مجلة الرسالة/العدد 956/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 956/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 956
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 29 - 10 - 1951



للأستاذ عباس خضر

مسرحية (مسمار جحا):

افتتحت فرقة المسرح المصري الحديث موسمها الثاني على مسرح الأوبرا الملكية يوم الخميس 18 أكتوبر، بمسرحية (مسمار جحا) تأليف الأستاذ علي أحمد باكثير وإخراج الأستاذ زكي طليمات.

من هو جحا؟ يقول لنا الأستاذ كامل كيلاني: جحا العربي - فهناك جحا التركي وغيره - هو أبو الغصن دجين بن ثابت، عاش بمدينة الكوفة في القرن الثاني من الهجرة. ويقول: أعجب الناس بما سمعوا من طرائفه وملحه، ثم تناقلوها جيلاً بعد جيل، فأضافوا إليها كثيراً من مخترعاتهم، وأسندوا إليه كل غريب من الملح، حتى تعذر التمييز بين الأصل والتقليد، وأصبح جحا علماً على فن بعينه من فنون القول، بعد أن كان علماً على شخص بعينه من أفذاذ الناس.

ورأى الأستاذ علي أحمد باكثير أن يتخذ من هذه الشخصية الحائرة بين الحقيقة والخيال موضوعاً لمسرحية يعالج بها قضية وادي النيل ويجري الصراع فيها بين الحرية والاحتلال.

لم يأخذ المؤلف جحا من التاريخ ليحقق وجوده التاريخي، وإنما أخذه من مجموعة النوادر التي تسند إليه، وأمضى شخصيته - كما تخيلها وأرادها - في الطريق الذي رسمه للوصول إلى الهدف. فهذه المسرحية إذن ليست مسرحية تاريخية، وإنما اتخذ المؤلف أشخاصها من سالف العصور، وأجرى بينهم أحداثاً ترمز إلى واقع عصرنا وتكاد تسفر عنه في بعض المواطن.

الشيخ جحا يعمل واعظاً في مسجد الكوفة، فيعظ الناس على طريقته الخاصة. . يمزج الجد بالهزل، ويعالج المسائل بمنطقه الساخر. وهو لا يلزم حده كموظف يحرص على استقرار عيشه واستمرار رزقه، فهو يبدو ومن أول الأمر صاحب رسالة اجتماعية وسياسية تحفزه على أن يطلق لسانه في الأغنياء والحكام، فيعزله الوالي من وظيفته. ويعود جحا إلى بيته حيث يلقى هناك زوجته (أم الغصن) الفظة السليطة، فتعنفه على طول لسانه الذي أدى إلى فصله من عمله، وتسائله عما سيصنع بعد للإنفاق عليهم، ويدخل (حماد) ابن أخيه، الشاب الفلاح الذي يحب (ميمونة) بنت عمه جحا. ويشير حماد على عمه أن يشتغلا معاً بالزراعة، فيقبل. وهنا تقول أم الغصن لزوجها جحا: إن اشتغلت بالزراعة فلابد أن يهجم الجراد على الزرع فيلحق شؤمك بجميع الفلاحين! ويهجم الجراد فعلاً. وتقع كارثة عامة.

وبذلك ينتهي الفصل الأول، فإذا كان الفصل الثاني رأينا جحا وزوجه في دار أنيقة وحال حسنة، ونعلم من حديثهما أن الشيخ جحا أصبح قاضي القضاة في بغداد. ويدخل (عبد القوي) كاتب الحاكم الأجنبي، ونفهم من حديثه مع جحا أن الجراد لما انتشر وأفسد الزرع ثار الزراع بتدبير جحا وقيادة حماد، ثم استطاع جحا بحكمته ولباقته أن يقنع الحاكم الأجنبي بالعمل لإنصافهم من ظالميهم الملاك حتى لا تتحول الثورة الاجتماعية إلى ثورة سياسية وبذلك قرب مكانه من الحاكم، فصار قاضي قضاة الدولة.

