مجلة الرسالة/العدد 950/على ضفاف الفتاة:

مجلة الرسالة/العدد 950/على ضفاف الفتاة:

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 09 - 1951



بلد الجمال

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

لم تكد وزارة المعارف - سامحها الله - تدعني أنعم بالقاهرة بعد أن نقلت من عنيبة عاصمة بلاد النوبة المصرية، حتى ألقت بي على ضفاف القناة. . قناة السويس، وبحيرة التمساح في مدينة الإسماعيلية، حيث تقوم الإنجليز صولات وجولات. وكأنما أراد الله سبحانه وتعالى، أو أرادت لي وزارة المعارف، أن ألمس السلطان الإنجليزي المقيت في منطقة قناة السويس، كما لمسته، ورأيته في السودان وما يتصل به، وتقلص السلطان المصري إلى حد يعتبر فيه الإنجليز أن البواخر النيلية التي تنقل الركاب والبضائع من وادي حلفا إلى الشلال وبالعكس - أرض سودانية، أو بمعنى أدق (إنجليزية) تجري في مياه مصرية. وعلى هذا فأية حادثة تقع فيها تختص في نظرها حكومة السودان لا الحكومة المصرية، حتى لو كان ذلك في الشلال نفسه بالقرب من أسوان.!!

ومهما يكن من شيء ففي الإسماعيلية الجميلة - التي لم أكن أعرفها من قبل إلا معرفة عابرة، حين كنت أمر بها بالقطار أو بالسيارة في طريقي إلى بور سعيد التي أمضي بها أكثر مدة الصيف غالبا - في هذه المدينة الجميلة رأيت طرازاُ جديداُ لما يجب أن تكون عليه المدن المصرية في العواصم والأقاليم. . وكنت أسمع من قبل بجمالها ونظافة شوارعها المستقيمة التي تمر بقسميها العربي والإفرنجي على السواء.

ولكني لم أكن لأتصورها على حقيقتها التي رأيتها عليها. ويمكن أن نقول صادقين: إن الإسماعيلية هي البلد الوحيد في القطر المصري الذي لا تستطيع أن تصفه بغير الجمال والنظام والحسن والنظافة مهما تجنيت عليه، أو حاولت إنقاص قدره، وتهوين شأنه، أو النيل منه لغرض من الأغراض.

ويرجع السبب في ذلك أن الإسماعيلية نظيفة بطبيعتها حيث تقع على بحيرة التمساح لتي تمر بها قناة السويس - فتأثر في جوها، وتجعله نقياُ وهادئاُ، عليلاُ بليلاُ. . وفي منظرها فنزيده روعةُ وجلالاُ، وتضفي عليه مهابة وبهاء، وأرضها صحراوية رملية، قد رصف أكثر شوارعها. إلا أن الصحراء تحيط بها من ثلاثة جهات فتهب عليها رياحاُ ساخن أحياناُ، وتحمل الرمال والغبار، فتكون سبباُ من أسباب الضيق والبلاء. . إلا أن هذا لا يحدث في غير أيام الخماسين، حيث تعم الشكوى في مصر من هذه الأيام

والإسماعيلية مدينة محدودة لها أول، ولها آخر. ولعلك تعجب حين تعلم أن الناحية البحرية منها لها سور حديدي يؤذن بانتهاء المدينة في هذا المكان. . وهي مدينة إفرنجية بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من معان، حتى أن السائر في بعض شوارعها يعتقد انه يسير في بلد أوروبي صميم، لا في شارع من شوارع مدينة مصرية ومرجع ذلك أن شركة القناة هي التي وضعت تصميم هذه المدينة، وجعلها في الأصل قسمين: أولهما حي الفرنجة، وثانيهما حي العرب، وهما يقعان شرقي الخط الحديدي من القاهرة إلى بور سعيد، وغرب ترعة الإسماعيلية التي استفادت منها الشركة في تجميل المدينة إلى أبعد حد. ذلك أنها بنت على طول شاطئ هذه الترعة الغربي القصور الفخمة لموظفيها، وكبار رجالها، وعلى هذا الشاطئ يقع شارع (محمد علي) وهو أطول شوارع المدينة على الإطلاق، وأكثرها اتساعا وأهمية

