مجلة الرسالة/العدد 948/الملك الشهيد

مجلة الرسالة/العدد 948/الملك الشهيد

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 09 - 1951



عبد الله بن الحسين

للأستاذ أحمد رمزي بك

- 20 -

ليزد بنو الحسن الشراف تواضعا ... هيهات تكتم في الظلام مشاعل

فلقد علوت فما تبالي، بعدما ... عرفوا، أيحمد أم يذم القائل

(المتنبي)

كان الجو السياسي قاتماً، يشبه الجو الذي يمر بنا الآن، وكانت إيطاليا تستعد لغزو الحبشه، ولاهم لساسة الغرب سوى حصر النزاع في دائرة ضيقه، كما يفعلون الآن في كوريا، وأخذت بريطانيا الأهبة لنفسها حتى لا تفاجأ، فبعثت برجالها يجوبون الشرق الأوسط والبلاد العربية، فكان جورج لويد المندوب السامي السابق بمصرفي طليعتهم، إذ جاء إلى فلسطين ونزل ضيفاً على المندوب السامي لفلسطين، في ذلك القصر الذي شيد على طراز صليبي، والذي كان يذكرني دائماً بأنني داخل حصن يسكنه عميد الأسبتار أو قائد الداوية، وهما منظمتان للفرسان الصليبين التقينا بأفرادهما في كثير من المعارك التاريخية، وعرفت سيوف السلف كيف تلين قناتهم، وترسل الأسرى من أبطالهم هدايا إلى ملوك الهند وبقية آسيا. ما دخلت هذا القصر حتى غمرتني الذكريات وشعرت بشيء من العطف على اليهود، فقلت إن هذا البناء يدعوني أن أقول لهؤلاء الخصوم يوماً (لقد جمع الشقاء بيننا). . ولكن الأيام لم تسمح لي أن أنطق بذلك، لقد خلع هؤلاء الظلم والشقاء، ويقيناً نحن نجر ثياب الخزي والشقاء

وفي مساء يوم السبت 11 يناير سنة 1936، أقام المندوب السامي السير آرثر وكوهوب حفلة عشاء ساهرة بقصره احتفاء بمقدم اللورد لويد، وكان على راس المائدة المرحوم الملك عبد الله ابن الحسين، طيب الله ثراه، وعلى يمينه اللورد، وجاء ترتيب مقعدي على يمين المندوب السامي السابق، الذي كان يهز مصر هزاً في يوم من الأيام.

وحضر دعوة العشاء سماحة مفتي فلسطين الأكبر الحاج أمين الحسيني، وراغب ب النشاشيبي، وروحي بك عبد الهادي، وأمين بك عبد الهادي، ورؤساء بلديات حيفا ويافا ونابلس وغزه والرمله، وجاء مع الملك مستشاره فؤاد باشا الخطيب، كما حضرها شكري بك التاجي ويعقوب أفندي فراج وإحسان هاشم، أما الجانب البريطاني فمثله الأميرالاي جارفس حاكم سيناء، وجلوب باشا، والمندوب السامي في عمان كيرك برايد وعقيلته، والمستر ريتشمورد والمستر فيرنس مدير المطبوعات ثم المستر موري من كبار موظفي حكومة فلسطين وعقيلته.

وكنت قد طفت أنحاء الدار برفقة المستر فيرنس، أحادثه عن عوائد الأسكوتلنديين وطرائفهم وأنواع القبائل، وشعار البطون والأقسام، لأني رأيت المندوب السامي حريصاً على إظهار قوميته بشكل واضح، ولا أخفي أنني أعجب بصراحة القوم واندفاعهم السريع نحو الغضب ونحو الرضا.

ولما دخلنا حجرة الطعام وعرفت مجلسي مع اللورد، لم أكن مرتاحاً لتلك الجيره، فقد كنت أعرف كيف كان اللورد يتعالى على المصريين، فما هو موقفه مع ممثل مصر، والكل يعرف ما نحن فيه؟ فلم أشأ أن أبدأ حديثاً معه، وإنما جعلت كلامي مع جاري الأيمن المستر ريتشموند مدير الآثار، واستعنت ببعض معلوماتي الأولية في التاريخ لكي أجعل الحديث متواصلاً وبلا انقطاع. وبعد دقائق تحرك اللورد العظيم فوجه إلي بعض الأسئلة: أين تعلمت الإنجليزية؟ وهل أقمت بإنجلترا؟ كم مده لك بالقدس؟ ولما علم أنني كنت قبل مجيئي الى فلسطين بمفوضية مصر بأنقرة أخذ يسأل عن رجالها واحداً واحداً، وعن نهضتها وسياستها الخارجية وعلاقاتها بالسوفيت وإيطاليا وفرنسا، وعن جيشهاواستعدادها وما تنوي عمله إذا ما هوجمت من قبل موسوليني. ولما كنت أجيب أسئلته بطريقه منطقية وصريحة كما أعلمته من المبدأ أن ما أعرفه من الإنجليزية هو من صناعة مدارسنا المصرية وأنني لم أكن خريج أي معهد بريطاني، اعتدل كثيراً في مناقشته وبدأ يرحب بالإجابة على أسئلتي التي وجهتها إليه عن حقيقة مهمته في الشرق ولماذا يترك واجباته السياسية وأعماله المالية ليقوم برحلته الطويلة: وكما كنت صريحاً معه، كان هو من جانبه صريحاً معي. . ونعلم جميعاً ما تمخضت عنه رحلة اللورد من إنشاء المعاهد والمجالس البريطانية، لزيادة الروابط الثقافية بين بلاده وبقية بلدان الشرق.

