مجلة الرسالة/العدد 942/شاعر مجهول

مجلة الرسالة/العدد 942/شاعر مجهول

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 07 - 1951



للأستاذ حسني كنعان

لقيني بالأمس القريب صديق فاضل من أسرة الجندي الدمشقية فقال لي فيما قال:

- لقد أنكرت فضل الرجل وما عافت له حقه. قلت:

- أي رجل بعني. .؟ قال:

- أعني عميد أسرتنا وشاعر سورية المجلي) (الشيخ أمين الجندي). . إن جميع ما ذكرته من موشحات وقدود وأشعار في فصل أسق العطاش الذي نشرته في الرسالة الغراء منذ أمد هي من نظمه، فقطعة يا غزالي كيف عني أبعدوك، وتيمتني هيمتني عن سواها شغلتني، واسق العطاش تكرماً. . . هي من نظمه. . فلماذا لا تطلعني على مقالك قبل نشره في الرسالة ليكون بحثك كاملا من كل جهاته. .؟ قلت:

- كيف أستطيع أن أتأكد من ذلك. .؟ قال:

- أنا أطلعك على ديوان له مطبوع قد حوى في طياته هذه اللطائف والرقائق. . وكنت أسمع عن هذا الشاعر الشي الكثير ولكني مع الأسف الشديد لم أقع على ديوانه. فألفيتها فرصة سانحة أن يعرض على أحدهم هذا العرض الذي وافق هوى في نفسي التواقة إليه، وذلك أملاً في أن أنصف الرجل. . مضت مدة من الزمن دون أن يفي هذا الصديق بوعده، فذكرت ذلك لصديق آخر من أفراد هذه الأسرة وهو المحامي السيد (تاج الدين) الجندي نجل العلامة الشيخ سليم الجندي أستاذ الطنطاوي، والأفغاني، والجيرودي، والعطار، وصاحب محاضرة المعري التي أعجبت الأستاذين الجليلين معالي طه حسين باشا وصاحب العزة أحمد أمين بك في المهرجان الألفي للشاعر المعري.

فأخذني نجل علامتنا إلى مكتبه، ودفع إلى الديوان للاطلاع عليه. . . فعكفت على دراسته عكوف الهائم الولهان. فوجدت فيه من الدرر واللآلئ ما يصلح أن أحلي جيد هذه الصحيفة به. فالديوان يحوي قدوداً وموشحات وأشعاراً غزلية وصوفية كنا هائمين بها ومعجبين بقائلها قبل أن نعرف مصادرها ومواطنها. . وبقدر اطلاعنا على هذا الديوان الفذ ازددنا عجباً وإكباراً لهذا الشاعر. وها أنا ذا إظهاراً للحقائق وتمشياً مع السنة التي درجت عليها من إحياء ذكرى الأعلام في ربوعنا في هذه الصحيفة التي فتحت صدرها لمثل هذ البحوث، وعودتنا على طرق بابها، دون أن توصده في وجه من يبغي نشر فضائل بني قومه من الأعلام المجهولين. . جئت مقدما شاعرنا المجهول المغموط الحق بهذه المقدمة الموجزة. .

الشيخ أمين الجندي شاعر مطبوع. ولد بمدينة حمص سنة 1180 ولقد جاء في مقدمه ديوانه ما ننقله بالحرف الواحد بلغة أهل ذلك العصر. .

هو عالم زمانه وشاعر عصره، الحسيب النسيب، مداح المختار الحبيب، الشيخ أمين بن خالد أغا الجندي العباسي. وبعد أن تلقى علومه في حمص على خيرة علمائها توجه إلى دمشق وقرأ على علمائها الأعلام وأخذ الأوزان الشعرية من الشيخ عمر اليافي، ولما رأى فيه هذا الذكاء النادر قال له:

أذهب فأنت أشعر أهل الغرام. فصار الشعر فيه سجيه والبلاغة له عطيه، يرسم القصائد الفريدة والموشحات المفيدة والمواليات العديدة، بحيث لم يكن يمضي عليه يوم يخلو فيه من نظم ونثراه إلى آخر ما هنالك من أقوال كثيرة وردت في المقدمة تمسك عن الاسترسال بسردها لئلا يمل القاري وكلها على هذا الديوان أن الشاعر كان معاصراً للقائد الكبير إبراهيم باشا قائد الحملة المصرية، وفاتح سورية ولبنان وغيرهما من البلاد العربية. ولقد عثرت في الديوان على مقطوعة مدح بها هذا الفاتح العظيم بقوله له:

بوق ابتسام الليث في موقف الخطر ... وخف باسمه إن غاب يوما أو حضر

وكن بطلا شهما شجاعا ولا تكن ... جبانا جزوعا قاصر الباع والنظر

فإن الجبان الوغد ما بين قومه ... يعيش ذليلا سئ الحال محتقر

ولسنا إذن في دولة قيصرية ... ولا أهل ملك كسروي كما اشتهر

ومن مصر مذ سرنا بأمر عزيزها ... كشفنا ظلام الجور والبغي والضرر

(وبارودنا) كالبرق والرعد لم تزل ... صواعقه ترمي وتحرق بالشرر

وكم حافر بئرا ليوقعنا به ... فخاب وأمسى واقعا بالذي حفر

ومسمر نار للعناد وعندنا ... بحار لها تطفي وتغرق من سمر

ولكننا في عز دين مؤيد ... وشرع بوحي جاء من سيد البشر

وإنا بحمد الله في خير دولة ... لو اعزها في الخافقين قد انتشر ومنا سيوف للمنايا تجردت ... على عنق الأعداء بل أسهم القدر

