مجلة الرسالة/العدد 944/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 944/رسالة النقد

مجلة الرسالة - العدد 944
رسالة النقد
ملاحظات: بتاريخ: 06 - 08 - 1951



في عالم النقد

السلسلة والغفران

مسرحية جديدة للأستاذ علي أحمد باكثير

في عنق النقد للأستاذ علي أحمد باكثير، دين كبير فقد أنفق الأستاذ شبابه وهو لا يفتأ يضيف إلى المكتبة العربية ثروة هي أشد ما تكون افتقاراُ إليها بقصصه ومسرحياته التي يخرجها تباعاً والنقد لا يكاد يتابعها! ولقد قاربت مؤلفاته - فيما أعلم - العشرين، وما احسب النقد أولاها عشرين كلمة منه!

إن النقد مقصر جداً في ذات الأستاذ علي أحمد باكثير، وفي ذات الفن الذي ينهض به صابراً جلداً محتملاً أشد صنوف التضحية والجهد والحرمان، وإني لمحاول أن أسد قليلاً من هذه الثغرة السحيقة، بتناول مسرحيته الجديدة التي ظفرت بجائزة وزارة المعارف - وإن كان ذلك ليس مما يسمو بها - والتي سماها السلسلة والغفران)

وإذا أردنا أن نلخص هذه المسرحية في كلمات فإنه يمكن أن نقول: -

إن عبد التواب بن صالح المقدادي اعتدى على (غيداء) زوجة صديقة الحميم (قاسم المغربي) في أثناء غيابه عنها، فلما حملت منه وأراد إخراج ثمرة الإثم من أحشائها، ماتت عند إجهاضها، وعاش (عبد التواب) حياته بعد لك نادماً، وصار كاسفاً حزيناً، وركبه هم مقيم مقعد لما أتى من منكر شديد

وسارت الأيام، وتزوج عبد التواب من الفتاة الصغيرة كوثر ابنة (إسماعيل المرزوقي)، ثم حدث أن اضطر إلى الغياب عنها في تجارة له مع الشام مع صديقه وشريكه قاسم المغربي وتركها في بيته وليس بها أثر من حمل، ثم عاد فلم يجدها في بيته وإنما وجدها في بيت أبيها مريضة ملازمة فراشها، ثم عرف أنها ليست مريضة وإنما هي حبلى!. وعرف أن الذي أحبلها إنما هو مستور شقيق (غيداء) ضحيته من قبل!

ولكن عبد التواب يتستر على زوجته كوثر ويعود بها منزله، ثم تضع كوثر حملها، وتأتي بغلام سموه أسامة يصطنعه عبد التواب على عينه، وينشئه في ظله وبيته، ويتخذه عين له!

وتسير الأيام ويتزوج هذا المعتدي الجديد مستور من فوز شقيقة قاسم المغربي وتضطره الحياة هو الآخر إلى الغياب عنها حيث يستدعي إلى ميدان القتال في حلب، فيمضي إليه مخلفاً عروسه الشابة ولما يمض على زواجها غير أسبوعين ثم يعود هو الآخر كذلك فيجدها حبلى! فما هو إلا أن يمسك بالسكين ويهوي بها على عنقها فيذبحها ذبح الشاة!

تقع هذه الحوادث تباعاً يلاحق بعضها بعضاً، وفي صور متماثلة، وعبد التواب هناك غارق في ندمه واستغفاره وضراعته إلى الله أن يعفو عما جن، حتى كلت قواه، وضعفتن منته، وأحس قرب نهايته، فدعا إليه بأم (غيداء) واعترف لها بجريمته، ثم دعا إليه كذلك بزوجها قاسم المغربي واعترف له كما اعترف لهان وطلب منهما العفو والمغفرة، وألح عليهما في ذلك كثيراً حتى غفرا له وسامحاه، فغفر الله له وسامحه، وانقطعت السلسلة التي كانت متصلة الحلقات بقدرة أحكم الحاكمين، ولولا ذلك لظلت السلسلة متصلة تتناول واحداً من الناس بعد واحد إلى نهاية لا يعلمها إلا علام الغيوب!. .

