مجلة الرسالة/العدد 953/أبو الثناء الألوسي الكبير

مجلة الرسالة/العدد 953/أبو الثناء الألوسي الكبير

مجلة الرسالة - العدد 953
أبو الثناء الألوسي الكبير
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 10 - 1951



(بمناسبة مرور مائة عام على وفاته)

للأستاذ محمود العبطة

1 - عصر الألوسي الكبير:

عاش الألوسي الكبير السيد أبو الثناء في بغداد، وفيها ولد وبها مات. وكانت بغداد في العصر الذي عاش فيه، وهو يمتد من منتهى القرن الثامن عشر حتى ينيف على منتصف القرن التاسع عشر للميلاد، أيالة من أيالات الدولة العثمانية، تتعاورها الخطوب، وتصب عليها المصائب؛ فمن جهل وأمية وأوبئة واغتصاب للحقوق وسلب للحرية، وغزوات من القبائل المجاورة إلى غارات متتالية متتابعة من إيران وبلاد نجد. . . وقد عاصر الألوسي الكبير خمسة ولاة من ولاة بني عثمان على بغداد، اثنان منهم وهما داود باشا (1770 - 1849م) وعلي رضا باشا (تولى عام الولاية 1831م)، من أشهر ولاة بني عثمان الذين تولوا مدينة السلام بعد المصلح الشهير المرحوم مدحت باشا الذي جاء بعدهما بسنين قليلة. إذ أدخل الأول - داود باشا - أنظمة جديدة للإدارة الحكومية وأوجد حرساً من المماليك والأغوات لقصره، وتمكن بدهائه وذكائه أن يجعل الأمن يستتب في أنحاء العراق، كما قضى على الفتن والثورات الداخلية وقام بأعمال عمرانية وشق الترع والأنهر، وكان مع ذلك يؤيد التقدم العلمي والثقافة العقلية حتى بلغت المعاهد العلمية في عهده ثمانية وعشرين معهداً ودام حكم داود في بغداد أربع عشرة سنة وقد رغب في أواخر حكمه الانفصال عن الدولة شأن محمد علي الكبير والي مصر وعزيزها؛ فأعلن استقلال العراق عام 1245هـ أما الوالي الثاني وهو علي رضا باشا الشهير باللاز، فقد كان كسلفه داود، يحب النظام ويسعى إلى تطبيقه، وهو الذي أمر القائد التركي (قاسم باشا) بضرب الحصار على مدينة بغداد وإخراج داود منها، ودام الحصار مدة ولم يرفع إلا بانتشار الطاعون في الجيش المحاصر الذي تسرب إلى المدينة، وقد اتفق مع هذا المرض الساري الوبيل فيضان دجلة على أطراف بغداد فبغداد نفسها، فكان كرب عظيم. وكانت النفوس تقضي بين القتل والغرق وفتك المكروب، وكان يموت أو يقتل في اليوم الواحد مائة وخمسون نفراً على أق تقدير، وقد وقع الطاعون والفيضان في أواخر عام 1246هـ، وبعد دخول الوالي الجديد على رضا وقد هلكت أكثر نفوس بغداد حتى لم يبق من نفوسها غير عشرها! كما تدمرت مرافقها العمرانية وقصورها ومنشآتها الأخرى، وهنا لابد أن نشير إلى التصادم المسلح الذي وقع بين أعوان الوالي القديم وأعوان الوالي الجديد وهذا أدى إلى قتل الكثير كما أدى إلى حريق عظيم أنتشر في بغداد.

