مجلة الرسالة/العدد 95/المصادر الإغريقية للفلسفة الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 95/المصادر الإغريقية للفلسفة الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 95
المصادر الإغريقية للفلسفة الإسلامية
ملاحظات: بتاريخ: 29 - 04 - 1935



للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

لا يستطيع باحث أن يفهم الفلسفة الإسلامية فهماً صحيحاً دون أن يدرسها على ضوء الفكر الإغريقي ومتجاته، ولا نبالغ مطلقاً إذا قلنا إنه تعذر علينا أحياناً فهم مسألة لدى (الفارابي) أو (ابن سينا) قبل أن نقرأ مصدرها في كتب (أرسطو) أو (أفلاطون). وعلّ أحسن ما كتب في تاريخ الفلسفة الإسلامية إلى اليوم كان من عمل رجال قارنوا القديم بالحديث، وقرّبوا فلاسفة الإسلام من أساتذتهم الإغريق. على العكس من ذلك يكاد يرجع العيب العام لأكثر ما كتب في هذه الناحية إلى أن مؤلفيه نسوا أو تناسوا الصلة بين الفلسفة العربية والفلسفة الإغريقية؛ فنسبوا إلى أشخاص آراء ونظريات ليست نتيجة بحثهم وتفكيرهم المستقل، ومن التجني على الحقيقة والتاريخ أن يعزي إلى عالم أو فيلسوف، ما لم يأت به ابتداء، وما لم يبتكره ابتكاراً، ومنشأ هذا الإسناد الباطل جهل بالتاريخ وإغفال للعلاقات الثابتة بين المراحل المختلفة للتفكير الإنساني، فرب فكرة بدت مبتكرة في حين أن الأقدمين اهتدوا إليها من فبل وأبرزوها في صورتها الحاضرة، أو في صورة أخرى تبعد عن هذه بعض البعد. ومن الغريب أن هناك طائفة من المؤرخين تنزع إلى اعتبار أبطالهم ومن يكتبون عنهم مصدر كل جديد؛ فهم ينسبون إليهم شخصياً كل ما جاء في كتبهم أو روي عنهم. في هذا، بلا شك، اعتداد كبير بمن يترجمون لهم، ومن يدرسون حياتهم؛ غير أن النزاهة والتحقيق العلمي يأبيانه. قد يبدو طريفاً أن يقال إن نظرية كذا من ابتكار فلان وحده، ولكن أليس أطرف من هذا وأعمق بحثاً أن يبين المؤلفون المقدمات التاريخية التي مهدت لهذه النظرية؟ قضى الناس زمناً يرددون فيه أن (ديكارت) مثلاً اخترع نظرية الشك الفلسفي اختراعاً دون أن يتأثر فيه برأي سابق؛ وها هم أولاء اليوم يعلنون أنه سبق إليها في صور أخرى مصغرة، ويبرهنون على ذلك بطرق دقيقة أخّاذة إزاء هذه الظروف كلها نحاول في هذه الكلمة أن نلقي نظرة عامة على المصادر الإغريقية التي كانت ذات أثر بين في تكوين الفلسفة الإسلامية، وفي تعرف هذه المصادر ما يعيننا على أن نحدد بالدقة ما جاء به العرب، وما سبقهم إليه الأقدمون عرف المسلمون الفلاسفة السابقين لسقراط ونصف السقراطيين - والسفسطائية واللاأدرية والرواقيين والأبييقورين فنظرية (الجوه الفرد) التي قال بها (ديموقريط) و (أبييقور) تتصل إلى حد ما بتلك النظرية التي وردت على السنة علماء التوحيد المسلمين. ومذهب الرواقيين المادي اثر تأثيراً غير قابل للإنكار في جماعة المعتزلة، ونخص بالذكر منهم (النظام) الذي اعتنق نظريات ذات أصل رواقي واضح، وان من يقرأ آراءه في (الكمون) لا يشك مطلقاً في أنه تأثر فيها بما جاء به الرواقيون من قبل. وقد أخذ علماء الكلام بوجه عام عن اللاأدرية الإغريقيين كثيراً من أفكارهم، وخاصة ما اتصل منها بنقد (أرسطو) ونظرياته. ونرى في كتب التراجم العربية ملخصات قصيرة عن حياة (تاليس) و (فيثاغورس) و (أبخزاجور) و (أمييدوقل)، وفي كتاب الملل والنحل (للشهرستاني) أحسن أنموذج لهذه الملخصات. بيد أن هذه المعلومات في جملتها ناقصة وغير صحيحة أحياناً؛ ولا يبدو على مفكري الإسلام أنهم كونوا رأياً ناضجاً عن هذه المذاهب الفلسفية المختلفة. (فالشهرستاني) نفسه يخلط مذهب (فيثاغورس) بمذهب (أفلاطون)، ويعزو إلى أصحاب الرواق بعض نظريات مدرسة الإسكندرية. وإذا استثنينا (أفلاطون) و (أرسطو) نجد أن المسلمين لم يعرفوا فلاسفة الإغريق إلا عن طريق غير مباشر، وفي ثنايا كتب (بلوتارك) و (جالينوس) و (بورفيد) التاريخية