. . . هذا ملخص المسرحية ولبابها، وهو - كما ترى - بسيط سهل قريب المأخذ، يوشك أن يكون حكاية كتلك الحكايات التي نسمعها في بيوتنا من الآباء والأجداد والعقدة في هذه المسرحية ذات غور ضحل تكاد أن تلمس بيدك، أو قل أنه لا عقدة فيها على الاطلاق. . . ولكن الأستاذ علي أحمد كثير - وهو المؤلف المقتدر والمسرحي البارع - استطاع أن ينفخ في هذه الحوادث البسيطة، وأن ينفث فيها، فحواره ولا شك قوي نابض، وأشخاصه أحياء يتكلمون، وليسوا كلاماً ما يجري على أفواه أشخاص هم أقرب إلى التماثيل المنصوبة كما يفعل الكثير من مؤلفينا الأفاضل، وبهذا استطاع الأستاذ أن يجعل من الحبة - كما يقولون قبة!

وقد بنى الأستاذ مسرحيته على نظرية (كما تدين تدان) ونص على ذلك صراحة، فجعل الجاني في كل مرة مجنياً عليه في المرة التالية، وهكذا انكسرت السلسلة بفضل استغفار (عبد التواب)!

ووجه الرأي عندي أن نظرية (كما تدين تدان) ليست من واقع الحياة في شيء، فليس كل معتد عليه غدا، فقد يسلم المعتدي من كل سوء، وقد يقضي حياته في جرائم متصلة دون أن يناله أذى أو قصاص! ولكنها نوع من المثالية التي يبغي الأستاذ أن تكون قوام الحياة وهيهات أن تكون!

على أن الناس لو آمنوا بنظرية (كما تدين تدان) أشربتها نفوسهم حقداً وصدقاً، لكان قعودهم عن إيتان الجرائم إنما هو عن يقين منهم بأنها ستحيق بهم عليهم، لا عن إيمان بأن الجريمة في ذاتها شر يجب على الإنسان ذي الخلق القويم أن ينأى بجانبه، ويكف عن ارتكابه، سواء أدى إلى الإضرار بصاحبه أو انتهى إلى إسعاده، فإن السعادة الناجمة عن ارتكاب الجريمة - في نظري ذي الخلق القويم - إنما هي سعادة وحشية ينبغي الترفع عنها واحتقارها. والأستاذ المؤلف يعلم أن الكثير من الجرائم يؤدي إلى سعادة مرتكبيها، وهو يعلم أيضاً أن مصائب قوم عند قوم فوائد!

. . . هذا شيء: وهناك شيء آخر كنت أود أن أقف به طويلاً مع الأستاذ علي أحمد باكثير ومع المؤلفين عام، ولكن هذه الكلمة لا تتسع له ولا تفي به، وسأتناوله فيما أكتب من فصول في انقد، ولكنني أشير هنا إشارة عاجلة. .

ذلك أن المؤلف الذي يخلق في مسرحية من مسرحياته مثلاً، شخصية رجل مجرم، يرتكب في المسرحية جريمة تضطرب لها النفوس وتغضب وتثور، ثم ينزل المؤلف بهذا المجرم ما يستحق من قصاص في نفس المسرحية فأنه بذلك لا يكون قد فعل شيئاً!! إن المؤلف الذي يفعل ذلك يكون قد قام بدور المؤلف والقارئ معا، ولعله يجهل أن للقارئ دوراً هاماً في مؤلفه!! أي أثر يستبقيه المؤلف إلي يفعل ذلك في نفس القارئ وقد أرضاه بهذا القصاص إلي أنزله المجرم فهدأ به ثورته ومحابه وغضبه؟ وجعله يخرج من مشاهدة المسرحية أو من قراءتها سعيداً مسروراً مستريح البال ناسياً كل ما كان؟

يجب أن يفهم المؤلف أن القارئ ليس طرفا في الموضوع فحسب، بل أنه الطرف الأهم الأعم، إن القارئ هو الحياة ومن واجب الكاتب أن يجعل الحياة - أي القراء - تحارب الجريمة وتضطهدها وتعاقبها وتمحقها رويداً رويداً، وبهذا وحده تتطهر الحياة من الشرور والآثام، وبهذا وحده تتطور الحياة وتتقدم، أما أن يجمع الكاتب بين وظيفة الكاتب والقارئ معاً، فلا يترك القارئ إلا بعد أن يجرده من كل عاطفة ومن كل انفعال، فلا سخط ولا إعجاب ولا ثورة ولا غضب ولا شيء من أمثال هذه العواطف،. . . فإن هذا الكتاب لم يزد على أنه كان يزجى فراغ القارئ كما يلعب معه الطاولة أو الكوتشينة!. . .

