مجلة الرسالة/العدد 954/أصحاب المعالي

مجلة الرسالة/العدد 954/أصحاب المعالي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1951


4 - أصحاب المعالي

(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفافها)

(حديث شريف)

للأستاذ محمد محمود زيتون

ويكاد أحمد بن منير الطرابلسي يكون الطغرائي الثاني في مطالع معانيه:

وإذا الكريم رأى الخمول نزيله ... في منزل فالحزم أن يترحلا

كالبدر لما أن تضاءل جد في ... طلب الكمال فحازه متنقلا

سفهاً لحلمك إن رضيت بمشرب ... رتق ورزق الله قد ملأ الملا

فارق ترق كالسيف سل فبان في ... متنيه ما أخفى القراب وأخملا

لا تحسبن ذهاب نفسك موتة ... ما الموت إلا أن تعيش مذللا

للقفر لا للفقر هبها إنما ... مغناك ما أغناك أن تتوسلا

لا ترض من دنياك ما أدناك من ... دنس وكن طيفاً جلا ثم انجلى

أنا من إذا ما الدهر هم بخفضه ... سامته همته السماك الأعزلا

ولأبي العتاهية مثيل في التذرع بالزهد والتقوى التي هي أوضح السبل إلى جانب الحزم والجد والثبات والحركة، ذلك هو الصفدي القائل:

الجد في الجد والحرمان في الكسل ... فانصب تصب عن قريب غاية الأمل

إن الفتى من بماضي الحزم متصف ... وما تعود نقض القول والعمل

ولا يقيم بأرض طاب مسكنها ... حتى يقد أديم السهل والجبل

ومنها:

ولا يصد عن التقوى بصيرته ... لأنها للمعالي أوضح السبل

والبيان في نظر سهل بن هارون هو سبيل المعالي التي يفصح عنها اللسان يقول: (إن الله رفع درجة اللسان فوق جوارح الجسد. . . فهو أداة يظهر بها البيان. . . ومفصاح بمعالي الأمور، ودليل على ما بطن في القلوب.،)

وفي هذا يقول الشاعر: رأيت العز في أدب وعقل ... وفي الجهل المذلة والهوان

وما حسن الرجال لهم بحسن ... إذا لم يسعد الحسن البيان

كفى بالمرء عيباً أن تراه ... له وجه وليس له لسان

ونفطويه يجمع بين لسان العرب ودين الإسلام:

سبيلي لسان كان يعرب لفظه ... فيا ليته في موقف العرض يسلم

وما ينفع الأعراب إن لم يكن تقي ... وما ضر ذا التقوى لسان معجم

وسلم الناس إلى المجد في العصر الحديث هو العلم كما يقول شوقي:

كل يوم آية دلت على ... أن للعلم القوى والغلبا

لو بنوا فوق السها مملكة ... لوجدت العلم فيها الطنبا

سلم الناس إلى المجد إذا ... طلبوا سلمه والسببا

أما أبو تمام فيرى أن المعالي من غير شعر كالأرض لا معالم فيها:

وإن العلا ما لم ير الشعر بيتها ... كالأرض غفلاً ليس فيها معالم

وما هو إلا القول يسري فيغتدي ... له غرر في أوجه ومواسم

ويرتفع المتنبي بالشعر فوق الجبال، ويطير به عبر البحار إذ يقول:

قواف إذا سرن عن مقولي ... وثبن الجبال، وخضن البحارا

ويقول عن شعره أيضاً:

إن هذا الشعر في الشعر ملك ... سار، فهو الشمس والدنيا فلك

ومن طلب المعالي فليشمر لها وليسهر الليالي، هكذا يرى عبد الله فكري:

إذا نام غر في دجى الليل فاسهر ... وقم للمعالي والعوالي وشمر

وخل أحاديث الأماني فإنها ... علالة نفس العاجز المتحير

ولن تحط الأحداث من قدر رجل عالي الهمة كمحمود صفوت الساعاتي إذ يقول:

ماذا تريد الحادثات من امرئ ... من جنده الشعراء والأمراء

دعها تمد كما تريد شباكها ... فلربما علقت بها العنقاء

ومنها:

أتحط قدري الحادثات وهمتي ... من دونها المريخ والجوزاء ومنها:

أنا والمعالي عاشقان وطالما ... وعد الحبيب فعاقه الرقباء

ويلتقي الشيخ طنطاوي جوهري مع الساعاتي في أن الأول عاشق المعالي والآخر محب المعالي. وكذلك يلتقي مع عبد الله فكري في التوسل إلى المعالي بسهر الليالي، وإن كان يربي عليهما بالتحليق إلى آفاق أسمى وأرجاء أرحب، يقول:

محب المعالي في معاليه يسهر ... وذو الشوق في العلياء يصبو ويصبر

ألا إنما المجد المؤثل والمنى ... بأن تشرئبوا للعلا وتشمروا

ولا تقتصر إن رمت عزاً ورفعة ... على الرتب الدنيا فنفسك أكبر

فسافر لنيل المجد في كل فدفد ... ولو كانت الأسفار بالحتف تسفر

هي النفس فلتصرف عنان جوادها ... إلى قمة الأفلاك إذ هي أجدر

وخاطر ببذل الروح في كل صولة ... فنقد المنايا في المنى ليس يكبر

ولم ينل العلياء من خار عزمه ... إذا نابه أمر يذل ويضجر

وهو القائل:

