حكومة لا تحترم الكفاءات. . . فهل سمع الأزهر. . . وهل وعى؟

يجب أن نعالج الأزهر أولا بالاستقرار، ودعم الاستقرار لا يكون إلا بالقضاء على الجرثومة الخبيثة، جرثومة الحزبية، ثم يطلب منه أن يؤدي رسالته. فأما وهو على هذا النحو، فأمر من يبغون منه الخير، أمر من يطلب من مريض المفاصل أن يسير وثبا، وهو في كل لحظة يكب لوجهه كبا!

هذا ما رأينا من حال الأزهر، صورناه كما علمناه غير متجنين على أحد، ولا محابين أحدا. ونحنن نعلم أن ذلك سترم له أنوف، وتوغر منه صدور، ولكنا آثرنا أن نضع الأمور في نصابها، ليعلم امرؤ أن التاريخ غير راحم، وليرى أين يضع نفسه

كامل السيد شاهين

المدرس بمعهد القاهرة