. . . أريد من الكتاب أن يشفي القارئ مما تتركه القراءة بنفسه من غيظ وثورة وموجدة على الجناة والآثمين، فلا يحل القضايا التي يعرض لها حلاً تهدأ له نفس القارئ وتنسى ما قرأت أو شاهدت، بل أريده على أن يحفر في نفسه أثراً عميقاً، وأن يهيج فيه جرحاً لا يندمل إلا أن تتطهر الحياة وتسلم من الأدران والموبقات. . .

فلو أن الأستاذ علي أحمد باكثير - مثلاً - جعل (عبد التواب) معتدياً على عرض (غيداء) أو جعل (مستور) معتدياً على عرض (كوثر) ثم لم يجعل من كل منها معتدى عليه بعد ذلك، بل أبرز أثر اعتدائه على المجتمع وعلى أشخاص المعتدى عليهم - وهم كثيرون غير غيداء وكوثر كالأزواج والآباء والأمهات - والتمس الوسائل الكثيرة لتهييج الناس عليهم، وإثارة حفيظتهم نحوهم، ومطاردتهم أينما وجدوا، ثم تركهم على هذا النحو، لكان أدعى إلى أن تمتلئ قلوب الناس حقداً وكراهية لكل معتد على الأعراض، وتظل ذاكرتهم تختزن ما فعل (عبد التواب) و (مستور)، أما أن يحاول المؤلف أن يؤكد للقارئ أن المقادير ستفعل بالجاني مثل ما فعل، وستتولى هي أن تجعل المعتدي معتدى عليه لا مناص له من ذلك ولا منجاة، فقد أراح القارئ وسره وأفرحه، وأخلاه من كل مسئولية عن مفاسد هذه الحياة!!

وأريد - بعد هذا - أن أقف مع الصديق المؤلف وقفات قصيرة أناقش معه فيها بعض الأمور: -

1 - فكيف استطاع (عبد الوهاب) - وهو إنسان من لحم ودم وبه غرائز لا سمو الملائكة الأبرار - أقول: كيف استطاع (عبد الوهاب) هذا أن يسمو هذا السمو كله؟ ويتجرد هذا التجرد كله من غرائز البشر؟ فيتسر - أولاً - على زوجته التي حملت من غيره، ويأخذها في رفق وهوادة، أو على الأصح في جمود وبلادة إلى منزله فيها حملها. ثم - ثانيا - يتخذ من وليدها ابنا له، ويقيمه معه في منزله، وما إن يدخل لا منزل كل مرة حتى يحمل بين ذراعيه، ويقبله من وجنتيه، ويقول له: أنت خير من هؤلاء جميعهم أي من أهل البيت جميعاً وفيهم ابنته من صلبه!! ما جعل (أم مستور) لا تملك تفسيراً لهذا إلا بقولها (لعل أهلها سحروه. . لعلهم عملوا سحراً فارتضى هذه الدياثة وسكت عليها)!! ثم - ثالثاً - يجعل من هذا الولد وريثا شرعياً له مستجيباً في ذلك لتلك الفتوى الفجة المبسترة التي أفتاه بها القاضي (بكار)؟؟

قد يفسر الأستاذ المؤلف موقف عبد التواب هذا بأنه يكفر عن سيئته التي ارتكب، وبأنه يشعر في قرارة نفسه بأنه سبب هذه الجنيات جميعها التي تمخضت عنها جنايته الأولى، وأنا لا أنكر على الأستاذ المؤلف أن لهذا بعض الثر في موقف عبد التواب ولكني أنكر أن يكون الثر نشازاً بعيداً كهذا عن طبيعة الإنسانية التي من أشد غرائزها وأقواها الغيرة على العرض، والحقد على ثمرة زلة المرأة والنفور الشديد منه، وإذا كان الإنسان - الإنسان أيا كان - يضيق بولد المرأة من زوجها السابق وهو حلال، فكيف به مع ولدها من فجورها وهو حرام؟

الحق أن الأستاذ علي أحمد باكثير قد وضع عبد التواب في موضع لا يتفق لإنسان كائناً من كان هذا الإنسان أن يقفه، وجعله في درجة لا تكون إلا للملائكة الأبرار، ومسرحية الأستاذ المؤلف لا تعالج أمور الملائكة وإنما تعالج أمور البشر من أمثالنا الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق!