لم يكن يدور بخلدي ساعتئذ أنني أستعد لأداء امتحان للترجمة بين الملك عبد الله بن الحسين واللورد لويد، إذ بعد دقائق دار حديث سياسي بين الرجلين العظيمين عن شؤون الشرق والبلاد العربية، وكان الملك يتتبع بنظراته كل كلمه أنطق بها وكان اللورد بما يعرفه من العربية يتتبع كل تعريب ونقل لآرائه.

ولا أخفي على القارئ أنني خرجت من الحديث وأنا أؤمن بوطنية الملك عبد الله بن الحسين، وعبقريته السياسية ووسائله في إقناع محدثه واجتذابه لصفه لقد وفق الملك الراحل بكلماته من أن يجعل اللورد الإنجليزي يعطف على قضية شرق الأردن، ويثق بمقدرة الملك العربي ولباقته وإخلاصه لمبادئه.

ولقد كان عبد الله بن الحسين مدافعاً عن حق العرب في فلسطين وشرق الأردن وفي سوريا ولبنان وفي العراق: كان يقول بأن الأمم العربية لها مطالب يجب على بريطانيا أن تجيبهم إليها إذ لهم حقوق ومواثيق ووعود. . . وأنه يجب أن تضع بريطانيا قبل أن تستعد للحرب عسكرياً، إجابة هذه المطالب في المقدمة، وأن صداقة العرب في أي نزاع أثمن لها من صداقة الغير، وأفيد لها عند الجد من تعبئة الجنود وزيادة القوة العسكرية في بلادهم.

قال إن العرب بطبعهم لا يميلون إلى إيطاليا بعد الدور الذي لعبته في طرابلس، وبعد أن نكلت جيوشها بالمجاهدين وبعمر المختار، وأنهم يطمئنون الى صداقة بريطانيا إذا أوفت بعهودها ومكنتهم من وحدهم وحريتهم واستقلالهم.

وكانت بريطانيا تخشى دعاية الطليان وآثارها، فقال إن أخطاء بريطانيا هي التي ستمكن لهذه الدعاية أن تتغلغل في أفكار العرب وتسمم نفسية الشباب نحو بريطانيا، وأن كل تردد أو موقف سلبي سيزيد هذه الدعاية ويقويها.

ولما سأله عن شرق الأردن قال إنه يتمتع باستقرار لا يتمتع به غيره من البلاد. . وأشار إلى سوريا التي كانت تجتاحها الأزمات ويقوم فيها ممثلو فرنسا بالتجربة وراء الأخرى.

وكان الملك يعلم بنية بريطانيا في زيادة قوات الطيران وفي زيادة قوات الحدود بشرق الأردن. . وهي القوه التي كانت تتحمل مصاريفها الحكومة وحكومة فلسطين، فقال بصراحة: إن الاعتماد على صداقة العرب أجدى من هذه الزيادة، ولكن الحصول على ثقة العرب يتطلب في المقام الأول منح العدالة لهم في فلسطين وصد تيار الهجرة إقناع سكان فلسطين بأن الانتداب ليس معناه خدمة الصهيونية فحسب، بل الدفاع عن كيان العرب والمحافظة على حقوقهم وتأمين مستقبلهم. . .

