مجلة الرسالة/العدد 951/أصحاب المعالي

1 - أصحاب المعالي مجلة الرسالة/العدد 951/أصحاب المعالي (إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها) (حديث شريف) للأستاذ محمد محمود زيتون لست أقصد بهذا العنوان نقدا لوزراء آل الحكم إليهم أو زال عنهم، ولا أتحدث به عمن كانت لهم في الوزارة رياستان من سيف وقلم، ولا أريد أهل العوالي الذين كانوا يسكنون (العالية) في شمال المدينة المنورة، وإنما أرمي إلى الطواف على كل ذي همة عالية في التراث الإنساني عند العرب وغير العرب، في الماضي وغير الماضي، من الشعراء والفلاسفة والعلماء والمتكلمين والمناطقة وأهل الفن ورجال الدين وأساطين الاختراع، وجهابذة البيولوجية والسيكولوجية، وأستاذة الأخلاق والاجتماع والساسة والقادة وأئمة الإصلاح ورعاة الأمم ممن يمضون تحت لواء أصحاب المعالي الذين علو في سلم المجد إلى درجات العلا. وفي الحق إنها لمخاطرة. . فما أوسع الأفاق، وما أرحب الجوانب، وما أصعب التجميع بين الأشتات، والتوفيق بين المنظوم والمنثور، والتأليف بين أعالي الجبال، والتأليف بين اعلي الجبال ومعالي الأمور. وسنرى أن العرب - جاهلين وإسلاميين - كانوا حقا أصحاب المعالي في كل جانب من جوانب الحياة الكريمة، فقد امتلأت دواوين شعره، وسجلات نثرهم بكل مشتقات المعالي قولا وعملا حتى ليبدو للباحث المنصف أنهم أكثر أصحاب الحضارات إنتاجا في هذا الباب بحيث لم تكن تخلوا خطرات شاعرهم وناثرهم من الجبال العالية، حقيقة ومجازاً، بياناً وبديعاً، صراحة وكفاية. لهذا انفردت اللغة العربية بوفرة المشتقات من هذه المادة. قالوا في الفعل: علا يعلو ويعلى، وتعالى يتعالى، وتعلى يتعلى، واعتلى يعتلي، واستعلى يستعلى، واعلولى يعلولي، وأعلى يعلي، وعلى يعلي، وعالي يعالي، واعل وتعال وعالي. وفي الاسم والصفة قالوا: والعلو والتعالي والاعتلاء والعلاء والاستعلاء والعلي والعلى والعلى، والعلوى والأعلى والعالي والمتعالي والمعتلى والمعلى. والعلوان والعالية والعلياء والمعلاة والعليا والعليا والعليات والعلية والعلاوة، والأعالي والمعالي والعوالي والعلالي والعلاوي والعليون. وفي الحرف والظرف قالوا: على وأعلى وعلوا وعاليا وعلاء وعالية ومن علة ومن عال ومعال ومن على وعلو. والى جانب هذا اشتقت الأعلام فقيل: على ويعلى والعلاء، والعلا والأعلى وابن العلاء وأبو المعالي وأبو العالية وأبو العلاء وعبد الاعلى، وعلية، وأم العلاء، ومن أسماء الأماكن المعروفة في الحجاز: العالية والعلياء والعوالي والمعلى والعلاية وعلو المدينة. وقالوا: سدرة المنتهى، والفردوس الأعلى والجنة العالية وأعلى عليين. واشتقوا من هذه المادة بعض الاصطلاحات الفنية فمنها: استعلاء الحروف وهو أن تتصعد هذه الحروف في الحنك الأعلى والمستعلي من الحروف سبعة وهي الحاء والغين والقاف والضاد والصاد والطاء والظاء - ورجل علو للرجال (على وزن عدو) قاهرهم. والمرأة عالية الدم أي يعلو دمها الماء وهي تتعلي من نفاسها أي تطهر منه، والعالية في القناة أعلاها، وعوالي الرماح كناية الشباب والوجاهة، قالت الخنساء وقد خاطبها دريد: (أترونني تاركة بني عمي كأنهم عوالي