2 - ومن الظواهر التي يلمسها القارئ في الرواية ظاهرة أحب أن يتجنبها الأستاذ الصديق ما وسعه جهده، وهي ظاهرة (الترشيح). . فهو يرشح لكل حادثة من الحوادث المقبلة بما ينئ عنها ويكشف عن سيرها قبل أن تقع! فالقارئ يحس منذ الفصل الأول بان السلسلة قد ابتدأت! ويشعر بأنها ستدور على واحد إثر واحد! فأم مستور في الفصل الأول تدعو الله فتقول اللهم يا شديد الانتقام انتقم لي منهم فرداً فرداً، (اللهم لا تمت أحدهم حتى تنكبه في زوجته بمثل ما نكب ابنتي (غيداء!) وتقول بعد ذلك لعبد التواب. . (انتظر! الله هو سينتقم منك وسيكون انتقامه عظيماً) وهذا في الحقيقة تصريح لا ترشيح! ومثله أن تقول أم مستور عن ولدها (مستور) - وهي تعلم أنه المعتدي على عفاف (كوثر) - (إنه سيفترق عن عروسه ولم يمض على زواجها غير أسبوعين! كان الله أراد ان ينتقم لكوثر منه!) فمن أين لها العلم بما ستجري به الأقدار فيما بعد؟ ولست أحصي هذه الظاهرة عدا في هذه المسرحية فهي كثيرة منتشرة في أرجائها، وإنك لتجدها في الأمور الصغيرة والحوادث البسيطة، وفي رأيي أنه يجب على المؤلف المسرحي أن ينأى عن الترشيح تماماً فلا يكون بمسرحيته أثر منه فإنه يضعف وقع الحوادث في نفس القارئ أو المشاهد، ويقلل من أثرها عنده، ويجعلها كالعادة المكررة، ويخليها من الجدة التي تخلب لب المشاهد أو القارئ وتجذب انتباهه

3 - وفي المسرحية بعض أخطاء لغوية قد لا يؤاخذ عليها المؤلفون المسرحيون، ولكن من كان مثل الأستاذ باكثير حفياً بلغته، قادراً على سلامتها، فإنه يكون منا موضع المؤاخذة! ولست كذلك محصيها ولكني مشير إلى بعضها، فلا يقول - مثلاً - (ص61) (لشد ما كانتا تتلهفان على أنبائك وتترقبان يوم قدومك) واستعمال الفعل (تلهف) بهذا المعنى خطأ مشهور وصواب استعماله للحزن والتحسر، تقول (لهف على الشيء وتلهف عليه) أي حزن وتحسر. وهو يقول (ص90) على لسان (آسية) حيث تقبل على صياح (أسامة) فتسأله (مالك تبكي يا حبيبي؟ هل أحد ضربك؟) والأولى أن تقول (هل ضربك أحد؟) فإن الاستفهام هنا عن سبب البكاء أي عن. ويقول (ص96) على (آسية) مخاطبة (كوثر) عندما استنكرت مجيء (ميمونة) في وقت الطعام. . (هل نسيت أن أهلك لا يؤخرون الغداء مثلنا إلى قرب العصر) واستعمال كلمة (الغداء) في معنى طعام الظهر خطأ مشهور كذلك فإن (الغداء) طعام الغدة التي تكون في الصباح، وعلى هذا المعنى جرى قول الله عز وجل (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، وهناك بعض الهنات الهينات الأخرى نتجاوز عنها لأننا لم نبلغ الحضر وإنما ابتغينا المثال!

وبعد: فلا يذهبن أحد إلى هذه المآخذ اليسيرة التي أخذناها على صديقنا تغض منه، أو تنال من مكانتهن أو تزحزحه عن مركزه في الصف الأول بين مؤلفينا

فلا والله ما هو عندنا إلا في الصابرين المجاهدين من المؤلفين، وما هو في رأينا إلا من أولى العزم نرقب منهم الخير الكثير

وما كلامنا هذا إلا تحية لجهوده الكثيرة المشكورة، وتنويه بأثره من آثاره الضخمة ما تحسبها تحتاج إلى تنويه

علي متولي صلاح