مجلة الرسالة/العدد 956/القصص

مجلة الرسالة/العدد 956/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 10 - 1951



اعتراف

للكاتب التشكسلوفاكي كارك كابك

للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب

تحدث الأب فوق قس سانت ماثيو قائلاً - (أما علاج النفس فأنتم تعرفون أنه علاج من أقدم ما مارسه البشر. بيد أن الكنيسة تطلق على هذا الضرب من العلاج اسم (اعتراف التطهر المقدس). فعندما تضطهد النفس، وحينما ينتابها ما يشينها فاذهب أيها الآثم إلى كرسي الاعتراف المقدس، وأطرح عن نفسك كل الأوشاب العالقة بها. إن ما يدعونه الاضطراب العصبي ليس إلا ما نسميه نحن وخز الضمير والندم على ارتكاب المعصية.

(منذ سنين مضت، في يوم من أيام الصيف، كنت متخذاً ركناً من أركان كنيستي، قابعاً فيه من عناء الحر، وقد هبت علي نسمات باردة تلطف من حدة ذلك الوهج الشديد، عندما أقبل خادم الكنيسة وأخبرني بأن هناك من يود الاعتراف.

(بطبيعة الحال، قمت فارتديت حلة الكهنوت البيضاء. ثم جلست داخل مقصورة الاعتراف. وأحضر الخادم طالب الاعتراف، فوقف أمامي خارج المقصورة التي تحجبني عنه. وأطللت عليه من نافذة المقصورة. كان رجلاً في خريف العمر يرتدي ملابس محترمة. وكان يبدو من هيئته أنه إما تاجر متجول أو وكيل شركة لبيع الأراضي. وكان شاحب الوجه، مفرط البدانة. وركع الرجل أمام المقصورة دون أن يفوه بكلمة.

وقلت أشجعه: هلم وردد معي: أنا الآثم التمس، اعترف إلى الله العظيم -

(فقاطعني الرجل قائلاً في صوت جهوري - كلا. فعندي كلام آخر أو د أن أفضي به. دعني أتحدث على طريقتي).

وفجأة، أخذ ذقنه يرتعش، وتصبب العرق من جبهته. وأخذت أنا الآخر، دون سبب ما، أشعر بإحساس غريب مخيف مقزز، لم يسبق من قبل أن انتابني مثله، إلا في ذات مرة عندما كنت حاضراً تشريح جثة، جثة كانت في حالة تامة من التعفن والانحلال. ولن أقص عليكم أيها السادة ما كانت عليه تلك الجثة.

(وصمت في دهشة وانزعاج - ماذا بك بحق السماء؟

(فتلعثم الرجل قائلاً - لحظة واحدة. لحظة واحدة.

(ثم ندت شفتاه عن آهة عميقة، وتمخط بصوت جهوري وأخيراً قال - إني على ما يرام الآن. حسن. منذ اثنتي عشر عاماً.

(ولن أحدثكم بما أخبرني به، فإنه من أسرار الاعتراف، فضلاً عن أنه كان حديثاً عن أفعال وحشية مخيفة تشمئز منها النفوس. مهما يكن من الأمر فإني لا أستطيع إعادة ما قاله الرجل من تفاصيل مفزعة ليس لها مثيل حتى في عالم الخيال. ودار في خلدي أن أهرب من المقصورة، أو أصم أدني عن سماع أقواله، أو أفعل شيئاً من هذا القبيل. وحشوت فمي بجزء من حلتي الكهنوتية حتى أمنع صيحة من الرعب تكاد تخرج مني. وأخيراً قال الرجل وقد تمخط في رضا وارتياح - حسن. الآن وقد انجاب عن صدري ذلك الأمر أقدم لنيافتك عظيم شكري.

(فقلت في دهشة - انتظر قليلاً. إنك لم تكفر بعد.

(فقال في غير كلفة وهو يحدجني بنظرة من خلال النافذة الصغيرة القائمة بيني وبينه - ومن تحسبني أيها الأب؟ إني لا أومن بمثل ذلك. ما جئت هنا إلا لأريح شعوري. أنت تعرف أنه عندما تنقضي علي مدة دون أن أتحدث عما اقترفته، عندئذ يتراءى لي فلا أستطيع النوم، وأعجز عن إغماض عيني. وعندما أصل إلى هذه الحالة أراني مضطراً إلى الإفضاء بكل ما في قلبي. ولهذا السبب أتيت إلى هنا، لأن هذا من صميم عملك، ولأني أعلم أنك لا بد أن تحتفظ به في سريرتك. إنه سر الاعتراف. أما الغفران فإني لا أهتم به ولا قلامة ظفر. فهو لا يجدي إذا كنت عديم الإيمان. حسن. أرجو أن تتقبل شكري الجزيل واحترامي الزائد.

(وقبل أن أدرك ما الذي حدث كان الرجل قد خرج من الكنيسة يتهادى في رضاء.

(وبعد أن انصرم ما يقرب من عام عاد الرجل إلي مرة أخرى التقى به أمام الكنيسة وقد بدا شاحب الوجه، ذليلاً في مسكنه، وتلعثم وهو يقول - هل أستطيع أن أعترف لك يا صاحب النيافة؟

(قلت - اسمع. إنك لا تستطيع الاعتراف بلا غفران. إن هناك حداً لهذا. فإذا أنت لم ترغب في التكفير فإني لا أستطيع مطلقاً أن أفعل لك شيئا.

(فتنهد الرجل وقال وقد انحنى رأسه في ذله - يا إله السماوات. إن هذا نفس ما يقوله لي كل قس. ولا يوجد من أستطيع أن أعترف له، ولابد لي من الاعتراف. خبرني يا صاحب النيافة ماذا يهمك لو قلت لك مرة أخرى. . .

