مجلة الرسالة/العدد 949/رحلة إلى الحجاز

مجلة الرسالة/العدد 949/رحلة إلى الحجاز

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 09 - 1951



للشيخ مصطفى البكري الصديقي

للأستاذ سامح الخالدي

- 2 -

بين رحلة الشيخ الأولى إلى الحجاز سنة (1130هـ) والثانية (1145هـ) خمسة عشر عاما. وفي هذه الرحلة وصف أدق للطريق من الأولى، وقد رافقه فيها كل من الشيخ جرار، كبير جبل نابلس، والشيخ حسن بن مقلد الجيوسي شيخ بني صعب، وكلاهما من شيوخ الحزب القيسي في جبال نابلس.

وقد اجتمع الشيخ بعبد الله باشا، وذلك بواسطة محمد ابن مكي الغزي، وكان الأخير في معية الباشا، ومن أتباع الشيخ، وعبد الله باشا أحد ولاة الشام، وقد كان واليا لها سنة (1143هـ) أي قبل سليمان باشا العظم.

ويتعرض الشيخ إلى ذكر أذية الأعراب للحج، ويصف لنا زيارته للمدينة، ومكة، وينزل في مكة في بيت الشريف يحيى ابن بركات ويمدحه ويثني عليه، ولا يترك الشيخ هذه الفرصة تمر، فينشر طريقته في الحجاز، ومن بين الذين أخذوا عليه العهد مدرسان في الحرم الملكي.

ثم يصف لنا طريق رجوع الحج، وما قاساه في طريقه، ويذكر الجردة، وقلعة هدية التي عمرها سليمان باشا العظيم، وقلعة (جفيمان) التي عمرها الوزير عبد الله باشا.

ولنترك الشيخ البكري يقص علينا الآن رحلته الثانية إلى الحجاز فيقول:

(وبعد فيقول العبد الفقير للمولى الغني، مصطفى سبط الحين الصديقي، لما شاء الحق التوجه إلى بيت الله وزيارة رسول الله وقد هيأ الله للمسير لوازمه وسهل أسبابا وتوجهت الهمة، غب عزمة، للمنازل الرفيعة، وذلك بعد تكرار سنة استخارة وتحرر استشارة، وكان المسير إلى المقام الخطير، يوم السبت خامس شوال في ثاني ساعة منه، حان الارتحال، عن الأهل والأولاد والعيال، عام خمس وأربعين ومائة وألف (1145هـ - 1732م) وكنا ودعنا خلانا وأصحابا، وجيرانا وأحبابا، وإخوانا وأنسابا، ولم ينزعج الفؤاد، إلا لوداع ثمرات أكباد من الأولاد، لم تدر من عجمة إعرابا، فطفت المدامع على الخدود بروقها لوامع، مرسلات كالهوامع، القوامع التي لا تقر انسكابا، ولم نخرج من الدار حتى ودعتها كالحرم الجامع للأنوار، بركعتين، وفيض العين كالعين، أضحى منسابا وذكرت بعض ما ورد في الخبر لمن أراد السفر للسفر هلاله الأبدر لا يقدر حسابا. وفيه من قاله رزق خير ذلك المخرج وصرف عنه شره، وهو بسم الله واعتصمت بالله، وتوكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

في وداع الشيخ البكري:

(وممن خرج للوداع شيخنا الأوحد، بيضة البلد، جانب الشيخ محمد الخليلي المفرد، ومعه جمع يحمد، رفع الله منهم ومنه جنابا، وقد ألهم في تلك المواقف دعوات يعجب منها صاحب المقاصد والمواقف، ألاقت دواة المدامع وأجرت انسحاب الواقف، إذ جبرت في الميادين جوابا، وتذكرت هنا قول قرنيا السيد نصري نجل السيد أحمد الحصري الحسيني، حين ودع شيخه من إقامة خليفة بعده فأحسن ذهابا وإيابا، الشيخ عيسى الكناني منحهما ديانى صوابا وحباهما آدابا (السم من ألسن الأفاعي؛ أيسر من قبلة الوداع).