وقد عمد الوالي الجديد علي رضا إلى ترميم ما وقع، كما سعى بهائه إلى القضاء على سلطة المماليك والانكشارية وبذلك أنهى عصر المماليك الذي دام ثلاثة وثمانين عاماً (من 1750 إلى 1833) والذي ختم بانتهاء حكم داود باشا، وبعد القضاء على سلطة المماليك التي أنزلت على البلاد خسفاً وظلماً، دبت الحياة في بغداد ورجع إليها أهلوها الذين تفرقوا أيدي سبأ في القرى المجاورة والمدن البعيدة؛ كما دخلتها التقسيمات الإدارية والتنظيمات الحديثة في جهاز الدولة المتداعي؛ إذ أنه في عهد علي رضا أصدر الخليفة العثماني عبد المجيد (خط كولخانة) وذلك في عام 1255هـ (1839م)، وهذا الخط في أول بشائر الإصلاح في الولايات العثمانية الذي بدأ في عهد سلفه السلطان محمود الثاني القاضي على سلطة الانكشارية في الدولة عام 1241هـ (1826) وأول من أدخل التنظيمات العسكرية الحديثة في الجيش العثماني، وتبع علي رضا في تسلم ولاية بغداد محمد نجيب باشا (ولايته عام 1842م) ونجيب هذا قوي وذكي. سار كسلفيه علي رضا وسابقه داود على منهج إصلاحي وأشتهر بتأديبه العشائر الثائرة في أطراف العراق واستعماله سياسة القوة في ذلك. وكان الأخير هو عبد الكريم باشا ولم يكن كأسلافه في شؤون الولاية والإدارة وبعده جاء رشيد باشا. عاصر الألوسي أبو الثناء هؤلاء الولاة، وكان كل منهم الحاكم بأمره والمطيع الأعمى أيضاً ينفذ ما يريده السلطان العثماني من جباية المال، وجمع الضرائب. والألوسي بطبيعة الحال وبطبيعة مراكزه ووظائفه المتصلة اتصالاً مباشراً بالجمهور، ينصاع لتيار الرأي العام ويستجيب لمطالبه وحاجاته، ولم يكن الألوسي بالرجل الجبان ولا بالشخص المستسلم لمشيئة أولي الأمر ولولاة البلد، بل كان على العكس لا يهاب السلطان، ولا يخشى الولاة، ولهذا نراه ينضم إلى الأحزاب المعارضة للسلطة الحاكمة، نراه يناصر داود باشا على علي رضا باشا في وقت عز النصير لداود، وانفرط من كان حوله من الحاشية والأنصار، وأدت مناصرته لداود باشا، ومؤازرته له أن حبس في سجن (نقيب أشراف بغداد). وبعد أن أفرج علي رضا عنه ابتسمت الدنيا له وشرب القليل من نعيمها، ولكن لم يطل له ذلك إذ سرعان ما عاد عليه النحس بعد السعود وذلك في عهد ولاية نجيب باشا الذي عزله من منصبه العظيم (الفتوى) وأساء. معاملته، فساءت حاله واسود الزمان في وجهه فصبر وثابر حتى قصد عاصمة السلطنة العثمانية (استنبول) فنال من دهره ما أراده. عاش الألوسي أكثر من نصف قرن، وفي عهد اختلت فيه القيم الاجتماعية والمقاييس الأدبية كما أن الحرية الشخصية والكرامة والعقيدة كانت حديث خرافة ليس إلا! عاش في عصر مظلم ليس فيه للقوانين والأنظمة سلطان ولا سيادة، هذا مع العلم - كما أشرنا - أنه عاصر ولاة مصلحين محبين للصالح العام، ولكن ماذا يفيد الوالي المصلح إذا كان الجهل ضارباً يجرانه؛ والتعصب والتخريب هو السائد وهو المتحكم؟ كما أن الرغائب الفردية هي الكل في الكل، والبلد كله في هرج ومرج، إذن نقولها غير مترددين: إن الألوسي الكبير عاش في عصر الظلم والظلام. . وكل عصور الظلم والظلام حيث لا عدة للشخص في الحياة إلا القوة والبطش أو استعمال الذكاء والأساليب الملتوية، في كل عصر من هذه العصور السود، تسود البلاد الفتن والفوضى، ويخيم الجهل والخرافات كما تنعدم المرافق الزراعية والصناعية والثقافية، وهذه كلها هي العلامة الفارقة لبغداد بعد سقوط خلافة بني العباس وبعد هجمات التتر والإيرانيين والتركمان والأتراك. . وعصور الظلم والظلام التي ذكرنا صفتها البارزة تمتاز مع ذلك بظهور النبوغ الفردي، والكفاءة الشخصية، إذ يظهر أشخاص يجدون في هذه المفارقات الاجتماعية، وفي تقلبات الظروف والأحوال مجالاً لعبقريتهم النفاذة وشخصيتهم اللامعة، كما أن التجارب المتعددة والمفاجئات المباغتة توجه أعصابهم للتكيف الاجتماعي وأهتبال الفرص لنيل مآربهم وغاياتهم. والألوسي الكبير، بلا ريب، من هذه الشخصيات، لأنه زج نفسه في زحام المعارك وكان في عهود الولاة الأربعة ممثلاً للرأي العام في قصور الولاة والحكام على رغم الحوادث التي لم تنل منه بل زادته صلابة وثباتاً! لأنه - وهو أبن بغداد الصميم - والمتصل اتصالاً مباشراً بالجماهير التي يعظها ويخطب فيها ويفتي في شؤونها الأخروية والدنيوية، لأنه وجد ألا سبيل لمقارعة الحكام الظلام، والولاة الطائشين، ومن يحيط بهم ويؤازرهم من ذوي الأغراض والأطماع إلا بالتكتل والتجمع والمطالبة الصريحة بالإصلاح، وهذه الصفات بينة في حياته المضطربة القلقة، تبيانها في مؤلفاته الدينية والعلمية والأدبية، فهو في كلتا الحالتين متأثر في بيئته ومجتمعه؛ وكل كتبه المطبوع منها والمخطوط ترينا صحة هذا القول، فهو العربي العراقي البغدادي الأول الذي ناوأ السلطة وجاهر بعداء الولاة، هذا فوق أنه صدر العلماء وزعيم الحركة الثقافية والعلمية في عصره والمجتهد الديني؛ وهو كما قال أحد تلامذته (فخر علماء المسلمين الواصل إلى رتبة الاجتهاد) فهو المصلح الديني والاجتماعي، وتفسيره الفخم (روح المعاني) يرينا صدق قول تلميذه بأنه واصل إلى مكانة الاجتهاد، لأن الألوسي يوجه المسلمين إلى إصلاح وتقويم وترميم كيانهم الاجتماعي المنحل المنفسخ قبل مائة عام. . وهو بعد ذلك مرآة حساسة دقيقة لعصره الذي رسمنا ملامحه في السطور السابقة، وهو يرينا بعواطف الأديب، وأحاسيسه الرقيقة وذوقه السليم، يرينا الحالة الاجتماعية والثقافية والأدبية لذلك العصر بصورة واضحة بينة، لا كذب فيها ولا تزويق.

