مجلة الرسالة/العدد 952/على ضفاف القناة:
مجلة الرسالة/العدد 952/على ضفاف القناة:
2 - على ضفاف القناة:
معمل تكرير البترول
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
وأعني به المعمل الحكومي الذي يقع في الزيتية قرب مدينة السويس، بجوار المعمل العظيم الضخم الذي (تمتلكه) الشركة الإنجليزية لحماً ودماً، والمعروفة بشركة (شل).!
زرت هذا المعمل الحكومي مع تلميذاتي، طالبات القسم الثانوي بمدرسة الإسماعيلية الثانوية الأميرية للبنات، وفي ذهني صورة مشرفة عنه، تعتز بها كوطني غيور، وأستاذ يحاول أن يشرب نفوس تلاميذه وتلميذاته حب الوطن، والاعتزاز بمرافقه الحيوية، ومقومات وجوده. .
أقول في ذهني صورة كونتها من المعلومات الكثيرة المتنوعة - في الواقع - التي تنشر في الصحف والمجلات والكتب المدرسية، التي في أيدي الطلاب والطالبات، والتي تصور هذا المعمل في إطار من الجلالة والكمال، والروعة والعظمة، ما تمتلئ له نفس المصري بالفخار والإجلال.
ومن العجيب المؤلم أنني فجعت في هذا الأمل. في هذه الصورة الجليلة العظيمة التي كونتها من الصحف والمجلات، والكتب المدرسية، لا من البحث والدرس والتنقيب. . ووقفت ذاهلاً حيران، حينما علمت الحقيقة المرة، التي تسيء إلى مصر والمصريين أجمعين، وتدل دلالة واضحة على غفلتنا وبلهنا، وتمكن العنصر الإنجليزي اللعين في البلاد، أو بعبارة أدق السلطان الإنجليزي، وتمكنه في مرافقنا الحيوية إلى حد كبير، حتى ليخيل إلى الآن، أن صراخنا وهتافنا بين الحين والحين، ومطالبتنا بالجلاء الناجز، ما هو إلا عبث أطفال عاجز، والطريق الوحيد إلى الحرية والاستقلال هو غير ما نفعل بلا مراء. . أنه أشبه بهتاف الأطفال والصغار كلما رأوا طائرة في الجواء، محلقة في الفضاء، ارتفعت أصواتها مدوية مجلجلة: (يا عزيز يا عزيز. . كبة تأخذ الإنجليز. .).!
والعزيز القهار الذي لا يغلبه شيء في الأرض ولا في السماء قادر على أن يأخذ الإنجليز، ولكنه لا يأخذهم إلا إذا حاولنا نحن أخذهم والقضاء عليهم، واتخذنا طريق الجد والسعي والعمل، لا طريق الهزل والنقاش والفرقة والجدل، ومهما كانت جهودنا ضعيفة ضئيلة، فإ العزيز القاهر سينصرنا حينئذ عليهم نصراً مبيناً، ويتولى هو أخذهم ما دمنا نتذرع بالإخلاص، ونتذرع بالإيمان والعزم. .
إن الزائر العابر لهذا المعمل الحكومي يعجب بما فيه من عدد وآلات، ومساحة واسعة، وبناء فخم ضخم، فيه بذخ وسخاء. كما جرت بذلك عادة حكومتنا السنية الرشيدة في عنايتها الكبيرة بالبناء والعمارة، ومبالغتها في تشييدها وتنسيقها. وتنظيمها إلى حد يخرج بها عن الغرض الذي بنيت من أجله، وبدل دلالة واضحة على المبالغ الكبيرة التي أنفقت عليه، والتي يذهب أكثرها إلى جيوب المرتشين من القائمين بكل عمل حكومي نظير تغاضيهم عن الأصول المرعية، والقواعد المرسومة، والاشتراطات الموضوعة، والمتفق عليها، والقوانين التي يجب أن تسود. .