(وحين عزمت على السير إلى معالم الميراث والمير، أحببت أن أضع رحلة تجمع ما يحصل منه خير، وأن أسميها (الحلة الرضوانية الإنجازية الدانية، في الرحلة الإحسانية الحجازية الثانية).

(وبعد أن ودعنا أولى الوجوه النيرة، وسرنا إلى قرية (ألبيرة) بمقلة دامية غير قريرة، واحشا بوحشة الفراق كسيرة ولدي أرجائها الندية، ودع صديقنا ابن هندية.

ومنها أتينا (الحلزون) بهون، وعاد الرفاق مصاحبين العون والصون، وارتحت هنية عند بير زيت ودعيت إلى المبيت فأبيت، ولما صليت استدعيت كاسات قهوة سودا وكان الفراق سقاني الحمرا، راجيا بشرب ابنة اليمن يمنا يطفي من الزفرات جمرا، وجلسنا في قرية (عارورة) جلسة خطيب مشهورة، وأتينا (المزارع) والقلب من الندم قارع، وبتنا وقد تخلف زارع الجميل، الجاني بتأخره فلم يجن ثمرة الإكرام من الجميل، مع ادعائه الحب الرابي كالحب المرابي وأنه في فنائنا المحلي لدى القرع بحلاوة القرع تربى، فكانت الليلة ليلة محب سليم، أو ضرير وقع في غدير، وخيم، سماءها ناقية من الصفا، أنقى من الراحة في حان الوفا، وأسريت وقلت:

قد علونا متن الخيول صباحا ... كي نرى في السرى وجوها صباحا

فتلقى من أهل (سلفيت) ناس ... لست ناس لهم عقودا صحاحا

وهذا الأخ ماله في الصداقة أخ، وقد ترجمته في (أردان حلة الإحسان في الرحلة إلى جبل لبنان) وفي الرحلة القدسية الأولى والثانية، أسكنه الله جنة قطوفها دانية، وتلقانا أهل (مردا) من لم نجد لدعوتهم مردا، وبتنا في (جماعين) فجاءنا الأخ المساعد والمعين، الحاج حسن مقلد (الجيوسي) ونزلنا معه إلى نابلس.

في نابلس ومنها إلى كور فجينيين:

(وذلك نهار الاثنين ورحلنا يوم الخمس من (الدرويشية) إلى قرية كور غور بأمور فرشية، وكنا حصلنا في نابلس بسطا بساطه مهدور، والإخوان يناجون الودود في الأسحار بكبد مقصور، وقد حمى الثغر منهم بالوداع وهو مبرور.

(وبتنا ليلة الجمعة في (كور) ونصبنا الخيام يومها المشكور، وسرنا يوم السبت غب وداع مذكور، إلى حوض السيلة والدمع زاد الفراق سيلة، وكنا نزلنا (رامين) لسلاح الافتضاح رامين، وفي (الحوض) ودعنا إخوان الصفا وسرنا إلى (برقين) وفيها ورد الأخ الأمجد الشيخ أحمد الموقت ناو على الحج، وعمدنا (جينين) واجتمعنا بالمجذوب ذي الفنون، الشيخ أحمد قبون، وكان قد صحبنا الشيخ خاطر، فبشر بما يسر الخاطر

من الجالوت إلى جسر المجامع إلى الطيبة فهما فأريد:

(وارتحلنا إلى (الجالوت) المباح غيره لا كنهر طالوت، وكنا اجتمعنا بكبير جبل نابلس الشيخ جرار، عازما على التوجه إلى الحجاز وتلك الدار، ولم يصحبنا إلا طالب الاغتنام، المدعو في الآكام غنام، وسلامه القيصني قاصدا بالخدمة الاستخدام، وجزنا جسر المجامع، وحزنا البسط الجامع، واسترحنا لدى (الصما) والأذن عن الفحشاء صما وقلت:

عدت أذني عن الفحشاء صما ... سويعة إذ مررت بأرض صما

وطاب الوقت لما أن حللنا ... بطبية وأفنى والحق غما

ومن (الطيبة) نحونا (أريد) والوجه يرغى ويزيد.