2 - البيت الألوسي:

أشتهر الشرق العربي ومنه (العراق) في القرن الماضي بوجود عائلات علمية تحمل العلم والأدب من الأجداد إلى الأحفاد. . ومن هذه العائلات أو البيوتات في مصر، الشرقاويون والرازقيون (آل عبد الرزاق) والرافعيون وغيرهم، ومنها في لبنان اليازجيون والبستانيون والشرتونيون، أما في العراق فقد أشتهرت في بغداد بيوتات كثيرة تمتاز بحصر العلم والأدب بأبنائها فحسب، وأشهر هذه البيوتات الألوسيون والسويديون والواعظون والرحبيون والحيدريون والزهاويون والقمريون والطبقجليون. . الخ

وهذه العوائل البغدادية تمتاز فوق أنها تحمل الصفة العلمية التي تتوارثها، فهي اختصت بصفة أخرى لا تقل عن الأولى أهمية وخطورة، ألا وهي فروع العلوم من منطق وكلام وأدب وحديث، تنحصر في عائلة منها فقط، ويبقى هذا الفرع في نماء وازدهار في الأجيال القادمة من العائلة نفسها، فبيت السويدي أشتهر بالحديث والمنطق، وبيت الواعظ بالوعظ، وبيت الزهاوي بالمنطق والكلام، وكثير من الفقهاء ظهروا من بيت الطبقجلي والرحبي، ويضاف إلى ذلك ما لانحصار الثقافة العلمية في العائلة الواحدة من أثر عظيم في خلق الجو العلمي والأدبي في صقل المؤهلات وتقويم الملكات والتوجيه الصحيح المستقيم، إذ أن الطفل في أمثال هذه العوائل يشاهد أول ما تتفتح عقليته ويشتد ساعده، يشاهد جواً علمياً يقومه ويعينه في خلق مستقبل علمي صحيح. . . وهذا القول يظهر جلياً واضحاً في الألوسي المترجم له، إذ أنه تتلمذ على أمه وأبيه قبل أن يبلغ سن الحلم، ثم لقي من رعاية أبيه وأستاذه وتوجيهه وإرشاده ما جعله مضرب الأمثال في الرواية والحفظ وسرعة البديهة ودقة النظر.

فالوراثة والبيئة والتوجيه الصحيح تعاونت في سبيل خلق رجال هذه العوائل وإعدادهم للعلم والأدب.