الرماح ومرتثة شيخ بني جشم) وعالية الوادي حيث ينحدر الماء منه، ويقال: استعلى الفرس على الغاية إذ بلغ الغاية عن الرهان ويقال: لا تعل الرياح على الصيد فيراح ريحك ونفر، ويقال: كن في علاوة الريح وسفالتها، والمعلي (بفتح اللام) وهو القدح السابع في الميسر، وهو أفضلها لأن له غنم سبعة أنصباء أن فاز، وعليه غرم سبعة أنصباء أن خسر، وللناقة حالبان: البائن والمعلى والمستعلي. قالت الكميت: يبشر مستعليا بان ... من الحالبين بأن لا غرارا وعليون: ديوان الملائكة الحفظة يرفع أليه أعمال الصالحين من العباد، وهذه كلمة تستعلي لساني أي تجري عليه. وذهب الرجل علاء وعلوا إذا ارتفع، وتعلت المرأة أو تعالت أي ارتفعت وتشوقت لخطابها، وتعلى الرجل من علته إذا برأ، ويقال في الدعاء لكثير المال: اعل به أي أبق يعده. والمعتلي المقصر قال طفيل الغنوي: ونحن منعنا يوم حرس نساءكم ... غداة دعانا عامر غير معتل فالمعتلي فرس عقبة بن مدلج، والعلاة فرس عمرو بن جبلة، والمعلى فرس الأشعر الشاعر، وعلوي فرس سليك. وعلوي فرس خفاف بن ندبة الذي قال فيها: وقفت له علوي وقد خام صحبتي ... لأبني مجدا أو لأثأر هالكا وعلوي أيضا أسم فرس كانت من سوابق خيل العرب. وكذلك الناقة ناقة عليان طويلة جسيمة، وناقة علاة وعلية وعليان. وعالية القوم وعلياهم أي أعلاهم، وعلية القوم وعليهم: أشرافهم. وتولدت الألفاظ المرادفة للمعالي فاشتق منها. رافع وصاعد وطالع وطلاع وطلعة، وعزيز ومعتز ومعز، وقد يضاف إليها أبن أو أب أو أم. وأنف الناقة وسنام الأمر. والسمو والرفعة والعزة والقمة والذروة والخفة والهمة والصعدة والرقية والطلعة والتوقل والشرف والشرفة، والغارب والمجد والمحتد والأصل، وأبو النجم وعبد شمس وعبد الأعلى. واقتضى ذلك معرفة بأحوال الجبال والتلال، والنجوم والأفلاك، والرياح والمشارق والمغارب، والترحل والتسيار، والمياه جاريها وراكدها، ومواطن النهوض والنكوص، وعوامل العزة والذلة، وعلامات الرفع والخفض، والأصول والمحاتد، والمبادئ البانية والهادمة، والنفوس المتقدمة والمتخلفة، والمناصب المالكة، والأوضاع المملوكة، واتجاه المرء من العالي والى السافل وبالعكس. احتفلت كنوز العربية بهذه الذخائر، واستطاعت أن تعطي للحضارة عناصر القوة في انتقال تراثها من المادية إلى المعنوية، شأنها في ذلك شأن الإنسانية في إطارها الواسع حين تدرجت - في النظر والتأمل - من الأشياء المحيطة إلى النفوس المدركة ذاتها. وليس من الطبيعي أن يتأمل الطفل نفسه أول ما يتأمل، بل هو يظل طويلا يتفحص الموجودات المحسوسة ثم يدقق - من بعد - في البحث وراء النفس وخصائصها. فالجبال العالية، والسماوات العلا، والآفاق الممتدة، والأفلاك الشارقة الغاربة، الطالعة والآفلة، والأطيار الغادية والرائحة، والسهام والرماح في مروقها وهبوطها، والجمل البارك والطامح، والكثبان حين تعلوا وتسفل مع الرياح السوافي، والصواعق حين تنقض، والأمطار حين تنزل، والقوي حين يتغلب على الضعيف، وحالب الناقة حين يعلوا ويسفل، والمرء حين يرتفع ويتضع بنسبه وحسبه وقوله وعمله، والعيون في مطالعة المشاهد في وضح النهار، والأشباح في غبش الظلام؛ والآذان