في المزيديب مع الحج:

(ومنها في الصباح، عمدنا المزيديب للاصطباح، ولما قبيل الظهر إليه وصلنا، وعلى الهموم والأكدار صلنا، رأيت حجا موفورا، وجمعا موقورا، وأول من تلقانا، وأكرم بالتأهيل مثوانا، صديقنا المعجون المعروك في أواني السلوك إلى ملك الملوك الشيخ يوسف المملوك، المنظوم المحبوك، في سلك أهل اليقين لا الشكوك، وهذا الذي صدق فيه، قول النبيه بملء فيه:

وإذا العناية ساعدت عبد الشرا ... نفذت على ساداته أحكامه

وأنزلنا في خيامه، وقابلنا بإكرامه، وجاءنا بعد أن استقر بنا المقام في فسيح الخيام، الصديق الرفيق والخطيب الإمام، الشيخ نور الله الجامعي وولده الأخ في الله الشيخ عبد الحق المراعي، فسلما سلاما التزام، واشتياق ينبئ عن أوام، ورأيت في مزاج ولده كثير فتور، فقلنا يزول بمعونة الغفور النور

اجتماع الشيخ البكري بالوزير عبد الله باشا:

(واجتمعنا بواسطة الصديق الأمجد، محمد أفندي مكي المفرد، بالوزير عبد الله باشا، منحه الله انبساطا وانتعاشا.

(وجاءني محب أهل الصلاح، الشيخ محمد صلاح، وهو ممن يسلم للطائفة العلية الملية الأقداح، لما له لائح الحق الصراع لاح، سيما الأكبر فقدألقى لدى شطه المراسي وأرمى السلاح، ومعه الباب من الفتح الملكي المملوء الأقداح، بالكلام على الأسماء الإلهية المجلوة الألواح، وطلب أن يسمعه الفقير في كل نزل حضره أو أكثر تغنى عن الراح، ولم يزل إلى أن ختمه في العود الجليل فارتاح.

في الطريق إلى المدينة المنورة:

وتوجهنا نقطع المراحل الحجازيه، المسماة في الحلة الحقيقية لا المجازية في الرحلة الحجازية، إلى أن وصلنا (العلا) بحول طول من جلا وعلا. وبتنا ثاني ليلة على نية الإقامة، وكانت للأخ الشيخ عبد الحق كرامة، فانه انتقل ثلث الليل الأول، إلى جور الكريم الرحيم الأول، وصبر والده وصبر مجاد، ودفناه قرب الجبل في تلك المهاد. رحمة الّله.

(وقد غبطه على هذا الاندراج، لما في الحديث الشريف الذي يرفعه جابر، (من مات في طريق مكة لم يعرضه الّله يوم القيامه، ولم يحاسبه) وقد ذكرت هذا الأخ في الرحلة الثانية القدسية، لأخذه الطريق واندراجه في النسبة الأنسية،

(ثم سرنا قاصدين مدينة الرسول، دار الحصول، ومنزل السول، قبلة الإسلام، ودار الأعيان وارض الهجرة، ومبوء الحلال والحرام، حرم الأمان المفتوحة بالقران، التي رمضانها وجمعتها خير من ألف رمضان وجمعة فيما سواها من البلدان، والتي لا يدخلها رعب المسيحالدجال ولا الطاعون، ومن كاد أهلها انماع كما ينماع الملح في الماء، فليحذر الكائد المفتون، المؤذي جيران قرة العيون، فان الأمين المأمون لا يتخلى عنهم ولا يكون. نسأل الّله أن يلهم ولاة الأمور إلى السعي في إكرامهم كما يكرمون، والتوجه إلى ما فيه راحتهم وأمنهم من كل ضرر من حرب أو غيرهم يكون.

للرحلة بقية

سامح الخالدي