لم يترجم العرب حقيقة من كتب الإغريق الفلسفية إلا مؤلفات (أفلاطون) و (أرسطو) وشراح الأخير وتلاميذه. فأما (أفلاطون) فقد ترجمت محاوراته الهامة، وعلى رأسها: الجمهورية والنواميس وطبماوس والسوفيسط وبوليطيقي وفادن ودفاع سقراط ' فباطل إذن ما يقال من أن العالم العربي لم يعرف (أفلاطون) إلا معرفة ناقصة أو خاطئة. والواقع يثبت، على العكس من ذلك، أن (مؤسس الأكاديمية) استطاع بفضل نظرياته ومذهبه الروحي أن ينفذ إلى قلوب المتصوفة والمتكلمين والفلاسفة من علماء الإسلام، وقد بينا في بحث لنا أن (الفارابي) في محاولته التوفيق بين (أفلاطون) و (أرسطو) اعتمد على أربع محاورات هامة من مؤلفات الأول: فادن، بوليطقي، الجمهورية، وطيماوس، كما بينا إنه اصدر عنها واستشهد ببعض ما جاء فيها بشكل لا يدع جالاً للشك في أنه قرأها قراءة روية وتدبر. وفي هذا ما يؤيد فلاسفة الإسلام درسوا (أفلاطون) دراسة مباشرة وفي كتبه التي نقلت إلى العربية غير أن هؤلاء الفلاسفة لم يعنوا (بمؤسس الأكاديمية) عنايتهم (بأستاذ الليسيه) ولم ينل (أفلاطون) لديهم الخطوة التي نالها تلميذه (أرسطو). وقد أبان (رينان) من قبل مقدار إعجاب فلاسفة الإسلام بالأخير، وإحلالهم إياه محلاً خاصاً وتعلقهم بتعاليمه، واعتبارهم إياه حجة في العلوم النظرية فكان طبيعياً أن يبحث العرب عن مؤلفاته، وأن يترجموها في دقة وأمانة. وقد توفر لهم من ذلك عدد غير قليل في الاقتصاد والأخلاق، والطبيعة، والمنطق، وما وراء الطبيعة