أف لمن نام والعلياء ترمقه ... كم حسرة تعتريه حين يختطف

وقال كعب بن سعد الغنوي لابنه:

أعمد لما تعلو فما لك بالذي ... لا تستطيع من الأمور يدان

نرى من هذا كيف أن معالي الأمور شغلت الشعراء قديماً وحديثاً، ولئن اختلفوا وأنفقوا على وسيلة إدراكها، فما ذلك إلا دليل كبير على الحيوية الإنسانية في الشعر العربي، والارتفاع بالنفس الخبيرة المجربة عن التقليد، فإذا كل واحد يختط سبيله إلى العلا حراً من كل قيد، مما يجعل للشخصية العربية الشاعرة أصالة وثقافة ممتازتين.

وليس أدل على هذا من عرض مواطن القوة عند شاعرين بينهما من الزمن ما يكاد يقارب الألف من السنين. وهما المتنبي والبارودي:

أما المتنبي فقد تشربت نفسه المعالي في كل أمر حتى لا يطالعنا من شعره بيت إلا بالمعاني الخالدة من مغامرة وسماحة وعلو همة وكبح جماح. يقول:

إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم

والله إني لأخو همة ... تسمو إلى المجد ولا تفتر

لا تنكري عطل الكريم من الغني ... فالسيل حرب للمكان العالي

ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث ضخام

وما أنا منهمو بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام

أي محل أرتقي ... أي عظيم أتقي

وكل ما قد خلق الله ... وما لم يخلق

محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي

لا أشرأب إلى ما لم يفت طمعاً ... ولا أبيت على ما فات حسرانا

في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل

وترى الفتوة والمروءة والأبوة ... في كل مليحة ضراتها

هن الثلاث المانعاتي لذتي ... في خلوتي، لا الخوف من تبعاتها

وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام

من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام

ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام

ولا شك أن هذه الأبيات المختلفة وزناً وقافية وقصيداً إنما تنتظم كلها في عقد فريد للمتنبي، لا بأس من أن نطلق عليه (عقد المعالي)، لأن عمدة الشعراء بتجاربه في الحياة وتأملاته في المعالي إنما يشغل سمع الزمن، مهما تغيرت النظرات، كما أنه شاعر إنساني درج عالياً في سلم النشوء والارتقاء إلى أعلى القمم.

وهل من المعقول أن نجد تناقضاً بين نفسية البارودي وحياته، حين نقارن بين البواعث والآثار. وهو الشاعر الفارس الوزير، ورئيس الوزراء، بل وهو الذي نفى بسبب الثورة العرابية التي اتقدت نيرانها من مشاعل الوطنية مما يفخر به شعب أبي مترفع كالشعب المصري الذي أطلع أمثال البارودي رب السيف والقلم. قال:

ولي شيمة تأبى الدنايا وعزمة ... ترد لهام الجيش وهو يمور

إذا سرت فالأرض التي نحن فوقها ... مراد لمهري والمعاقل دور فلا عجب إن لم يصرني منزل ... فليس لعقبان الهواء وكور

همامة نفس ليس ينفي ركابها ... رواح على طول المدى وبكور

معودة ألا تكف عنانها ... عن المجد إلا أن تتم أمور

لها من وراء الغيب أذن سميعة ... وعين ترى ما لا يراه بصير

وأصبحت محسود الجلال كأنني ... على كل نفس في الزمان أمير

إذا صلت كف الدهر من غلوائه ... وإن قلت غصت بالقلوب صدور

ملكت مقاليد الكلام وحكمة ... لها كوكب فخم الضياء منير

وقال:

وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت ... لسلطانه البدو المغيرة والحضر

من النفر الغر الذين سيوفهم ... لها في حواشي كل داجية فجر

إذا استل منهم سيد غرب سيفه ... تفزعت الأفلاك والتفت الدهر

لهم عمد مرفوعة ومعاقل ... وألوية حمر وأفنية خضر

ونار لها في كل شرق ومغرب ... لمدرع الظلماء ألسنة حمر

تمد يداً نحو السماء خضيبة ... تصافحها الشعري ويلثمها الغفر

ويقول:

وما بي من فقر لدنيا وإنما ... طلاب العلا مجد وإن كان لي مجد

ومن كان ذا نفس كنفسي تصدعت ... لعزته الدنيا وذلت له الأسد

ويقول:

وما أنا ممن تأسر الخمر لبه ... ويملك سمعيه اليراع المثقب

ولكن أخوهم إذا ما ترجحت ... به سورة نحو العلا راح يدأب

نفى النوم عن عينيه نفس أبية ... لها بين أطراف الأسنة مطلب

لها غدوات يتبع لوحش ظلها ... وتغدو على آثارها الطير تنعب

همامة نفس أصغرت كل مأرب ... فكلفت الأيام ما ليس يوهب

ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محبب

خلقت عيوفاً لا أرى لابن حرة ... لدي يداً أغضي لها حين يغضب أسير على نهج يرى الناس غيره ... لكل امرئ فيما يحاول مذهب

للكلام صلة

محمد محمود زيتون