مجلة الرسالة/العدد 948/الواقعية الفنية

مجلة الرسالة/العدد 948/الواقعية الفنية

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 09 - 1951



للاستاذ عبد الوهاب محمود

عاشت المدرسة الابتدائية في عالم من خيال تتقاذفها صور الكآبة والحنين واليأس، ويشق الاغتراب الروحي طريقه الى نفوس كتابها، فلجوا بدورهم في دنيا من ضباب، وسلكوا في اساليبهم مسلكا تشيع منه الاحزان والمشاعر النفسية المضطربة. ولعل (هوجر) خير من يمثل هذا المذهب الفني الادبي.

وكرد فعل لهذه المدرسة التي غالت في الخيال برزت المدرسة الواقعية في ميدان الادب، وسرعان ما سارت في هذا الميدان واتجه اليها كثير من الادباء اتجاها فنيا صادقا يتمشى مع روح الواقعية الحقة بينما سلك اخرون سبيلا ملتوية، لا تمت الى الواقعية الفنية بصلة. ومن اثارها ذلك الانتاج الغزير الذي (تقذفه) الينا الصحف والمجلات، وبخاصة تلك الصحف التي تبغي الكسب المادي. وكثر انصار هذه الواقعية الحمقاء التي تتجسم بنقل الواقع (فوتوغرافيا) جافا جامدا كما تتمثل بتلك اللغة الهزيلة حتى ذهب بعضهم الى الالتجاء للغة العامية، الا ان حقيقة هذا المذهب الادبي غير ما يرى هذا الفريق؛ فالفنان كما يقول توفيق الحكيم ليس بمحرر تقارير، وانما هو محرر عواطف. وليست الامانة المطلوبة منه نقل الاحداث دون المشاعر والعواطف، فالواقعية كما يرى جبهاميل ليست بالواقعية الفوتوغرافية التي لا يخرج عملها عن عمل الة التصوير التي (كلفت) بالتقاط الواقع بحركة الية عمياء جافة. ولعل الذي دفعني الى كتابة هذه العجالة تلك المسالك السود، وغدا ادبهم لا يعدو تلك (اللقمة) التي تتربع على مائدة الطعام، او تلك الصور التي يشيع فيها التشاؤم والرعب من الحياة.

الواقعية الفنية لا تبعدنا عن حياتنا ـ كما يظن ـ بل هي الواقع المحس قد داعبته انامل الفنان، وقد يرسم الفنان ـ الشاعر او القصاث ـ صورا ماثلة في الواقع، واقعة حقا، وقد لا تكون كذلك كما لا يلزمنا ان تكون تلك الصورة المنقولة صورة سامية حسنة جميلة، بل كل ما يطلبه الفن نقل الصورة نقلا فنيا، وكل ما يطلبه الواقع نقلها بامانة. واذاصهرنا مطاليب الفن ومطاليب الواقع ـ في بوتقة واحدة ـ ظهر لنا (الادب الواقعي الفني) الذي هو نفسه الادب المصور المؤثر.