كي يفهم (أرسطو) فهما حقاً ألا يدرس بمعزل عن تلاميذه وشراحه، لهذا اتجه العرب نحو أتباعه الأول وكبار مؤسسي (مدرسة المشائين) فأخذوا عنهم، وترجموا قدراً من كتبهم. وفي مقدمة هؤلاء الأتباع يجدر بنا أن نشير إلى تيوفرست الذي عرف بصلاته الشخصية (بأرسطو) وببعض مؤلفاته المترجمة إلى العربية. وهناك فيلسوف آخر من المشائين نال منزلة ممتازة في العالم العربي لا يفضلها إلا منزلة (أرسطو)، ونعني به الاسكندر الأفروديسي ' وكان (ابن سينا) يسميه (فاضل المتأخرين)، ويعتد بآرائه اعتداداً كبيراً ويروي لنا (يحي ابن عدي) إن شروحه على الميتافزيك والأناليتيك (لأرسطو) عرضت في السوق يوما فتسارع الناس إلى اقتنائها، ودفعوا فيها ثمناً باهظاً. أما شرحه على كتاب النفس فيعد من أقوم مصادر نظرية العقل ' التي لعبت دوراً هاماً في العالم الإسلامي وفي فلسفة القرون الوسطى عامة وإذن يمكننا أن نقول إن العرب عرفوا (مدرسة المشائين) ممثلة في أكبر رجالها ودرسوها مستعينين بأولى المصادر الموثوق بها بين مفكري الإغريق رجل آخر معاصر (للإسكندر الأفروديسي)، وعلم من أعلام الحركة العلمية الإسلامية، لا في الطب فقط بل في الفلسفة وتاريخها، ألا وهو جالينوس فإليه يرجع الفضل، فيما نعتقد، في نشر نظريات الرواقيين واللاأدريين بين العرب. وفي شرحه لمؤلف (أفلاطون) المشهور والمسمى طيماوس ما رفع من شأن هذا الكتاب، وما منحه سمعة عالمية في الفترات الأخيرة من العصور القديمة، وفي القرون الوسطى لدى السريانيين والعرب واللاتينيين ولا يفوتنا أن نشير إلى أن مكاتب (استامبول) تحتفظ بترجمة عربية لهذا الشرح الذي فقد أصله الإغريقي؛ وقد أطلعنا على بعض أجزائها صديقنا المسيو (كرادس) المدرس بمدرسة الدراسات العالية (بالسربون). فعسى أن تنشر هذه الترجمة كي نضم خدمة جديدة إلى خدمات العربية في ربطها بين التاريخ القديم والمتوسط، بل والحديث. و (لجالينوس) أيضاً أثر في العلوم المنطقية، فقد أدخل في منطق (أرسطو) عناصر جديدة تقبلها العرب وأخذوا بها. وعلى الجملة (فأرسطو) و (جالينوس) هما الباحثان الإغريقيان اللذان سادا الحركة العلمية الإسلامية واقتسماها فيما بينهما: (أرسطو) في الفلسفة، و (جالينوس) في الطب. على أن الثاني قد عدا في غير موضع على ميدان الأول واصبح العرب يسمونه بحق: (الطبيب الفيلسوف!)

لو وقف المسلمون عند (أرسطو) وكتبه وكتب تلاميذه المشائين، لكانت فلسفتهم مخالفة تمام المخالفة لتلك الفلسفة التي خلفوها. غير أنه لا يصح أن ننسى أن بينهم وبين (رئيس الليسيه) مدرسة الإسكندرية التي أثرت فيهم تأثيراً كبيراً. وان أثرها ليتناسب مع قربها الزمني من الثقافة الإسلامية، واعتناقها آراء أشربت بروح دينية؛ فنظرياتها تعد أول خطوة صادقة في سبيل التوفيق بين الفلسفة والدين. هذا إلى أن (أرسطو) نفسه وصل إلى العرب في ثنايا كتب علماء الإسكندرية وفلاسفتها؛ ذلك لأن هؤلاء الفلاسفة شرحوا النظريات الأرسطية في مؤلفات عديدة ترجم أكثرها إلى العربية. ويمكننا أن نذكر بين هؤلاء الشراح بورفير وتيمستيوس وأمونيوس وسمبليسوس وداود الأرمني ' وجان فيلوبون أو يحي النحوي، الذين كانوا أكثر اتصالاً بالمسلمين من تلاميذ (أرسطو) القريبين منه. ويتكلم (الشهرستاني) عن (بورفير) و (تيمستيوس) في لغة مملوءة بالاحترام ملاحظاً أنهما من أدق الشراح لنظريات (أرسطو) وإن كانا يخلطانها ببعض مبادئ الأفلاطونية الحديثة.

