مجلة الرسالة/العدد 943/هل الأدب قد مات؟

مجلة الرسالة/العدد 943/هل الأدب قد مات؟

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 07 - 1951


الدولة تخنق الأدب!

- 3 -

للأستاذ سيد قطب

قبل أن نولد تلك المخلوقة الهزيلة المفككة المسماة: جامعة الدولالعربية. . كانت هنالك جامعة ضخمة قوية راسخة للأمة العربية خلقتها الأقلام: أقلام الأدباء والشعراء والكتاب والمفكرين والعلماء. .

. . . وكانت هنالك صلة وثيقة بين كل قلب وقلب وكل روح وروح وكل فكر وفكر في شتى أقطار العربية، يحملها الكتاب، وتحملها الصحيفة، وتحملها الجريدة، ويلتقي عليها المثقفون والقراء في شتى الأقطار.

وظلت جامعة الدول العربية تتسكع وتتلكع، وظلت تجتمع لتنفض، وتنفض لتجتمع، والأمة العربية تسمع جعجعة ولا ترى طحنا، وترى المؤتمرات والموائد ولا تجد وراءها عملا، بينما جامعة الفكر والقلم تؤدي دورها، وتقوم بواجبها، وتنشر الوعي العربي والإسلامي في أقطار العرب جميعها. . .

ولكن الدولة في مصر يجب أن يكون لها عمل. وما يكون عملها إذا لم تخنق الفكر، وتضع في يديه ورجليه الأغلال، وتفصم هذه العرى المقدسة التي كونتها الأجيال.

ما عملها إذا لم يكن هو تقييد تصدير الكتب من مصر إلى البلاد العربية - ومصر هي التي تقوم في الطور الحاضر بدور القيادة - والبلاد العربية هي السوق الأولى لما تنشره مصر من كتب ومن أفكار وتوجيهات؟

لقد فعلتها على عين جامعة الدول العربية وسمعها! فعلتها بمعرفة وزارة المالية التي أصدرت قرارا بمنع تصدير الكتب من مصر. فلما نبهناها إلى الخطر الكامن في هذا الإجراء (الروتيني) الذي اتخذته بجرة قلم، وهو أخطر ما يصيب الروابط العربية بقاصمة الظهر!. . لما أن نبهناها إلى هذا عادت فقالت: إلا بترخيص خاص يتفق عليه مع المسؤولين! وفي ذات الوقت رفعت رسوم البريد على تصدير الكتب من أربعة قروش للكيلو إلى أثنى عشر قرشاً. ثلاثة أضعاف كاملة فوق عقبات التصدير.

فما معنى هذا الإجراء وذاك في عالم التصدير؟

معنى تقييد تصدير الكتب إلا بترخيص خاص لكل صفقة.

. . . معناه العملي الصريح الذي يجب أن نكشفه للدولة الغافلة. . . هو إفساح المجال للمساومة والارتزاق بين المصدرين وبين المسؤولين! فهل هذا ما قصدته الدولة تيسيرا على موظفيها المختصين؟!

ومعناه كذلك أن نوعا من الكتب يمكن أن يتعرض للضغط والمطاردة والقتل. . . هو الكتب الإسلامية على وجه خاص. ولا احب هذه الإشارة العارضة أن أزيد!

ومعنى رفع رسوم التصدير هو خلق العقبات في طريق الفكر لأن هذه الرسوم سترفع ثمن الكتاب إلى حد معقول وتمنع الإقبال عليه في البلاد العربية، فيختنق الفكر في مورده ومصدره على السواء. وتتعرض الروابط الفكرية بين الأمة العربية للتفكك والانحلال. . وكل ذلك على مرأى من جامعة الدول العربية ومسمع، كما أسلفت الحديث!

إن الدولة لا تتخذ هذا إجراء مع الصحف، إنما تتخذه مع الكتاب وحده. . فلماذا؟

إن الصحف المصرية - إلا النادر القليل - مؤسسات دولية لا مصرية ولا عربية! مؤسسات تساهم فيها أقلام المخابرات البريطانية والأمريكية والفرنسية، والمصرية والعربية أخيراً! مؤسسات تحرر صفحات كاملة منها بمعرفة أقلام المخابرات هذه لتروج في أوساط الجماهير. مؤسسات تخدم الرأسمالية العالمية أكثر مما تخدم قضايا الشعوب العربية. وتخدم الاستعمار الخارجي والجهات الحاكمة قبل أن تخدم أوطانها وشعوبها الفقيرة.