وليس كإبراهيم في موقف الوغا ... هز براً يرى الأعداء حلما إذا اقتدر

همام بهاب الأسد سطوة بأسه ... وترجف منه الراسيات إذا زأر

له همة في الحرب أضحت علية ... وعزم يقد الصلد والصارم الذكر

به ملة الإسلام عزت فأصبحت ... متوجة بالعدل والأمن والظفر

وأذكى صلاة الله ثم سلامه ... على خير مبعوث إلى الخلق من مضر

فلا زلت في عز العزيز الذي غدا ... لأهل العلا شمسا وأنت لهم قمر

مدى الدهر ما (الجندي) أنشد قائلا ... بوق ابتسام الليث في موقف الخطر

فقالت هذه القصيدة حظوة في عين القائد المصري العتيد وقرب صاحبها إليه وجعله في بطانته، ولقد أفسحت هذه الحظوة المجال أمام الجندي الشاعر، وغدا كبيرا في أعين الدمّاشقة بين قومه، وصار يقصده علية القوم وسراتهم لقضاء حاجاتهم عند الباشا الفاتح، وأوقف شعره في هذه المرحلة على مديح الباشا متكسباً على فرار ما كان يفعله أبو الطيب المتنبي مع سيف الدولة. وقد غدا أتبع إليه من ظله، يصحبه معه للدعاية في كل قطر حل به فطمعه هذا العطف الأريحي به، وجعل شعره في هذه الرحلات مقتصراً على مديحه والدعاية له، فوجد الفاتح في هذا الداعية المطبوع على الشعر خير نصير له في إظهار عظمته، فزاد في إكرامه وإعزازه، وصار يصحبه في روحاته وجيئاته، وكان كلما قدم إلى دمشق أو رحل عنها متنقلاً في أفياء دولته المترامية الأطراف، التي أقام دعائمها على الأسلات والشفرات، رأى الجندي في ذلك الفرص السائحة لإسماعه فيه ما يرغب، وما يرهب به الخصوم، ويفت في سواعدهم من الظهور أمامهم بهذه الأماديح الخالدة بظهور الفاتح المرضى عنه التي يعبده شعبه وتفتديه رعاياه وتفديه بأرواحها، ومما قاله فيه بعد وصوله إلى دمشق قادماً من قونية وهو معه سنة 1248 هـ وكان قد فتح عكا، ودك حصونها وقلاعها دكا: قال في ذلك

نحن الأسود الكاسرة ... نحن السيوف الباترة

من أرض مصر القاهرة ... سرنا وقد نلنا المنى

بارودنا شراره ... تشوي الوجوه ناره وعزمنا بتاره ... من العدا أمكننا

نحن بنو الحرب فلا ... نخشى غبارا إن علا

ولم نضق عن البلا ... صدرا إذا الموت دنا

عاداتنا أخذ الرجال ... بالبيض والسمر العوالي

ونارنا بالاشتعال ... لهيبها يبدي السنا

جهادنا لا ينكر ... في كل قطر يذكر

وسيفنا إذ يشهر ... للنصر يبدي معلنا

(أبو خليل) في الحروب ... لا زال كشاف الكروب

وحين يدعى للركوب ... بالبيض يغزو والقنا

لما غزونا عطا ... (بالطوب) دكت دكا

وللأعادي أبكى ... هجومنا وأخذنا

صبحا علونا سورها ... وقد هدمنا دورها

أما برى قصورها ... قد حلها هدم البنا

ويوم حمص لو برى ... على العداة ما جرى

وقد علا فوق الثرى ... صرعى يقاسون الفنا

هناك أضحوا هالكين ... وفي دماهم غارقين

وانحل عقد الظالمين ... وحل بالباغي العنا

ولحماة مع حلب ... سرنا وجد بنا الطلب

ولم نجد ممن هرب ... إلا طريحا في ضنى

وقد أطلنا قهرهم=لما أسرنا صدرهم

ومن ولينا أمرهم ... بالذل مالوا نحونا

هذا وهذا كله ... عزيز مصر أصله

وليس يخفى فضله ... دوما على أهل الثنا

فنسأل الله المعين ... بحرمة الهادي الأمين

يديمه للمسلمين ... مولى مغيثا محسنا أما القصيدة الأولى فقد نقلتها من الديوان منتخباً منها هذه الأبيات المنشورة آنفاً ومطلعها: توق ابتسام الليث إلى آخر الأبيات: وأما القصيدة الثانية: نحن الأسود الكاسرة فلقد أتحفنى بها العلامة الشيخ جميل الشطي مفتي الحنابلة بدمشق منذ علم أني أعد فصلاً للرسالة عن هذا الشاعر المجهول. . . والقصيدة مدونة عنده منذ القديم ومنشورة في كتاب له. . . ولقد جاء في نهاية هذه الحادثة أن الشاعر كوفي عليها من الباشا بـ 100ليرة عثمانية ذهباً، وكان لها وقع عظيم لدى الباشا الممدوح. وفي الديوان قصائد كثيرة منها قصيدة يمدح بها محمد علي باشا الكبير مؤسس الأسرة العلوية وباعث نهضة مصر الحديثة. نرجى نشرها في عدد قادم يأتي، لأن ديواناً يحوي على 450 صفحة لا يمكن أخذ فكرة عن صاحبه في مقال واحد. . فإلى اللقاء يا عزيزي القاري في العدد القادم

دمشق

حسني كنعان