(وعندئذ أخذ يرتعد كما ارتعد من قبل. فصحت في دهشة وغضب.

- لماذا لا تفضي بما يجيش في صدرك إلى أي إنسان آخر؟

(فأجاب وقد قطب حاجبيه في اكتئاب - ويكون من جراء ذلك أن يشي بي.

(ثم صاح في غضب - فلتذهب إلى الجحيم.

(وغادرني وقد أفصح مظهره عن مقدار يأسه.

(ومنذ ذلك الوقت لم أره مطلقاً.

  • * *

وقال الدكتور بادم المحامي: إن قصتك لم تنته بعد. ففي ذات يوم - وكان ذلك منذ بضع سنوات - حضر إلى مكتبي رجل شاحب الوجه، ناكس الرأس. وفي الواقع، لم أعر مظهره اهتماماً يذكر. وعندما طلبت منه الجلوس وسألته عن شأنه، أخذ يحدثني قائلاً - استمع إلي. إذا طلب منك أحد المترددين عليك استشارة سرية وأخبرك أنه قد ارتكب وزراً مثل. . .

فقاطعته قائلاً - إن طبيعة عملي تمنعني من استخدام سره في غير مصلحته.

فقال الرجل وقد ارتاح لحديثي: إذن فكل شيء على ما يرام. . هناك ما أود أن أفضي به إليك. منذ أربعة عشر عاماً. .

ولقد حدثني يا صاحب النيافة بمثل ما حدثك به، أخذ يفضي بمكنونات صدره وكأنه يكاد يختنق بها. وكان عرقه فياضاً، ووجهه قاتماً. وكانت عيناه مغمضتين. وبدا لي كما لو أنه قد غثيت نفسه، فصار يقذف من فمه بكل ما احتواه عقله من أسرار تقلق راحته. وأخيراً سمعته يتنهد ثم مسح شفتيه بمنديله.

وصحت قائلاً: يا إلهي! ليس في الوسع عمل أي شيء لك. . ولكن إذا أردت نصيحتي، نصيحة رجل يسديها إلى رجل مثله. .

فقاطعني ذلك المخلوق العجيب قائلاً في صوت أجش: كلا. أنا لا أود أية نصيحة. إني ما جئت إلا لأخبرك بما أفضيت به إليك. ثم أضاف قائلاً في لهجة خشنة - ولكن تذكر أنك لا تستطيع أن تنتفع بما حدثتك به في غير صالحي.

ثم هب واقفاً وقال في صوت هادئ النبرات - حسن - ما مقدار ما أنا مدين لك به؟

فتمتمت قائلاً: خمسون كراونا.

فأخرج الرجل خمسين ورقة نقدية، ثم حياني وخرج. وكنت أود أن أعرف عدد المحامين الذين تردد عليهم ذلك الرجل لاستشارتهم. . على أية حال لم يعد لزيارتي بعد ذلك.

وتحدث الطبيب فيتاسك قال (ومع ذلك فليس ما قلته خاتمة هذه القصة. فمنذ سنوات مضت كنت أعمل كجراح في مستشفى، عندما فحصت مريضاً شاحب الوجه بدين الجسم متورم الساقين في شكل مفرط. وكانت تنتابه التشنجات، وتضطرب أنفاسه. وفي الحق، كان في حالة فريدة من مرض برايت (مرض البول الزلالي) وكان بطبيعة الحال بعيداً عن كل أمل في الشفاء. . وعندما أقبل الليل أنبأتني الممرضة أن المريض قد داهمته نوبة تشنجية. وعندما ذهبت إليه وفحصته وجدته يجاهد في سبيل التنفس وقد تصبب منه العرق مدراراً، وجحظت عيناه رعباً. وكانت كل هذه الدلائل المخيفة تشير إلى نزع الموت.

(وقلت له - حسن. أيها الرفيق. سأحقنك وستكون بعد ذلك على ما يرام.

(فهز المريض رأسه ولهث قليلاً - دكتور أنا. . عندي ما يجب أن أفضي به إليك. . ابعد هذه المرأة.

(وكنت أود أن أحقنه بالمخدر، ولكني عندما شاهدت ما لاح في عينيه بعثت بالممرضة بعيداً، ثم قلت له - والآن أفض إلي يا بني بما تود أن تحدثني به، على ان تنام بعد ذلك.

(فتأوه الرجل وقد لاح في عينيه ثمة رعب جنوني ثم قال - يا دكتور، يا دكتور، إني لا أستطيع. . فلا زلت أشاهد ما اقترفت. . لا أستطيع النوم - يجب أن أخبرك -

(ثم أفضى إلي بكل شيء وسط تشنجاته وحشرجته ولهثاته. ودعوني أقل لكم أني لم أسمع من قبل بمثل ما حدثني به.

وهنا سعل المحامي. فقال الطبيب فيتاسك (لا تخف. فلن أقص عليكم ما حدثني به. إنه سر الطبيب. لقد رقد بعد حديثه متهالكاً، مجهداً تماماً. ولم أستطع أن أمنحه فرصة للتفكير أو أن أزجي إليه أية نصيحة. بيد أني أعطيته بضعة مقادير من المورفين، وجعلت أعطيه غيرها كلما استيقظ من غيبوبته حتى نام أخيراً نومته الأبدية. لقد منحته كأس المساعدة ممزوجة بالانتقام.)

فقال الأب فوفر مفكراً: (جميل منك ما فعلت. فقد خلصته على الأقل من بؤسه وشقائه.)

محمد فتحي عبد الوهاب