مجلة الرسالة/العدد 954/على هامش النكبة

مجلة الرسالة/العدد 954/على هامش النكبة

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1951



نفوس كبيرة

للأستاذ حسني كنعان

عاد من غرفة مدير المدرسة يتأبط مجموعة للكتابة ومسطرة وقلم رصاص، وكان بجانبه في المقعد تلميذ ظريف مداعب يحب مداعبته دائماً، وما كاد يلج الصف ويجلس مكانه على المقعد حتى فاجأه هذا الرفيق (الدعوب) يقول له:

- هنيئاً لكم معشر التلاميذ اللاجئين الفلسطينيين هذه المنح والأعطيات والهدايا التي تقدم إليكم مجاناً الفينة بعد الفينة، ونحن ننظر بأعيننا دون أن يصل إلينا مثل الذي يصل إليكم. .

فمن كتب مدرسية إلى أقلام ودفاتر وماحيات وحرامات للتدفئة وسراويل وصداري). . . ثم إلى آخر ما هنالك من حاجات تبهج الفؤاد وتقر العين وتثلج الصدر. فلماذا لم يوزعوا علينا مثلها؟ ألسنا تلاميذ مثلكم، نتعلم كما تتعلمون، وندرس كما تدرسون. . وكان هذا الحار يتكلم والبسمة لا تفارق شفتيه القرمزيتين زيادة في الدعابة، فحسبه صديقه جاداً في قوله، وليس من عادته أن يركبه بمثل هذه الدعابة التي أثرت في نفسه تأثيراً عميقاً، فرجع بالذاكرة إلى الماضي القريب كيف كان يدفع إليه مثل هذه الهنوات المدرسية ليوزعها على فقراء الطلاب في مدرسته الأولى قبل أن يغادرها مجلياً مشرداً طريداً، فطفرت من مقلتيه الدموع حارة على المصير السيئ الذي انتهى إليه، ثم نظر إلى رفيقه نظرة عتاب وسلامة، بيد أن صديقه ما قصد بقوله ذاك سوى الدعابة والمباسطة والإيناس ليدخل إلى روع صديقه أن قبول الهدايا لا ضير فيه ولا عار، وأنها لو قدمت إليه نفسه على شرف والده وثرائه وغناه لما استنكف عن قبولها، لكن هذا اللاجئ حسب أنه جاد لا هازل فقال له فيما قال:

- أتحسدوننا على هذه الحاجات التي لا تعدل شيئاً في نظرنا، وقد تركنا الأطيان والأموال والحلي والرياش والمتاع والعقار. . وخرجنا من بلادنا حفاة عراة لا نلوي على شيء. .

وما هذه العطايا التي تعتبرونها هدايا لنا إلا كالهبات ومسليات لنا عن مصابنا الأليم الفادح، فو الله لا آخذها ولن أقبل شيئاً منها بعد الآن. .

وهنا أخذت الحدة مأخذها من الطفل اللاجئ الذي لا يتجاوز تحصيله السنة الثانية من سني المدارس الابتدائية وأعتبر أن مزاح رفيقه قد مس كرامته فأهوى على المجموعة فمزقها، وعلى القلم والمسطرة فحطمهما، وألقاهما في سلة المهملات ومضى يقول:

أجل كيف نقبل مثل هذه المنح الرخيصة، من يد المتعسفين الظالمين الذين أذلونا وشردونا وأخرجونا من ديارنا وأقاموا مقامنا حثالة من شذاذ الآفاق! إن هذا لن يكون. . . فبهت رفيقه، وندم على ما بدر منه، وأخذ يعتذر له ويطلب منه العفو والمغفرة، فلم يفد من اعتذاره ومؤانسته شيئاً. . بينما كان معلم الصف منهمكاً بكتابة الوظيفة الليلية على اللوح سمع حوارهما الرقيق بلسان الطفولة البريئة، ورأى أن هذه الحركة غير عادية في درسه، فترك اللوح وأقبل على الطفلين يستطلع خبرهما. ولما أدرك القضية وعرف سببها أوقفهما على انفراد في زاوية من زوايا الصف ريثما ينتهي من عمله فيجري معهما التحقيق اللازم ويعاقبهما بعده لإخلالهما في درسه. .

انتهى الدرس وخرج التلاميذ إلى الفسحة، فتقدم المعلم من التلميذين الموقوفين وبدأ بالتلميذ اللاجئ قائلاً:

- أيجوز لك (يا عامر) أن تتلف المجموعة وتحطم المسطرة والقلم وترمي بهما جميعاً في السلة، ثم ترفض النعمة التي أنت أحوج الناس إليها؟ إن عملك يا عامر لا يعمله تلميذ عاقل، في حين أن رفيقك لم يقل ما قاله إلا مداعباً ومازحاً. . ومن عادة الأصدقاء الدعابة والتظرف والإيناس. . فرفع عامر إصبعه بأدب وطلب من أستاذه أن يسمح له بالكلام، فسمح فاستهل الصبي كلامه قائلاً: أنت يا سيدي بمقام والدي ومن حق الوالد على الولد أن يصغي إلى شكوى ولده بروية وهدوء. .

- فقال المعلم: أحسنت يا بني تكلم وأوجز. .

- سيدي إن من عادة رفيقي هذا الدعابة والمزاح فهو يمازحنا جميعاً، وما علمت أن أحداً أزعجه مزاحه ودعابته، لكنني هذه المرة لا أدري كيف أثرت دعابته بي هذا التأثير الذي اعتبرته جارحاً للعاطفة مثيراً للنفس في حين أنه كان صداه الدعابة ولحمته المزاح على الغالب. . .