في تتبع الأصوات من مصادرها، وأصدائها البعيدة المديدة، والحيوان والإنسان في الطلوع والنزول. . ومقارنة هذا كله بعضه ببعض من حركات بين السماء والأرض؛ والعالي والسافل، من فوق إلى تحت. . هذه المدركات لابد أن ينتقل بها المنطق الإنساني من المحسوس إلى المعقول، أو من المادة إلى المعنى، ومن المدرك إلى المجرد، ومن الأشباح إلى الأرواح، فكان الإنسان - تبعا لذلك - همزة الوصل بينهما. ومصداق ذلك العلياء رأس الجبل وهي أوسع ما علا من الشيء، وهي أسم من أسماء السماء. والمفهوم أن الفكر الأمم قد تراوح على مر العصور بين الأرض والسماء، وبين الثرى والثريا، والسماك والسمك، وتنقل بين مطالب المادة والروح. وهنا نعرض نماذج موجزة لهذه النقل قالوا. فلان خطير النفس، بعيد مرتقي الهمة، وأنه ليسموا إلى معالي الآن، ويصبوا إلى شريف المطالب، وتنزع همته إلى سني المراتب. وأنه لطلاع ثنايا (وهي الطرق في الجبال) ويؤم معالي الأمور، يجري في غلاء المجد، ويتسور شرفات العز، وفلان بنى له مجداً مؤثلا (راسخا) وتفرع (صعد) ذروة المعالي، ووثب إلى قمة الشرف، وعلى العكس من ذلك قالوا. فلان قاعد الهمة، عاجز الرأي، متخاذل العزم، لا تسموا همته إلى منقبة، ولا يدفعه طبعه إلى مكرمة، وقد استوطن مهاد الخمول، وأخلد إلى الصغار واستنام إلى الضعة، ورضى من دهره بالدون، وقعد عن ما تسموا الأمور النفوس العزيزة، وترقى الأمور الهمم الشريفة. وفي العزة يقولون. عزيز الجانب، منيع الحوزة؛ حصين الناحية، وفلان أقام تحت ضلال العز، وبلغ عزا لا يقرع الدهر مروته ولا يفصم عروته ولا ينقض مرته، ولا يزال كعبه عاليا وهو أعلى عينا. وفي الذلة يقولون. كليل الظفر، مهيض الجناح، ضعيف المنة (القوة)، مخضود الشوكة، مالت دعائم عزه، وتهاوت كواكب سعده، وتقوض سرداق مجده: وفي النباهة يقولون: ذهب سمعه في الناس، وتجاوب بصدى ذكره المحافل، ورن صيته في الأقطار، وهو اشهر من القمر، واشهر من نار على علم (جبل)، وعلى الضد من ذلك: وهو خامل الذكر، ضئيل الحسب مغمور النسب، وهو نكرة من النكرات وغافل من الأغفال، وهو تعلوا عنه العين وتنبو عنه. ومن باب الإيماء إلى المعالي اختيار عناوين الكتب، فللحلبي (النفحة العلوية) وللذهبي (العلو للعلي الغفار). وإذا قال العرب: يفتله في الذروة والغارب فذلك كناية عن أن يستميله. وهذا أبن خفاجة الأندلسي يمنح الحياة للجبل العالي، ويضفي عليه صفات الرعونة والطموح، والحركة الذاتية، إذ يقول: وأرعن طماح الذؤابة باذخ ... يطاول أعنان السماء بغارب يسد مهب الريح عن كل وجهة ... ويزحم ليلا شهبه بالمناكب وهذه صورة جلمود صخر حطه السيل من علي تنعكس على حس امرئ القيس، ولا تفوت خياله وهو يرى جواده يجري في قوة واندفاع فيقول: مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من علِ ويقول زهير: تبصر خليلي هل ترى من ضعائن ... تحملن بالعلياء من فوق جرثم ويتجلى طموح الذهن، وتطاول الخيال في هذا الصراع النفساني بين الواقع والمثال، حين يقول الشاعر الجاهلي القديم، وهو يتحدث عن فرسه السريع: ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر للكلام صلة محمد محمود زيتون