وإن الزائر العابر يؤخذ بما يقال له من معلومات معسولة جذابة، وعبارات منمقة حماسية، كلما طاف باتجاه المعمل، وتجول في أرجائه ونواحيه. . معلومات تسيطر على حواسه، وتملك عليه جوانب نفسه، ويعتقد أن مصر سعيدة به إلى حد ليس بعده سعادة، ويخيل إليه أن إنتاجه يغمر البلاد بأسرها، ويسد حاجة مصر من هذه المواد الضرورية في مختلف نواحي الحياة من بنزين وكيروسين وديزل ومازوت وفزلين إلى غير ذلك من منتجات البترول، أو الذهب الأسود بعبارة أدق.! ولكن الواقع غير ذلك، إذ أن هذا المعمل بجلالة قدره لا يعمل للسوق. . هذا المعمل الذي تشرف عليه وزارة التجارة والصناعة لا ينتج للاستهلاك الشعبي، وإنما يعمل وينتج للمصالح الحكومية فحسب. ينتج البنزين والكيروسين والسولار والمازوت، ولا شيء غير ذلك، ومع هذا فإن جماع إنتاجه لا يكفي هذه المصالح، ولا يسد غير جزء يسير مما تحتاج إليه، والتي تمد يدها دائماً مستجدية معمل شل، وغيره بقية معامل العالم، فتستورد مقادير كبيرة تسد بها حاجياتها، وبخاصة مصلحة الميكانيكا والكهرباء التابعة لوزارة الأشغال.!
إن هذا المعمل الحكومي العظيم يعيش على فتات موائد معمل شل، أي أنه يكرر نصيب الحكومة في استغلال آبار البترول، ويقدر بحوالي خمسة عشر في المائة مما تخرجه هذه الآبار، وهي كمية أقل ما يقال فيها: إنها نصيب الخائب، المغلوب على أمره، والذي ليس له من الأمر شيء، إلا أن يسمع فيطيع. .!! هذه الحقيقة المرة التي فجعت آمالي، وخيبت ظني في هذا المعمل الوطني، لأنه في الواقع يستمد حياته من معمل شل، ولا يكاد يستقل بأمره، أو ينهض فريداً بأعباء العمل الذي من أجله قد بني، إلا إذا أردنا نحن المصريين له مخلصين. .
أما معمل تكرير البترول الإنجليزي، وأعني به معمل شل فإنه يفوق معمل تكرير البترول المصري بمئات المرات لا أقول مساحة وإنما أقول إنتاجاً وكفاية، واستعداداً للطوارئ، ومواجهة للظروف كائنة ما كانت. . إنهما كالعملاق الجبار الذي يزهو بقوته وجبروته، والقزم الذليل الهزيل الضعيف، الذي يتضاءل ويتضافر خجلاً واستحياء لئلا تقع عليه العيون، لشعوره بضعفه وحقارته، وضآلة شأنه، وهوانه على الناظرين. .!!
وينتج هذا المعمل بجانب الأنواع التي ينتجها المعمل الحكومي - الديزل والفزلين والإسفلت وغير ذلك مما يحتاج إليه الاستهلاك الشعبي، والسوق في مختلف نواحي العالم. ولا يخفى ما في ذلك من ربح وفير. . وإن زيادة واحدة لمدينة السويس حيث يقوم هذا المعمل الكبير المترامي الأطراف، وجولة خاطفة بالغردقة ورأس غارب وسناجة. . تجعلنا ندرك إلى أي حد تتدفق الأموال باستمرار في جيوب هذه الشركة العاتية، أو بعبارة أدق كيف يسيل الذهب من مصر إلى خزائن الإنجليز براقاً يخطف بالأبصار. . ثم لا يعجب بعد ذلك لما يراه من مظاهر الغنى والثراء التي تكتنف هذه الشركة، وتحيط بموظفيها من الإنجليز بخاصة لأنهم الذين يستأثرون مع قلتهم بالمناصب الكبيرة ذات المرتبات الضخمة جداً، ولا يضير الشركة ذلك ما دام سيتمتع بمرتباتها الكبيرة أبناؤها من الإنجليز، لأن الإنجليزي يعرف كيف لا ينفق قرشاً واحداً خارج بلاده، ويدفع بجميع ما يمتلكه داخل بلاده، ولعلنا ندرك بعد هذا السر في تقشف هؤلاء الإنجليز المصطنع وبخاصة كبار الإنجليز في وزارة المعارف وغيرها من الوزارات، يرتدون أقل الملابس قيمة، وأحقرها شأناً، إلى حد أن يوقع الناظر إليهم في الضحك الساخر، والهزء اللاذع، وإن كانوا لا يقيمون وزناً لكل ما يسمعون، فلقد ضرب بهم المثل في الصفاقة والبرود، ولهم دائماً أذن من طين، وأخرى من عجين كما يقولون. .