وينقل (الفارابي) بعض آراء (أمونيوس) مستشهداً بها في مواضع مختلفة. وقد تمكن (يحيى النحوي)، بفضل نظريته في خلق العالم ومناقشته لمذهب (أرسطو)، أن ينال حظوة علماء التوحيد المسلمين. وإذا تتبعنا شروح كتب (أرسطو) في المنطق التي ترجمت إلى العربية، وجدنا أغلبها من عمل فلاسفة الإسكندرية. وقد ترجمت هذه الشروح في آن واحد مع المتون التي تتصل بها، وأصبحت غير قابلة للفصل عنها. وليس هذا قاصراً على العلوم المنطقية، بل يتعداها إلى الدراسات الأخرى؛ ففي كل ناحية من نواحي البحث النظري لجأ العرب إلى علماء الإسكندرية ليستعينوا بهم على فهم (أرسطو) ومؤلفاته. وإن نظرة قصيرة إلى كتاب تاريخ الحكماء للقفطي ترينا أن هذه المؤلفات وشروحها التي ألفها علماء الإسكندرية كانت تكون في نظر المسلمين كلا مرتبط الأجزاء. وجملة القول أن مدرسة الإسكندرية بحكم موقعها الجغرافي والتاريخي كانت مهيأة لأن تنشر علومها وكتبها في العالم الإسلامي؛

من هذه العناصر المختلفة التي أشرنا إليها في اختصار تألفت فلسفة الإسلام، فإذا كان مذهب (أرسطو) عمادها القوي، فإن (أفلاطون) و (أفلاطن) قد أقرضاها مواد غير قابلة للأنكار، وقد لوحظ منذ زمن بعيد ما في الفلسفة الإسلامية من مخلفات الأفلاطونية الحديثة، إلا أنه لم يحدد بعد بالدقة المصادر التي أخذت عنها هذه المخلفات. فتارة يبحث عنها في إنياد (أفلاطن)، وأخرى في كتاب الربوبية وكتاب الخير المحض اللذان ينسبان خطأ إلى (أرسطو). فأما (أفلاطن) أو (الشيخ اليوناني) كما يسميه (الشهرستاني) فلم يترجم قط إلى العربية، وما ينقله (الشهرستاني) من آرائه يرجع إلى ما كتبه فلاسفة الإسكندرية الآخرون. وأما كتاب الربوبية وكتاب الخير المحض فقد نقلا من غير شك نظرية (أفلاطن) إلى المسلمين، غير أنه يجب أن نضيف إلى هذين الكتابين بين مؤلفات شراح (أرسطو) من فلاسفة الإسكندرية الذين أشرنا إليهم آنفاً. فإن هؤلاء الشراح لم يقدموا للعرب المذهب الأرسطي في صورته القديمة، بل مختلطاً ببعض النظريات الأفلاطونية والرواقية وأجزاء من الأفلاطونية الحديثة، ويدهشنا أنه لم يتنبه أحد بعد إلى هذه النقطة برغم مالها من أهمية، وإن من يتأمل قليلاً يدرك أن واحداً (كبورفير) أو (كسميليوس) إن شرح (أرسطو)، فإنه لا يستطيع التخلص تماماً من آرائه الشخصية، أو التخلي بتاتاً عن نظريات مدرسته، لذلك لم تنتج الحركة الفلسفية التي قام بها علماء الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي، والتي بينها (رينان) و (رافيسون) بياناً شافياً، مذهباً أرسطياً خالصاً، بل نظرية مشوية بعناصر مختلفة، فقد كان شراح الإسكندرية معنيين بالتوفيق بين (أرسطو) (وأفلاطون) من جانب، وبين الأول وجماعة الرواقيين من جانب آخر، وهذا التوفيق نفسه هو أوضح خاصة من خصائص الفلسفة الإسلامية. ونعتقد أنا إذا أردنا أن ندلي بحكم دقيق على هذه الفلسفة، فلابد أن يكون بين أيدينا شروح فلاسفة الإسكندرية وشروح كبار أتباع (أرسطو) الأول، وما دامت هذه الشروح لم تدرس دراسة وافية فإن آراء وأحكامنا المتعلقة بتاريخ الأفكار الفلسفية في الديار الإسلامية ستبقى ناقصة ومؤقتة.

إبراهيم بيومي مدكور دكتور في الآداب والفلسفة