ويحدث جحا نفسه، ويحدث ابن أخيه حماد، عن ضيفه بمجاراة الدخيل المتحكم في البلاد، ويبدي رغبته في العمل لإثارة الشعب ضده، فيرى أن تدبر قضية تعرض عليه، تشبه قضية البلاد العامة، فيطيل النظر فيها بحيث تشغل الرأي العام، وتنبهه. . ويتفق الاثنان على أن يتنازل جحا لحماد عن داره، فيبيعها حماد لمن يشتريها، مشترطاً عليه أن تبقى له (للبائع) ملكية مسمار في أحد الجدران. . ويتم ذلك، ويقلق حماد راحة المشتري بالتردد الكثير على الدار لمشاهدة المسمار والاطمئنان عليه! وتعرض القضية، ويطول نظرها سبعين يوماً ويحدث ذلك أثره المنشود في الشعب.

ويرتفع الستار في الفصل الثالث عن منظر المحكمة، والقضاة وعلى رأسهم جحا ينظرون هذه القضية العجيبة، وقد امتلأ حرم المحكمة بجمهور من الشعب الحانق على صاحب المسمار الذي يتحكم في مالك الدار. . ونرى الحاكم قد أخذ مجلسه في المحكمة يرقب الحال ويستحث القضاة. . ويرد عليه جحا بأن العدل يجب أن يأخذ مجراه بعيداً عن التأثر بالحكام. ويأبى صاحب المسمار أن ينزل عن حقه في مسماره. . فيشغب عليه الشعب ويهيب به مردداً:

يا رب المسمار ... انزع مسمارك

من دار الأحرار ... إذ ليست دارك فيصيح بهم حماد: يا قوم، إنكم تهتمون بالمسمار الصغير وتغفلون عن المسمار الكبير! ويشير إلى الحاكم. ويقول جحا للحاكم: إنك تستكثر سبعين يوماً على نظر هذه القضية، وهناك قضية أهم منها لا تزال معلقة منذ سبعين عاماً. . ويغضب الحاكم ويأمر بالقبض على جحا وإيداعه السجن. ويأتي بعد ذلك منظر جحا في السجن وقدوم الحاكم عليه يفاوضه عساه أن يرجع إلى (صوابه) فيطلق سراحه، وهنا يدور بينهما حوار رائع يفند فيه جحا كل حجج المستعمر على طريقته الساخرة ومنطقة الجحوي المفحم.

ويثور الشعب ثورته الجائحة، ويندحر الدخلاء. ويرتفع الستار في المنظر الأخير عن منزل جحا حيث نرى ابنته ميمونة تزين استعداداً لعقد زواجها بعبد القوي كاتب الحاكم الذي كان يعمل في الخفاء مع الحركة الشعبية. وكان جحا قد وعد حماد بأن يزوجه ميمونة على رغم زوجته أم الغصن التي كانت تعارض ذلك وترغب في زواج ابنتها من عبد القوي. وتحدث المفاجأة بأن يعقد القران ويضع جحا يده في يد عبد القوي قائلاً: زوجت ابنتي ميمونة لموكلك حماد. .

عرض الأستاذ كثير في هذه المسرحية، القضية المصرية القائمة، عرضاً فنياً موحياً، يبعث المشاعر الوطنية ويحفز الهمم ويرسم الطريق، وقد سلط السخرية الجحوية النفاذة إلى غطرسة المستعمر وتبجحه فلم يدع له حجة إلا دحضها، وتمثيل ذلك في الحوار القوي الرائع الذي دار بين جحا وبين الحاكم الدخيل في السجن. وقد ساق كل ذلك مساقاً فنياً جميلاً ممتعاً خالياً من ثقل الوعظ وشوائب التهريج. وتضمنت المسرحية إشارات إلى الناحية الاجتماعية من حيث ترف الأغنياء وحرمان الفقراء، ولكن يلوح أن المؤلف كان يشعر بالقيود في هذه الناحية فلجأ إلى التوريات والتلميحات ولم يأخذ هنا حريته كاملة كما أخذها في الناحية السياسية.