وقد أثقل على ذلك وأنا ربيب نعمة وأليف خير ورخاء، ما تعودت تناول العطايا من أحد أو أن أسمع شيئاً مما قاله اليوم صديقي، وما فعلت ذلك في أدواتي إلا ترفعاً وإباء وندماً على أخذ هذه الهدية، فلأن أعيش جاهلاً ثم أهلك برداً وجوعاً وعرياً أحب إلي من سماع قول كهذا وأخذ يجهش بالبكاء. .

وكان هذا الولد ابن رجل ثري في حيفا يملك ثلاث بيارات واثنتي عشر مفتاحاً لدور ودكاكين ومخازن، وكان إلى جانب هذا يملك ثروة تقدر قيمتها بثمانين ألف جنيه ذهبت جميعها نهباً مقسماً لشذاذ الآفاق، حتى أن والده عندما شعر بأن السلطة الحاكمة هناك حالت دون وصول النجدة من المجاهدين الأشاوس إلى حيفا وألجأت أهلها إلى الخروج منها بالقوة، وأنها ساعدت الغزاة الغادرين على مطاردتهم منها، عاد إلى الدار ليحمل ما يقدر على حمله من الأموال، فقتل وهو هارب بها وسلبت منه، وقد علمت الأسرة بمصرعه وهي مؤلفة من زوجة ثكلى وولد وبنت، أما الولد فهو عامر صاحب قصتنا هذه، وأما البنت فهي التي عالت هذه الأسرة كما سترى، وأخيراً أتت هذه الأسرة المروعة بأعز عزيز لديها إلى حيفا، وقد أجلتها السلطة المنتدبة عن ديار الآباء والأجداد على الجملة، ولم تدعها تودع فقيدها الغالي ولو بنظرة أخيرة تلقي على جثمانه الطاهر الذي همد كالصرح مجندلاً بدمه، أجل أتت إليها تلك السلطة الشيطانية فأركبتها سيارة أقلتها إلى الميناء ومن ثم قذفوا بها في قارب مع من قذف من سكان حيفا ووجهتهم ميناء صيدا تحت وابل من رصاص الآثمين المعتدين. . .

وبعد مشقة وعذاب وصلوا إلى ميناء هذه المدينة الساحلية انتقلوا بعد ذلك إلى بيروت، وأقاموا حقبة من الزمن كأنها دهر، فزين لهم أقاربهم اللجوء إلى دمشق فأموها وهم في حالة يرثى إليها من التعب والمسغبة. . .

ولما وصلوا إليها متأخراً لم تدون أسماؤهم في جمعية الصليب الأحمر. وكان لا دخل لديهم إلا معاش البنت التي عينت معلمة للغة الإنجليزية في المدارس الخاصة، وذلك بعد أن من الله عليهم بالإقامة فيها وكانت الأجرة زهيدة. .

وكان المعلم يعرف هذا كله فلم يستغرب ما رأى وما سمع منه فرق لحاله، وأخذ يخفف عن الصبي ويسري عنه ويربت على كتفه ويقول:

- نعم العمل عملك يا بني، ونعمت النفس الأبية نفسك. ثم تقدم وأخرج من منضدته مجموعة ومسطرة وقلم رصاص ودفعها إلى الصبي بلطف راجياً منه قبولها هدية منه، وزاد في الإيناس والتلطف حتى تخيله الصبي والداً له، فاستحيا منه وتناول الأدوات والاحمرار باد على وجهه، والعرق يتصبب من جبينه، ذهب التلميذ مساء إلى البيت يحمل بيده الراعشة الهدايا من يد معلمه الأب المعنوي له. . .

ولكن الصبي عاد في اليوم التالي بالأدوات إلى المدرسة ودفعها إلى أستاذه مع رسالة من والدته تشكر المعلم على حسن صنيعه وتصرفاته مع ولدها ثم تعتذر من قبول الهدية وتقول:

إنها لا تريد أن ينشأ ولدها على مد يده للهدايا ما دام في يديها وعنقها حلي وأطواق تبيعها تباعاً لتنفقها على ولدها كلما أبصرته بحاجة إلى المال للحصول على اللازم من أدوات المدرسة وتكاليفها. .

هذه حادثة واقعية ليست من نسج الخيال يلفقها كاتب أو شاعر للدخول إلى قلوب القراء وتملقهم واستمالتهم ولفت أنظارهم إلى أسلوب خاص بالأدب القصصي: بل هي من القصص الواقعية التي نراها ونسمع عنها تصدر كل يوم عن هذا الشعب العربي الأبي الذي نهنهته النكبة وأذلته الفاقة وهو ما انفك محافظاً على إبائه وكرامته. . .

فإن دلت هذه الأفاحيص على شيء فإنما تدل على كبر هذه النفوس التي تحلي هذه الجسوم الصغيرة، وأنا لنأمل يوماً أن يستطير شررها فتنقلب إلى براكين جياشة تنفجر فتقض مضاجع أولئك المستعمرين الغاصبين الذين سببوا هذه النكبة، وسيكون إنقاذ البلاد السليبة ما تقاسى الآباء على أيدي هؤلاء الأحداث الذين تفتحت أعينهم على ظلام النكبة فغلت نيران الثأر في نفوسهم ورضعوها مع اللبن.

دمشق

حسني كنعان