وغرست الأشجار على الشاطئين في نظام جميل، وبخاصة شاطئ الترعة الغربي حيث تمتد الحدائق إلى شاطئ بحيرة التمساح في صورة غابات كثيفة رهيبة من أشجار (الكزورين) و (اللاتانية) و (الكافور) وغير ذلك من الأشجار الضخمة التي جعلت الغابة ستارا كثيفا يحجب الشمس في أيام الصيف القائض أن تصل إلى المتنزهين والمرتاضين، في أية ساعة من ساعات النهار

وما أجمل بحيرة التمساح تلك البحيرة الهادئة الوادعة التي تنساب فوقها المراكب الشراعية الصغيرة، والقوارب البخارية هنا وهناك، وكأنها الحمائم البيض فوق صفحة لا يهيجها موج، ولا يعكر صفوها ريح عاصفة - وما أجمل بحيرة التمساح حين تمر بها البواخر الكبيرة الذاهبة إلى البحر الأحمر، والآتية منه، وكأنها مدن كبيرة تتحرك ببطء وتثاقل، كأنها تحمل أوزار العالم وآلام الوجود

وحدائق الإسماعيلية ذات شهرة عالمية، ذلك لأن اليد الفرنسية التي تمتاز بالذوق والجمال، قد افتنت في تنسيقها، وأبدعت في تنظيمها فصارت طرفة فنية تأخذ بمجامع القلوب ولكن لا يتمتع بها غير الأجانب التي لا تخلوا منهم الحدائق في أية ساعة من ساعات النهار. .

يخرج إليها الرجال والنساء والأطفال، في مظهر طبيعي لا أثر للكلفة والتصنع فيه. . أما المصريات بالذات فلا تكاد ترى لهن أثراُ في هذه الجنات الباسقات، الوارفة الظلال. وإذا قدر لك ورأيت مصرية دفعتها روح المدنية إلى أن تأخذ نصيبها من الرياضة الجميلة بين حدائق الغن، فإنك ناقم عليها أشد النقمة. . ذلك أنها لم تفهم معنى الرياضة، فهي تتخذ من عوامل الزينة ما يجعلك توقن أنها ذاهبة إلى معرض من معارض الأزياء والجمال. . يا الله! ما هذه الثياب الغالية المطرزة المفوفة التي تعوق سيرك أيتها المصرية الذاهبة إلى مواطن الطلاقة والمراح. . إلى الطبيعة المطلقة، الخالية من أسباب التصنع والتكلف المقيت. . بينما ترين الأجنبيات كالزهرات المتفتحات، وسط هذه الزهور الطبيعية، فيخيل إليك أنهن يكملن الوضع الطبيعي لهذه الزهور، وينسجمن معها في بساطة لا تدانيها بساطة، ومع هذا لا يمكن أن تحكم على هؤلاء الأجنبيات بغير الذوق والجمال الأخاذ

وقد ترى طائفة من الشباب المصري، فيتملكك الحزن لمنظرها وهي تسير في الطريق اللامع وقد حمل كل فرد عودا من القصب. . قصب السكر أطول منه، يلوكه بين ماضغيه، ويكاد يطحنه بأضراسه طحنا، ثم لا يكف أثناء المص عن الكلام البذيء، يلاحق به الرائحات دون اهتمام بما ينال في بعض الأحايين من تأنيب قاس يعتقد هو أن هذا فاتحة الباب.!