وقد صاغ المؤلف - في براعة ولباقة - نوادر جحا في الحوار واستخدمها استخداماً حسناً في التسديد إلى الأهداف، وفي إشاعة الفكاهة، واتخذ من شخصيتي (أم الغصن) و (الغصن). مداراً للدعابة والمرح، واستعان بأم الغصن ومشاكساتها لزوجها جحا على إبراز الفلسفة الجحوية وأثرها في مجرى الحوادث.

وهذه ثاني مسرحية - بعد سر الحاكم - نراها على المسرح للأستاذ على أحمد باكثير، ولا شك أن المسرح يرحب بإنتاجه ويضعه في الصف الأول من كتابه، وأسجل له هنا - مع الغبطة والإعجاب - تلبيته لنداء المجتمع وأداء واجب الفن نحوه.

وقد أخرج المسرحية الأستاذ زكي طليمات، ولست أدري ماذا أقول في هذا الرجل الدائب على خدمة المسرح العربي بكل رقته وجهده وفنه، هذا الرجل الذي يربط بين المسرح الراقي والأدب الرفيع في الوقت الذي نرى فيه عوامل كثيرة تحاول أن توهن هذا الرابط وتميل بفن التمثيل نحو الإسفاف وصناعة التسلية الخاوية.

والحديث عن إخراج المسرحية يكاد يظلمه ضيق المقام، وقد جرى الأستاذ زكي طليمات على مذهبه الإيحائي بالمناظر والإضاءة والأصوات والمجموعات (الكومبارس) فكان موفقاً كدأبه في تصوير جو الرواية، سواء المشاهد منها وما يلمح وراء الأحداث، وهذا يقابل ما يسمى في فن الكتابة (ما بين السطور).

ثم أجمل ملاحظاتي على التأليف والإخراج فيما يلي:

المسرحية تهدف إلى معالجة القضية المصرية وقد حددت فيها ملامح هذه القضية وتحديدا ظاهرا، وروح الدعابة والملح مصري، ومع ذلك قيل إن جحا يعظ الناس في الكوفة ويتولى القضاء في بغداد، ولو أغفل ذكر هاتين المدينتين ما ضر ذلك شيئا.

2 - في المنظر الأول يقول جحا للناس وهو يعظهم: سبحوا الله واستغفروه. فيقولون: لا إله إلا الله: والتسبيح هو قول سبحان الله، والاستغفار: أستغفر الله. وقد مر ذلك بالمؤلف والمخرج والممثلين جميعا، ولم يلتفت إليه أحد منهم!

3 - أرى أن دخول أم الغصن على زوجها جحا في مجلس القضاء والمشادة التي حدثت بينهما و (ردح) الزوجة لزوجها لم يكن كل ذلك لائقاً، وكان مقحماً وحشوا

وقد أجاد الممثلون والممثلات في أداء أدوارهم، وخاصة سعيد أبو بكر (جحا) ونعيمة وصفي (أم الغصن) وعبد الرحيم الزرقاني (الحاكم الأجنبي) وصلاح سرحان (حماد) وعدلي كاسب (والي الكوفة) وسميحة أيوب (ميمونة) وظهر عبد الغني قمر في دور قصير هو دور عالم ينافس جحا، فكان موفقاً في أدائه، وأحب أن أقول لعبد الغني: ليس المهم أن يأخذ الممثل دوراً كبيراً في الرواية، بل أن يكون في دوره الملائم له. ومثل (الغصن) شاب جديد هو عبد المنعم إبراهيم فكان مثار المرح والفكاهة في الرواية كلها، وقد دل هذا الشاب على استعداد يبشر بمستقبل، وخاصة في الأدوار الهزلية.

