مجلة الرسالة/العدد 950/لطافة الحس
مجلة الرسالة/العدد 950/لطافة الحس
للكاتبة الفاضلة (الزهرة)
سألتها وقد جاءت من الدنيا الجديدة في سباحتها الصحفية الأولى، إلى أرض الفراعنة الغر الميامين عن أول ما لفت نظرها؟ فقالت في صراحة القلب وذكاءه، يحن يخاطب قلبا يستمد حياته من دقة الحس ورقة الشعور: شيئان استرعيا اهتمامي يا صديقتي فور أن ضمني واديكم الخصب: الشيخوخة التي تعاجل الشباب عندكم عامة؟ والفتيات خاصة؟، ثم الافتقار إلى شي من لطافة الحس، والدقة في الرقة رغم الحلاوة التي أروى النيل بها شمائلكم، والسماحة التي أدرها لغرائزكم والصفاء الذي أجراه في طبعكم، واللطف الذي مزج به أرواحكم، والاعتدال الذي سوغه لأمزجتكم
فابتسمت في حسرة يخالجها الأسف، ولا يحدوها إلا امتعاض من أن تتلقى النبأ الصحيح على حقه، وتستمع للمقال الصريح على صدقه. . ورويت قليلا وكررت بذاكرتي إلى القرون التي خلت، ولا أدي لماذا رفعت وجهي إلى صاحبي وعاجلتها بذكر نتف من عبقرية (أحمد بن أبي دؤاد) العربي الأيادي، وقلت لها أن أبا العيناء (وهو أبو عبد الله محمد بن القاسم) الضرير، صفية وخدينة (وكان من ظرفاء العالم) كثير ما كان يقول عنه: (ما خرجت من عنده يوما قط فقال يا غلام: خذ بيده، بل قال: يا غلام اخرج معه! وكنت انتقد هذه الكلمة عليه، فلا يخل بها ولا اسمعها من غيره). قات تأميلها كلمة ما يعرف في ألفاظ الناس أرق منها دلالة على يقظة القلب ولطافة الحس. لعل غيره من الناس لو أراد أن يوجه أمثال أبي العيناء إلى طريق الخروج لناله مس من الأذى أليم ورهق من الضرر جسيم)
وتمر العوام، وأذكر قريبي الذي جاءني مساء اليوم وكان مضطربا متألما، ولهذا القريب مسطحات أنيقة من المساكن والعمائر التي أقامها للإيجار، وأنشأ لمؤاجريه في مؤخرتها أفنية فسيحة جميلة يستخدمها لمنافع الخاصة، وكان أحدهما مرجع ما لمحته عليه من الانزعاج والتأثر، قبل أن وافاني بأربع ساعات. وتفصيل الأمر أن كان قد وجه عزيمته على قضاء ساعتين في تنظيم مجموعة من الطرف الفنية التي يعتز بها. وما إن شرع في استعراضها، حتى دق جرس التليفون، وإذا بصوت قاصف يناديه من الناحية الأخرى قائل: (إني على أثر قيامي بتعليق قطعة من الملابس على حبل الغسيل الذي مددته لنا في فنائك المعجب. . قد. أف. . فأنا الآن أوشك أن أقل من الغضب، وأتمزع من الحنق عليك وأريد أن أندمك على تصميماتك المعمارية المؤذية، وأطالبك بالعطل والأضرار -)
ولم يستطع الرجل الدهش أن يهتدي إلى الداعي الذي يصل بين غسيل السيدة الشاكية وبين ثورتها الحاضرة عليه، ولكنها تابعت كلامها قائلة: (أحسست في هذا الصباح تعبا بعد الحفلة التي أقمتها في بيتي عشية أمس، فرأيت أن أخرج إلى فنائك العجيب وأقوم بغسل قطع من الثياب، وخرجت في ردائي الفضفاض الحريري، وخفي الرقيقين المصنوعين من فاخر الديباج، وإني لأحس لآن الرطوبة تقرس رجلي، وأتأفف من أوضارها التي أصابت ذيل ردائي الثمين الجديد، وكل هذه المصائب جرها على هذا الفناء الوبيل الذي أقمته لساكني عمائرك. . وعليك أن تسارع اليوم إلى اتخاذ ما يلزم لإصلاح الشأن وإلا -.)