والحي الإفرنجي في الإسماعيلية نظيف جدا، شأنه في ذلك شأن الحي الإفرنجي في بور سعيد والسويس وأعني بهما بور فؤاد وبور توفيق. . وفي هذا الحي تجد العمائر الضخمة الفخمة، والفيلات الصغيرة المتناثرة، والشوارع اللامعة أرضها، والحوانيت الغاصة بأجمل السلع، وأغلى الأسعار. وينشرح صدرك إذا طوفت بهذا الحي سواء فالليل والنهار. . بيد انك لا تكاد ترى وجهاً مصرياً يقطن في هذا الحي، وأنمى هي وجوه غريبة من كل لون وجنس. . وجوه تنكرها ولا تعرفها. . . وجوه أجنبية كالحة أكثرها من الإنجليز الذين رمت بهم أمواج البحار، ولفظتهم بلادهم، وجاءت بهم المطامع الأشعبية اللآتمة إلى هذه الصحراء القاحلة في منطقة قناة السويس، فاحالتها أفكارهم إلى جنة وارفة الظلال. لا بأموالهم وجهودهم، وإنما بأموالنا نحن المصريين - أو بعبارة أدق بذلك الحبر على الورق، يصنعونه في مصالحهم بلا رصيد وغطاء، ويقذفون به ألينا جنيهات مصرية قشيبة لا نعرف لها أول من آخر. وبجهود عمالنا نحن المصريين الذين يكدون ويكدحون لقاء ما يأخذونه من أجر زهيد لا يكاد يقع موقعا من كفايتهم!

والحي العربي ليس في نظافة سابقه، وإن كانت شوارعه مرصوفة إلا أن فيه الفوضى المصرية سواء في المناول أو الدكاكين. وعلى البلدية تبعة ثقيلة جدا، ولنا معها حساب عسير، وذلك أنها لم تعمم المجاري بهذا الحي المسكين، فلم يخل شارع من شوارعه الكبيرة أو الصغيرة على السواء من أقذار يتراكم عليها الذباب، ومياه قذرة منتنة تلقى من النوافذ إذا جن الليل كأفواه القرب، أو تخرج بها النسوة والفتيات من الأبواب، أو تفيض بها أكثر الأحايين دورات المياه، حاملة معها الوباء العاجل والخطر الماحق والدمار الأليم. .

وغربي السكة الحديدية ثلاثة أحياء اخرى، دعت إليها سنة التطور وكثرت الزحام في الإسماعيلية! أولهما (عرايشية لندن) ولا تعجب لهذه التسمية فهو حي إنجليزي لحما ودما، بنيت عمائره بأيدي مصرية وضع فيها الذهب أو بعبارة أدق (الحبر على الورق) أيدي الإنجليز، وفي كل عمار من عمائره تقطن عشرات من الأسر الإنجليزية الصميمة التي نزحت إلى هذا القطر المسكين، لتشاطر أهله غلات أرضه وثماره، بل تستأثر دونهم بأطيب هذه الثمرات وخير هذه الغلات. . .

وثانيهما (عرايشة مصر) وهو حي متوسط يسكنه كثير من المصريين ذو الدخل العادي، ويشبه من وجوه كثيرة حي العرب في الناحية الشرقية الثالث (عراشية العبيد) وهو حي فقير، تسكنه الطبقات الفقيرة العاملة الكادحة في هذه المدينة الزاخرة بالناس من جميع الألوان والأشكال، والتي تفيض بالذهب في كل ناحية من نواحيها، ومع هذا لا يكاد يسمع الفقير رنين هذا الذهب ليجد منه السلوى والعزاء.!

هل كتب على المصريين أن يعيشوا دائماُ على هامش الحياة دون أن يفهموا شئُ من حقيقتها وإن طال بهم العمر وأمتد بهم الأجل!! إن الفقر ليس علة العلل كما يدعي بعض الناس، وإنما هو الجهل الفاضح بأسرار الكون، وحقيقة الوجود، وإلا ماذا تكلفنا النزهة اليومية ساعة كل يوم ومعنا أبناؤنا نتمتع فيها بالنسيم والهواء، والخضرة والماء، والجمال والصفاء؟!

عبد الحفيظ أبو السعود المدرس بمدرسة البنات الثانوية الأميرية بالإسماعيلية

-