و (ألوس) التي ينتسب إليها أبوالثناء، قرية تقع على نهر (الفرات) قرب (عانات) وينتسب إليها من العلماء والأدباء محمد بن حصن الألوسي الطرسوسي، والشاعر المؤيد الألوسي (توفي عام 557هـ)، وقد تضاربت الأقوال في صلة العائلة بألوس، فمن قائل إن العائلة بغدادية النجار، ولكن أحد أجداد العائلة فر إلى ألوس من وجه هولاكو التتري عند دخوله بغداد، ثم رجع أحد أبنائها إلى بغداد في القرون المتأخرة، وهذا رأي الأستاذ محمد بهجت الأثري، ويقول صاحب (حديقة الورود) ما معناه أن أجداد أبي الثناء عاشوا ببغداد، وقد سافر الشيخ إسماعيل الألوسي من علماء القرن الحادي عشر للهجرة إلى (استنبول) إذ أنعم عليه السلطان العثماني بالمنح والهدايا، ومما منح له أراض واسعة في جهات عانات وألوس، فسكن الشيخ إسماعيل وأهله ألوس، وبقي أبناؤه فيها حتى القرن الثالث عشر للهجرة إذ هاجر منها السيد محمود الخطيب بن السيد درويش وأقام بمدينة السلام، والرأي الثالث هو رأي كاتب مقدمة (روح المعاني) إذ يقول: (انتقل منها - من ألوس - أجداد شيخنا من نحو مائتي سنة إلى الزوراء) وروح المعاني قد طبع عام 1301هـ فيكون تاريخ هجرة الألوسيين إلى بغداد هو القرن الحادي عشر للهجرة (السابع عشر للميلاد). ومن ملخص هذه الآراء الثلاثة المختلفة والمتفقة معاً، لنا أن نقول إن العائلة الألوسية بغدادية الأصل، وأنها اضطرت إلى النزوح من بغداد لعوامل قهارة، منها كثرة الفتن والاضطرابات والغزوات المتعددة، وأنتشار الأمراض، وأنها سكنت (ألوس) وجعلتها لها مستقراً ومقاماً.

والذي لا خلاف فيه ولا جدال أن السيد عبد الله بن السيد محمود والد المترجم له ورئيس مدرسي بغداد في عصره، قد ولد في بغداد وبها ترعرع، وبعد أن بلغ عبد الله المذكور سن الحلم تزوج (صالحة) بنت الشيخ حسين العشاري المتوفى في حدود عام (1200هـ)، والألوسي عبد الله والد محمود الألوسي توفي في بغداد في الطاعون المشهور (عام 1246هـ) بعد أن أنجبت له صالحة ولدين من الذكور هما عبد الرحمن ومحمود، ولم يكن عبد الحمن بن عبد الله الألوسي (1244 - 1284هـ) أقل شأناً وشهرة من أخيه أبي الثناء، وقد قضى عمره في حل القضايا العامة ومشاكل الناس حتى قيل إن الحكومة المحلية في بغداد كانت تشكو انصراف أبناء الكرخ إليه، وصدهم عنها في فصل القضايا، ورجل هذا شأنه لم ينصرف بكليته إلى التحصيل انصراف شقيقه الصغير، والذي أجمع عليه مؤرخو الأدب في العراق ومترجمو العائلة الألوسية أن هذه العائلة تنتهي إلى الدوحة النبوية الكريمة، وهذا شرف يزيد شرف العلم والأدب وحسن الأخلاق، والمترجم له حسنى الأب حسيني الأم؛ ومن المناسب أن نثبت هنا أرجوزة نظمها الشاعر المعاصر للألوسي عبد الباقي العمري ذكر فيها إياه الألوسي وأجداده ابتداء من الألوسي الكبير أبي الثناء وحتى جده الأعلى عليه السلام، قال العمري:

السيد (المحمود) في الأفعال ... سليل (عبد الله) ذي الأفضال

أبوه (محمود) بن (درويش) الذي ... ينعى (بعاشور) غياث اللائذ

ابن (محمد) سليل (ناصر) ... للدين ينعى (للحسين) الطاهر

ابن (علي) بن (الحسين) المقترى ... إلى (كمال الدين) ذي التقرر

سليل (شمس الدين) ذي اليقين ... أبن (محمد) بن (شمس الدين)

سليل (حارس) لشمس الدين ... يعزى وذا النجل شهاب الدين

ابن (أبي القاسم) طاهر النسب ... أبن (أمير) ذاك طاهر الحسب

ابن (محمد) إلى (بيدار) ... يعزى كما قد جاء في الأخبار

وجاء من بعده أبيه (عيسى) ... (محمد) بن (أحمد) بن (موسى)

و (أحمد) من بعده (محمد) ... و (أحمد الأعرج) فهو السيد

ينعى إلى الشهير (بالمبرقع) ... (موسى) إلى (الجواد). . . .