وهذا هو السر في أن الدولة لا تفرض عليها القيود التي تفرضها على الكتب. لأن وراءها أقلام المخابرات ومصالح الرأسمالية العالمية، وهي كفيلة بأن تسندها، وتذلل لها العقبات وتفسد لها الطريق لنشر دعايتها المستورة في أطراف البلاد العربية جميعا. فإذا كان من بينها صحف قليلة من صحافة الرأي والكفاح الفقيرة التي لا تستند إلى هذه القوى الدولية والمحلية. . فهي تنتفع بتسهيلات التصدير ضمنا وعن غير قصد، لأنه لا يمكن استثناؤها.

وحسبها وسائل المضايقة الأخرى وهي كثير!

أما الكتب فقلما تخدم هذه الأغراض التي تخدمها الصحافة، ومن ثم فالدولة تطاردها على هذا النحو. وكلما كانت موضوعاتها غير مرغوب فيها لسبب من الأسباب، فهناك أداة المضايقة حاضرة في الحصول على ترخيصات مفردة يتفق بشأنها مع المسؤولين! وهذه هي حكمة مراجعة أولئك المسؤولين!

ومرة أخرى نتجه إلى تلك المخلوقة الهزيلة المفككة المسماة: جامعة الدول العربية لنسألها: فيم وجودها إذن إذا كانت لا تلتفت إلى هذا الخطر الكامن وراء قيود تصدير الكتب ورفع تكاليف التصدير؟

فيم وجودها إذا كانت لا تدرك أن أساس وجودها وقيامها كلها مهددة بالانهيار، حين تنتهي تلك القيود إلى تقطيع أواصر الفكر والروح بين هذا العالم المترامي الأطراف، المقفل الحدود، الذي لا تجمعه رابطة أقوى من روابط الفكر والروح!

لقد كان الاستعمار وما يزال حريصا على تقطيع هذه الأواصر. وهذه هي فرنسا في الشمال الإفريقي كله، تعد الكتب المصرية بين المحرمات الممنوعة، لأنها تعرف أنها رابطة قوية خطرة على الستار الحديدي الذي تريد أن تضربه بين عرب المغرب وعرب الشرق، وثغرا في تلك الأسلاك الشائكة التي تقيمها على الحدود!

فهل هذا ما تريده الدولة في مصر، وما تريده تلك المؤسسة الهزيلة المفككة؟ أم كيف تسير الأمور؟

إن حجة توفير الورق للتموين في مصر حجة لا تنهض في هذا المجال، وإلا لنهضت في مجال الصحافة كذلك. فالصحف هي التي تستغرق الجانب الضخم من كميات الورق وليست الكتب المحدودة الأعداد والمقادير.

فإذا كانت أقلام المخابرات الخارجية والداخلية ومصالح المؤسسات الرأسمالية وما إليها تشفع للصحف الضخمة. . . أفلا يشفع للكاتب أنه الرابطة الأساسية من روابط الفكر والروح بين الجميع؟

إن القراء في البلاد العربية هم القراء الحقيقيون للكتاب المصري الجاد. فشبابنا في مصر مشغولون بصحافة الأفخاذ والنهود، وبأفلام السينما الداعرة، وبأغاني المخنثين المترهلين. .

إنه لا وقت لديهم لقراءة الكتب. . فجراح القلوب. والقلوب التي في البريد. . والكتب الشهرية التافهة على أكثر تقدير، هي زادهم اليومي الذي عودتهم عليه الأفلام المترهلة والكتاب الداعرون. . .

وإنه لا بد للكتاب الجيد أن يجتاز الحدود المصرية ليؤدي رسالته للأمة العربية، ثم ليعيش.

وما لم يكن هدف الدولة في مصر هو خنق الفكر. فإن كل قيود التصدير يجب أن تلغى، وخزانة الدولة يجب أن تبحث لها عن مصدر آخر غير الزيادة في أجور شحن الكتب بالبريد.

ومرة أخرى لابد أن نتوجه إلى وزير المعارف المصري الأديب.

إنه طه حسين. طه حسين الذي يعرفه الناس أديبا قبل أن يعرفوه باشا أو وزيرا. فأين هو والدولة تخنق الأدب خنقا بيد من حديد؟

إنه في فرنسا!

نرجو له سلامة العودة. ونرجو منه تحطيم هذه القيود.

سيد قطب