ويحضرني الان راى للاستاذ المعداوي نشره في تعقيباته في عدد الرسالة الفائت اذ قال: الواقعية ضربان، واقعية اولى ويكون فيها نموذج الشخصية موجودا (بالفعل) في الحياة، والواقعية الثانية، ويكون فيها نموذج الشخصية موجودا (بالامكان). ولم يقف الاستاذ المعداوي عند هذا الحد، انما ذهب الى تعريف الواقعية الاولى فقال (هي نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الاحياء، كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه العين وتألفه النفس) ولو وقف الاستاذ عند قوله: (انها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الاحياء) لهان الخطب وما جعل ذلك النقل مقيدا (بما تلمسه العين وتألفه النفس) كما انه لو احترس الاستاذ في قوله وقال: (انها نقل مباشر لصور الحياة وطبائع الاحياء كما هي في الواقع المحس الذي تلمسه عين الفنان وتألفه نفسه) بدلا من اطلاق (العين والنفس) التي تدعو الى جعل الفن ضربا من ضروب العبث، كما يجعل ـ هذا الاطلاق نفسه ـ الفنان والرجل العادي في كفة متساوية من حيث الاحساس، اقول لو قال الاستاذ (عين الفنان ونفسه) لسهل الامر ومادعانا الى الولوج في دهاليز الظلمة والجهل، وهو يقصد الايضاح والاعلام. ورأى الاستاذ المعداوي ايضا يبعث الينا من جديد تلك الصفعة التي وجهها افلاطون لفن الشعر، كما يعيد الينا صدى العبارة اليونانية التي تقول: (ان الفن تقليد للطبيعة) والتي استغلها افلاطون نفسه للطعن في الشعر، وبودنا لو استطاع الاستاذ انور المعداوي ان يجيب على هذه الاسئلة التي (تقلق) بالى في تعريفه الذي ذكرته، واول ما يتلقانا من الاسئلة هذا السؤال، اذا كانت الواقعية نقلا مباشرا لصور الحياة التي تلمسها العين وتألفها النفس، فما فائدة هذا النقل اذن؟ وما فائدة تلك الصورة (المقلدة) للواقع ما دمنا نستطيع النظر الى الاصل نفسه؟ بل، ما فائدة الفن اذا كان نقلا مباشرا لما تألفه النفس وتلمسه العين؟. . .

يقول افلاطون: ان عناية الرجل العاقل تنصب في الوصول الى الحقيقة، لذا كانت عنايتنا بالاشياء، لانها ممثلة للحقيقة. وتكتسب هذه الاشياء حقيقتها من الافكار التي تمثلها. فالمصور يقلد الاشياء، والاشياء بدورها تمثل الافكار، والافكار هي الحقيقة، فيكون اتصال الفنان المصور بالحقيقة اتصالا بعيدا عنها بثلاثة مراتب. ولما كان الشاعر يقلد اعمال الناس وظواهر الامور فعمله هذا بعيد عن الحقيقة بمرتبتين، فالفن اذن ـ على هذا الرأى ـ ضرب من العبث ما دام يبعدنا عن الحقيقة، والرجل العاقل لا ينشد ذلك. ولو كان الفن ـ الادب ـ تقليدا للطبيعة حقا، او هو نقل مباشر لها، لتقبلنا رأى افلاطون وسكتنا، ولتقبلنا رأى الاستاذ المعداوي وصمتنا، ولكن الفن ليس تقليدا للطبيعة فقط، كما انه ليس نقلا مباشرا فقط. انما يتدخل الخيال وتلج المهارة الفنية في ذلك الميدان لترفعه عن حضيض التقليد الاعمى الى قمة الخلق والابداع، وتقليد ما يتصوره الخيال، فيكون عمل الخيال ـ هنا ـ لا يعدو مجرد تقطير الاحداث الواقعية باستبعاد جميع نواحيها السخيفة. ولكن هذا وحده ـ كما يقول لاسل ابركرمبي ـ كاف لان يجعل الشعر (الادب) الناتج عن هذا شيئا مخالفا لتلك الصورة المنسوخة التي توهمها افلاطون نفسه، وجعلها سببا للطعن في الشعر، ونضيف نحن ايضا ان تقطير الاحداث الواقعية بواسطة الخيال كفيل لان يكون لنا شيئا مخالفا لتلك الصورة التي ننقلها نقلا مباشرا عن الواقع والتي يراها الاستاذ المعداوي مادة للواقعيين.

ولو سلمنا ان الفن تقليد للطبيعة او نقل مباشر لصور الحياة او ان الفن مرآة للواقع؛ كنا بذلك قد ابتعدنا عن الحقيقة بمرتبتين او ثلاثة ـ كما يقول افلاطون ـ انما الفن دفعه من النور تكشف لا عن مظاهر الحياة التي تألفها النفس وتلمسها العين؛ ولكن عن خفايا تلك المظاهر؛ عما وراء المظاهر، فظواهر الامور كثيرا ما تخفي شيئا (دسما) للفن، فالحزن في صورته الظاهرة تقطيب الوجه وتقارب الحاجبين مثلا، ولكن هل هذا هو كل الحزن الذي نشعر به؟؟. . . كلا. . . باستطاعة أي انسان ان يقطب وجهه ويقرب حاجبيه، ولكن هل يشعر هذا (الممثل) شعور ذلك المفجوع المكلوم؟!. . . على هذا، فهل من الانصاف ان ننصف الظاهر (الآلى) ونعرض عن تلك (الحرقة الاليمة) التي هي في الحق مشاعرنا التي تنتابها.