(أبن الرضا) أبوه (موسى الكاظم) ... أبوه (جعفر) الإمام العالم أبن (محمد) الإمام الباقر ... سليل (زين العابدين) الطاهر

نجل (الحسين) السبط عالي الهمم ... ريحانة الهادي شفيع الأمم

نجل (على) الطهر ذي المفاخر ... حاز العلا من كابر عن كابر

وأمه (فاطمة) البتول ... بضعة (طه) المجتبى الرسول

صلى عليه الملك الوهاب ... ما اتصلت بين الورى الأنساب

3 - حياة الألوسي:

إن الدارس لحياة الألوسي الكبير، تلك الحياة الخصبة المليئة تمتاز بعمقها وعرضها، ولا تمتاز بطولها، إذ أن الألوسي لم يزد عمره على الخمسين سنة إلا قليلاً، وهذا العمر القصير لم ينصرف إلى الخدمة العلمية والأدبية فحسب، بل أنصرف إلى حمل أعباء ثقيلة، منها عبء التدريس والإفتاء، وعبء الزوج والأهل، ثم عبء مجالسة الأنيس والصديق، وقد وصفه واضع مقدمة التفسير بقوله (فهو وإن رأيته يسامر أحبته مشغول الفكر بحل المشكلات، أو مشياً لمسجده فهو متفكر بحل المعضلات)، وهذا لعمري وصف صادق لهذا الرجل الحازم، الذي لا يعرف للراحة نصيباً، فهو مع مسامرته لأحبائه وخلانه، أو مع ذهابه وإيابه، يكون عقله الباطن يقلب المسائل ويضع التصاميم، وإذا عرفنا أنه ذاق مرارة الفقر والحرمان في طفولته، وعرفنا أيضاً حالة عصره المظلم وما فيه من مآس ومشاكل، وفقد للقيم والمفاهيم، إذا عرفنا ذلك كله، لا بد لنا وأن نحني الرأس إجلالاً وإكباراً لهذا الرجل عظيم الذي شارك - على الرغم من هذه العراقيل - في سائر علوم زمانه وعبر عن روح عصره أحسن تعبير، مع أن عمره هو دون عمر الإنسان، ولنا أخيراً أن نعلل موته المبكر - إن صح التعبير - بسبب جهد أعصابه ومغامراته السياسية ورحلاته وقيامه بمهام التدريس والإفتاء والتأليف.

وحياة الألوسي ظاهرة مبسوطة لمن يريد دراسته على الرغم من ندرة التدوين في زمانه وقلة وسائل النشر والطبع أيضاً، فهو قد كتب تاريخ حياته بتفصيل دقيق في مقاماته، كما ألمع إليها كثيراً في رحلته (غرائب الاغتراب) وهناك ترجمة وافية لحياته في مقدمة تفسيره (روح المعاني) كما أن أحد تلامذته النجباء، كتب عن حياته كتاباً لم يزل مخطوطاً وهو (حدائق الورود) هذا بالإضافة إلى معاصريه من الشعراء وأشهرهم الأخرس والعمري، وأحمد عزت والتميمي الذين رسموا في شعرهم ملامح متعددة عن حياة الألوسي الكبير، ولا يقل المتأخرون من علماء العراق عن المتقدمين في العناية بالسيد الألوسي، وأشهر هؤلاء حفيده العلامة محمود شكري والأستاذ محمد بهجت الأثري والمؤرخ عباس العزاوي والدكتور محمد مهدي البصير، والألوسي الكبير الذي لقي العناية التي يستحقها شخصه وأدبه وعلمه في حياته وبعد مماته، جدير وأهل بأن تزداد عنايتنا به ودراستنا له، وبخاصة أن ذكرى وفاته المئوية مناسبة حسنة في هذا الموضوع.

للكلام صلة

محمود العبطة