وأهمس في أذن أبطال الفرقة: أخلفتم ما عهدناه فيكم من مراعاة الإعراب في هذه المرة، وأنتم تؤدون اللغة العربية أداء جميلا من حيث التمثيل والإلقاء، ولكن حذار من غضب سبويه! وأخص بالذكر سعيد أبو بكر ونعيمة وصفي، فحرام أن يشوبا كفايتهما الفنية العظيمة بهذا الخطأ. .

ماذا تغني أم كلثوم؟

أصدر رفعة رئيس الوزراء قراراً بإلغاء الحفلة الغنائية التي كان مقرراً أن تحيها الآنسة أم كلثوم بالنادي الأهلي مساء يوم الخميس الماضي، وذلك رعاية لشعور شهداء منطقة القنال. وقد صدر القرار على أثر برقيات أرسلت من مختلف بلاد القطر للمطالبة بإلغاء هذه الحفلة.

ولا شك أننا جميعاً نشعر بالأسى لفقد أولئك الضحايا، وليس للهو والمباهج مكان مع هذا الشعور. وقد صدر قرار رفعة رئيس الحكومة وصدرت تلك البرقيات، معبرة عما يخالج نفوس الجميع.

ولكن لي وقفة في هذا الموضوع إزاء فن الموسيقى والغناء وهل هو لهو كله لا يناسب إلا حال البهجة والمرح؟

ننظر أولاً في واقع الأمر. ماذا كانت ستغني أم كلثوم في هذه الحفلة؟ نشرت أبيات من شعر شوقي قيل إنها أغنية جديدة أعدتها أم كلثوم للغناء في حفلة الموسم الجديد، وهي من نوع التهويمات التي جرت مطربتنا الكبيرة على جمعها من شعر شوقي والخيام معرضة عن واقع الحياة الذي يجري حولنا. فكان المتوقع أن تغني هذه الأبيات، إلى أغنيات أخرى عن العشاق والذي (بصالح في روحه!)

وعلى ذلك لم ير الناس ولم تر الحكومة من اللائق أن تغني أم كلثوم على ذلك النحو المألوف في هذا الظرف. ولا يسوغ هذا الغناء ما قيل عن تبرعها بإيراد الحفلة لصالح أسر الشهداء، لأن الأساس العمل المناسب لا ما يجنى منه.

أقول ليس من اللائق أن يغني ذلك الغناء في هذا الظرف، ولكني لا أذهب مع القائلين بأنه لا يناسب الغناء. فالغناء والموسيقى يعبران عن كل حال ويناسبان كل ظرف، ولكن المدار على الطريقة والمادة التي تغنى. ومن البداهة أن هذا الفن - إذا أحسن استخدامه وتوجيهه - يقوي الأرواح ويغذي المشاعر الوطنية، فمن الإطالة المملة أن أفيض في هذا الأمر المفروغ منه، وحسبي أن أشير إلى ما كان يصنعه العرب من اصطحاب نسائهم في الحروب ينشدن للأبطال ويقوين عزائمهم، وأن أذكر أثر (شوبان) في بعث أمته بألحانه وبما كان يكسبه بعزفها من المال ويرسله إلى أحرار وطنه كي يستعينوا به في العمل على تحرير بلادهم.

ومالي أذهب بعيداً وأم كلثوم نفسها تعلم أن (دنانير) كانت تغني على أطلال البرامكة. .

فلو أن أم كلثوم اختارت قطعة لشاعر من وحي الحالة الحاضرة وأعدتها للغناء في هذه الحفلة وتبرعت بإيرادها كما قيل، لكان ذلك عملاً مشكوراً منها، ومشاركة من الفن في الجهاد الوطني. . وما أظن أن أحد كان يعترض عليها أو يحتج على الغناء.

عباس خضر