والادب كما يقول (كرمبي) توصيل يحدث بين المؤلف والقارىء، يعرض المؤلف ادبه بوصف مشاعره واحساساته وتبيان اثرها في نفسه، وهذه الاصداء النفسية هي التي تمثل (الذاتية) الاس الاكبر للرومانتيكية الابتدائية، ولكن الادب ليس كل ذلك، انما يراد للتوصيل ان يلج المؤلف ساحة اخرى هي (الموضوعية) وبذلك يرضي قارئة حتى يتقبل ذلك الادب، وحتى يتم ذلك التوصيل. والموضوعية كما نعلم ـ تخاصرالواقعية ـ وبذا تكون لنا في الادب جانبان هما الموضوعية والذاتية (ولكن كل منهما على حده لا يعبر عن الحقيقة) لذا نرى ان على الاديب الواقعي الفنان ان يلتزم هذين الجانبين في ادبه ولا يهمل (الذاتية) في نقل الواقع فيجىء نقله محايدا (ان صح وجود النقل المحايد في الادب. . ذلك لان الادراك نفسه غير محايد كما تقول نظرية الكاتب الفرنسي الوجودي سارتر).

فالواقعية الفنية تتمثل بالجانب الذاتي والموضوعي، كما تتمثل بالعناية بوساطة الادب (اللغة) وعنايتها بالغة تتم عن طريق معرفة المفردات وما توحيه كل لفظة من صور ومعان، وما تحدثه من جرس.

ومن ادب الواقعية الفنية قصة (الام) للكاتب الروسي مكسيم غوركي و (قصة انا كارنينا) للفيلسوف الروسي (ليوتولستوى) وقصة (تس سليلة ربرفيل) للشاعر القاص توماس هاردى، وتحفة غلوبير الخالدة (مدام بوفارى)، كما نجد الواقعية العنيفة تتجلى في كتاب (الايام) للدكتور طه حسين، وكتاب (عصفور من الشرق) للاستاذ توفيق الحكيم. ومن قرأ القصص لا يستطيع انكار الخصائص الفنية التي ذكرناها عن الادب الواقعي الفني.

ولعل قصيدة هوسمان الشاعر الانجليزي (الى السوق اول مرة) خير مثال للواقعية التي ذهبنا اليها، فلذا راينا ان نعرضها لزيادة الايضاح:

ـ يوم انشأت اذهب الى السوق، اوائل عهدى بالاسواق كانت الدراهم في الكيس جد قليلة

وكم طال بي النظر وكم طال بي الوقوف!

على اشياء في السوق لا تنال

ـ تغير الزمن اليوم، فلو اردت الشراء لاشتريت هنا الدراهم في الكيس، وهناك اشياء الامس في السوق ولكن يا ترى ذلك الفتى المحروم؟

ـ طالما شكا قلب الانسان لان (اثنين واثنين اربعة)

لا هي ثلاثة كما نودها حينا ولا هي خمسة كما نودها بعد حين واحسبه سيشكو الى اخر الزمان.

هذه صورة من الواقع، ولكن هل هي نقل مباشر لصور.

  • *

الحياة. . مما تلمسه العين وتألفه النفس؟ هل هذه الصورة التي نقلها هوسمان هي صورة الواقع المحس فقط؟. الم يضف هوسمان شعوره وعواطفه واماله التي سرعان ما تتبدل وتتغير؟. . .

لقد صور لنا هوسمان الواقع المحس ونقل الينا احاسيسه ومشاعره نقلا فنيا من الصعب ـ بل من الصعب جدا ـ ان ننكر ذلك الواقع الفني الذي نقله هوسمان.

العراق. بصرة

محمود عبد الوهاب