ثم صفعت بعنف سماعة التلفون. وتنهد قريبي بعد أن فرغ من سرد قصته وقال: (لقد أصبح الناس في هذا الزمن زهقين رهقين، سريعين إلى الحد وإيذاء الشعور بالمسافة والوعيد، ولم يخطر لهم ببال أن يقدروا ما يبذله لهم الآخرون من العناية والرعاية). قلت: (ومع ذلك فلا تزال دنيانا العتيقة، تحتفظ ببقية صالحة من ذوي العواطف الرقيقة ولأخلاق الراقية ولذوق السليم والصدر الرحيب والذهن المرهف. فقد تلقيت في هذا الصباح خطابا من صديقة عزيزة، تقيم في بعض بلاد الأدغال الذاهبة في أحضان العزلة والانفراد. وإني لأجد في خطابها مصاديق جلية، تدل على أن الفؤاد الشهم الحي اليقظ، لايزال ينبض في جوانح بني الإنسان. فصاحبة هذا الخطب سيدة شابة حسناء، نزحت مع زوجها وصغيرها إلى تلك الربوع البدائية البكر، فاستأمنت إلى سكانها العتاة المتوعرين المحربين وخبرت أهواءهم، وسبرت احوالهم وعاشت معهم، وتعاونت مع زوجها الطبيب (البيكترليوجي) على إنشاء مستشفى صغير لهم وزارهما منذ شهور رحالة عالمي، وقال لصديقتي: (إنك في حاجة إلى بقرة حلوب هنا). وبعد أن عاد إلى موطنه بعث إليهما حوالة مالية قيمة لشراء البقر الحلوب، ولاقتناء ثور أصيل. وختمت الصديقة خطابها بقول أن هذا الرحالة العظيم ممن يسرون إلى صدق العهد في ضياء الرشد. فقد تعهد كل حاجة من حاجتنا ببصيرة نافذة وتفكر دقيق وبسط علينا جناح حدبة) هذا وقد أتيح لي التشرف بلقاء ذلك الرحال الخير في أوائل شتاء عامنا الحاضر، وإذا كنت أتحدث إليه، تلفت من فمه حكمة عالمية، هذا نصها:
(ليكن لنا إيمان وثيق بالله، ولنذكر أننا أفاد أسرة كبيرة واحدة، فلننظر دائماً إلى السماء) إن هذا الرجل يرفع بصره إلى العلاء، ويجتلي صفحة السماء على الولاء، وينظر بمجامع عينة إلى نقطة الدائرة حيث ينتهي كل موجود، وهو لذلك بمرأى دائم من الله جل جلاله، وإنه ليلقاه هناك ويعاينه وهو لذلك بمرأى دائم من الله جل جلاله، وإنه ليلقاه هناك ويعاينه وهو تعالى بالمكان الذي لا تراه الطوارف. يراه لأنه يرفع إليه بصره ويصوبه بعيدا عن ذاته فلا يراها. ولا عجب أن إنساناً ما لن يستطيع أن يرمق ببصره اتجاهين مضادين في وقت واحد. . أمفهومه فكرتي؟ أقصد أن أقول إننا بمقدار تنحينا عن ذواتنا نستطيع أن نجاور الله عز وجل ونقوي على الاتجاه نحوه والتوجه إليه بالبصر والبصيرة ونكون بمنتزح عن الأثرة وعبادة اللذات، ونتسامى إلى ذروة الكمال الأخلاقي الممكن، ونصل إلى الله وليس وراء الله مرسى ولا مرقى. ومعلوم أن النظرة المرتقية إلى الفوق الأعلى وهي التي تجعل الناس ذوي نفوس حساسة، وبصيرة نافذة، ينظر إلى حاجات الغير من وراء ستر رقيق، وتستنيطون خلجات القلوب، كما يستخرج الكشاف الدؤوب ودائع الغيوب، تسافر صلاتهم وهم دانون لم يبرحوا. ويفاجئون بالنوال الواسع والغوث السابغ، ويعفون بالنجدة على منية المتمني وهنا أسأل لماذا لا نرتفع بأفكارنا إلى الله، ولم لا نروض ذواتنا على ذلك منذ الساعة؟ إننا إن فعلنا ندرع بحياتنا اغتباطنا؟ ونستأنف لمزاولتها نشاطا عجيبا مبدعا، ونجعل وجودها ألطف من نسيم الشمال على أديم الظلال.
الزهرة