لقد دهشت من منطق عبد الله بن الحسين، إذ ما كنت أتصور فيه تلك الجرأة في التعبير عن آرائه، أما اللورد الذي كانت إرادته هي كل شيء في مصر، وكانت عباراته قويه لدرجه أن وافقه اللورد عليها بل وأظهر عطفه على مطالب العرب وقال إن بلاده لم تسلم لفرنسا إلا باحتلال الساحل، إن سوريا كان مفهوماً ومتفقاً عليه أن تكون مستقلة لا ولاية ولا مستعمره تحتلها فرنسا وتفعل بها ما تشاء. وقال إن الانتداب يجب أن يتجه لحماية العرب من توغل اليهود في فلسطين، وكان اللورد بادي الانفعال لا يقدر على إخفاء مشاعره نحو العرب مندفعاً مع الملك في حديثه حينما وجد على المائدة طبقاً من الزنجبيل المسكر فأخذ يقدم ما فيه للملك ولي ويتناول منه قطعه وراء قطعه حتى اكتشف في النهاية سؤالاً نقلنا من كل هذا. . . إذ قال ما رأي الأمير في الملك عبد العزيز بن السعود؟ فالتفت إلي الملك وقال اسأله ما رأيه هو فيه؟ أريد أن أسمع حكمه أولاً. فتردد اللورد قليلاً ثم قال إني أعرف الحجاز تماماً وأعرف قبائله ورجال البادية في ربوعه إذ عشت هناك طول مدة الحرب الماضية، وقد قرأت كثيراً عن الملك عبد العزيز بن السعود وقدرت مواهبه ولكن الصورة التي انطبعت في مخيلتي عن جلالته، زالت حينما لقيته لأول مرة في الطائف وكان ذلك في سنة 1925.

كنت أنتظر من رجل البادية الذي أسس ملكه بسيفه، وأستنقذ الرياض وجمع حوله الأخوان وربط بين أجزاء الجزيرة فكون منها وحده في القرن العشرين، رجلاً آخر. ولعل رؤيتي له في وقت كان يستعد فيه ويستجم بعد طول الجهاد والكفاح، أظهرته لي على غير حقيقته.

ولعلنا نحن معاشر الإنجليز نخطيً في الحكم لأول وهله، فنحن نراه رجلاً للبادية لا يستوعب ضرورات المدنية الحديثة وينفر من كل جديد، ولا نشك في أن فتح الحجاز كان عبئاً عليه، وإن هذه البلاد الفقيرة ستتحمل زيادة على فقرها استغلال السعوديين لمرافقها.

وكان الملك لبقاً في إجابته إذ قال إنه متفق تماماً على رأي اللورد في أن أهل الحجاز ما انفكوا يشكون في الإدارة السعودية وأنهم يأتون إلى عمان وينقلون أخبار الفاقة هناك.

وقال اللورد: إن الذي يهمنا هو استيعاب الأمن والنظام وإيجاد حكومات تشعر بأهمية ذلك.

ومادامت الحدود محفوظة ولا تقوم ثورات في شمال الحجاز. وقد صفيت مشكلة الجوف نهائياً فلا أعتقد بوجود خطر من هذه الناحية. . كما أن الحرب إذا قامت في أي وقت في أوربا أو أفريقيا فأغلب الظن أن هذه الجزيرة العربية سوف لا تتأثر بقيام نزاع مسلح بين زعماء العرب.

كانت حوادث الاعتداء على حدود الأردن الصحراوية لا تزال ماثله، وكذلك حركة ابن رفادة في شمال الحجاز، وما دار بين ابن سعود وفيصل الدويش، ولكن أنظار اللورد كانت تحوم حول العراق وما قد تحدث فيه من الحوادث بعد وفاة فيصل الأول وتحت قيادة غازي الأول، كانت عيناه تتجهان يميناً شمالاً حينما ذكر العلاقة بين الملك عبد العزيز وقبائل الدولة في الشام

كل هذا لم يثن الملك عبد الله بن الحسين عن أن يذكر الحجاز، وأن الهاشميين أبناؤه وسدنته وأنه الأرض المقدسة التي يتجه لها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها: وأن توليه عرش الأردن لا يمنعه من تتبع أخبار الحجاز وآماله ومستقبله، لأن لديه بشرق الأردن عدداً من الحجازيين قد لجأوا إليه فهم يذكرونه عند كل لقاء بأن عليه أن يعمل شيئاً لهم، وأختتم كلامه بأنه لا يقدر أن يرد واحداً منهم لو جاء إليه، وأنه ليسعد أن يعطي كل ما يملك لهم وأن يقتسموا ملبسة ومأكله معه.

وكان كلامه مؤثراً في تلك اللحظة وكنت أجد متعه في نقله والتعبير عن آراءه. . لقد خرج عبد الله بن الحسين عن الملك والأمارة وأصبح إنساناً يتحدث بعاطفته وقلبه وشعوره، ولم يقف عند هذا الحد إلا بعد أن قام المندوب وشرب نخب ملك الإنجليز، والأمير الأردني واللورد بكوبه ماء احتراما للحاضرين، ودخل أفراد من فرقة القرب بكامل ملابسهم الحمراء يحيون الحاضرين بعزف بعض المقطوعات الاسكتلندية: وانصرفنا جميعاً الى الردهة الكبرى. . . حيث يسودها ذلك الجو الصليبي الذي يشعرني بأني وسط غمرات الحروب الصليبية وجنود الإفرنج وأعلامهم ورنوكهم وأسلحتهم.

أحمد رمزي