وتحتل إدارة هذه الشركة في القاهرة أكبر عمارة في ميدان توفيق، مكونة من ستمائة حجرة، ومجهزة بآلات تكييف الهواء صيفاً، وأنابيب التدفئة شتاء، ويمتلك هذه العمارة شركة مصر للتأمين، وتدفع شركة شل إيجاراً لها قدره خمسة وثلاثون ألفاً من الجنيهات سنوياً. ويقال إن القيادة البريطانية هي التي تدفع إيجار هذه العمارة مستترة وراء شركة شل، وذلك لاستعمالها في أغراض حربية عند اللزوم، ويدلل أصحاب الرأي على صحة ما يقولون بأن شركة شل كانت تسكن في عمارة بها ستون حجرة فقط، فكيف يقفز عدد الحجرات من ستين إلى ستمائة دفعة واحدة، وبلا سابق إنذار!!
ومما هو جدير بالذكر أن المركز الرئيسي لهذه الشركة في لندن، وله مجلس إدارة يدير شركة شل يرأسه سير (فردريك جوبر) وجميع أعضاء هذا المجلس من الإنجليز، ما خلا عضواً واحداً مصرياً، هو مندوب الحكومة المصرية. . وأننا نحن المصريين قد جددنا امتياز احتكار هذه الشركة للبترول المصري ثلاثين عاماً ابتداء من سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وألف ميلادية!!
وبعد: فإن مجرد زيارتي لمعمل التكرير الحكومي بالسويس ووقوفي على هذه الحقائق المرة، أضعفت ثقتي إلى حد كبير بما يكتب وينشر من أناس تضعهم في مقدمة المؤلفين والباحثين والمنتجين، وبما يذاع في أنحاء البلاد ممن لا يتوخون الحقائق حين يكتبون، وبخاصة في هذه الموضوعات الاقتصادية الوطنية، وكان الأولى بهم أن يتحروا الحقائق خدمة لهذا الوطن المرزوء.!
وإن من البلاهة والغفلة أن نقنع أنفسنا حكومة وشعباً بأننا نملك معملاً للبترول، ثم نملأ الدنيا ضجيجاً باستعداده وإنتاجه ما دمنا لا نستقل نحن باستغلال هذه الآبار التي حيت بها الطبيعة بلادنا المصرية العزيزة، وليس لنا دخل فيها، وإنما هو خير ساقه الله إلينا، ولم نعرف بعد كيف ننميه ثروة قيمة يكون لها دخل كبير في رقي البلاد، بل لم نعرف كيف نحافظ عليه من أيدي الغاصبين الذين ينتهبون كل شيء، ويستغلون هذه البقرة الحلوب - مصر - إلى أبعد حد، دون خوف ولا استحياء ولا إصاخة لصوت الضمير. .
إننا لآثمون في حق هذا الوطن الغالي، مفرطون في حق هذه البلاد الغنية الوفية، حيث لا تتعاون الجماعات ولا تنشأ الشركات المصرية الصميمة، لاستغلال مرافق البلاد، وما أودع الله فيها من عظيم النعم، وجليل الخيرات. .
وإننا ضقنا ذرعاً بجعجعة ساستنا الذين يستغفلون هذا الشعب المسكين، الذي لا يكاد يفيق من آلامه، وجراحه العميقة الناغرة على الدوام، ولا يحرصون على خيره ونفعه حرصهم على مناصبهم وكراسي حكمهم، ولا يخلصون له النصح في تنمية موارده، وتكثير ثروته، إخلاصهم في تنمية مواردهم وتكثير ثروتهم، بل جعلوه قنطرة يصلون بالتظاهر بالإخلاص له والعمل لخيره - إلى ما يريدون، من تكوين ثروات، واقتناء ضياع، وتشييد عمارات وقصور، واستغلال مؤسسات وشركات. . وإن الأمل لمعقود الآن على جهود الشباب حتى يتم إنقاذ هذا الوطن المسكين. . فهل آن الأوان. .!!
عبد الحفيظ أبو السعود