مجلة الرسالة/العدد 957/أصحاب المعالي

مجلة الرسالة/العدد 957/أصحاب المعالي

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 11 - 1951



(إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها

(حديث شريف)

للأستاذ محمد محمود زيتون

هذا وقد نسب الشيعة إلى الإمام على أنه (كان يعرف السماء زقاقا زقاقا) فهل أريد بذلك الغلو في علم الأيام أم هل أريد به أن السماء لم تعد مجاهل فامتدت إليها يد الإصلاح بالتنظيم والتعمير حتى صارت بها الشوارع والأزقة والدروب؟.

ولا ينبغي أن نغفل شأن أهل السماء وروادها من أصحاب الفلك، الذين جعلوا علما ثابت القواعد مأمون المناهج معروف الغايات. . .

والتنجيم في جوهرة استجابة صادقة للنزاعات الطامحة في الأجيال إلى كشف مجاهل السماوات العلا، وإهمال هذا الجانب ليس إلا نقصاً في المعرفة الإنسانية الكاملة، لهذا كانت الدعوة الإسلامية حريصة على الحث عليها لما لها في تحرير العقل، وتعريفه بقدرة الله العلي الأعلى

والكواكب سيارة وثابتة. أما الأولى فهي السبع المشهورة: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، وهي مرتبة تنازلياً من السماء العليا إلى الدنيا، لهذا كان القمر أقرب السيارات منا، وزحل أبعدها، أما الثانية فكلها في السماء الدنيا

ويتناول علم النجوم أفلاك الكواكب ومنازلها بالبروج وأدوات الرصد وغير ذلك، مما يجعل الباحث فيه من أصحاب المعالي

وإذا تتبعنا نشأة التفكير الحر في الأوساط الإنسانية نرى أن الفلسفة اليونانية هي التي تمثل تطور الفكر من مهده إلى رشده، فقد بدأ الطبيعيون الأولون ينظرون إلى الوجود في حرية واستقلال بعد أن خلعوا عن كاهلهم نير الأساطير والتعاويذ، واتجهوا بأنظارهم إلى أصل الأشياء

وانتقل الفيثاغوريون بعدهم إلى الأعداد والأنغام غير ناظرين إلى المحسوسات وتخطاهم (بارمنيدس) إلى الوجود من حيث هو الوجود، واهتدى إلى (الله) واستنتج صفاته على نمو من التنزيه والتجريد لم نرلها مثيلاً من قبل

ولما شاعت الفوضى على يد السفسطائيين قام (سقواط) بحملة موفقة على موجة الادعاء والغرور، وطلب الحقيقة فوجدها كامنة في الكليات لا في الجزئيات، فاصطنع الاستقراء للوصول إلى غاية، وأخذ في توليد المعاني من النفوس كما كانت أمه تفعل في توليد الأجنة من البطون، وبالحوار السقراطي بلغ الفكر إلى حيث ينبغي أن يكون وجاء تلميذه (أفلاطون) فكان أحرص على تراث الفيلسوف الأثيني، فابتدع منهجاً فريداً هو الجدل وجعله صاعداً ونازلاً أي أنه ارتفع بالنظر من المحسوسات في عالم التغير إلى المقولات في عالم الثبات، وانتقل بالفكر الخالص من الأرض إلى السماء أي من الأشباح إلى الحقائق، من الموجودات إلى (المثل) حيث كانت النفس قديماً في صحبتها، وإذا بأفلاطون بعد هذا التحليق ينزل بجدله هذا إلى أمور الدنيا لتفسيرها وتعليلها، ومعه قبس من السماء كأنه كبير الآلهة (زوس) الذي هبط إلى الأرض وفي عقب عصاء جذوة العلم

ولم يقف أفلاطون عند فكرة طارئة، بل أوصل فكرته إلى غاياتها البعيدة بأن رسم الحدود العليا لكل من الفرد والمدينة في دقة وعلى نحو رفيع، ولا ننس مع ذلك أسطورة الكهف الأفلاطوني التي ترمز بالكهف إلى الانحطاط في المستوى الإنساني من حيث الرضى بالأشباح الزائفة التي لا تغنى عن الحقائق شيئاً

ولقد خلع أفلاطون على تلميذه النابغة (أر سطو) أرفع وسام إذ سماه باسم (العقل) أو (عقل المدرسة) وذلك لما كان يمتاز به من سمو في التفكير وتوخ لصوت العقل

أنزل أر سطو الفلسفة من السماء إلى الأرض ليبدأ من الأرض وينتهى إلى السماء فهو من أميز أصحاب المعالي في انتقاله من العدم إلى الكمال، وبينهما درجات تصاعدية على أساس من (العقل)، فالهيولى أو المادة الأولى عدم أو شبه عدم، ويليها تصاعدياً الجماد فالنبات فالحيوان فالإنسان ثم تعلوه الكواكب ومن فوقها جميعاً (الله) باعتباره (عقل العقل) والذي هو الكمال المطلق والمحرك الأول الذي يحرك ولا يتحرك. وتحريكه للعالم إنما يكون عن طريق الجذب، والموجودات كلها تتحرك نحوه بالعشق لأنه كمالها، والناقص يطمح دائماً إلى الكامل

وعنى أر سطو كذلك بالنفس وميز الأخلاق الرفيعة من الوضيعة، بأن جعل الفضيلة وسطاً عادلاً بين طرفين متنافرين هما التفريط والإفراط، ويسمى المعلم الأول: التهور شجاعة البهائم، وهو الذي ينسب إلى الله الحكمة الإلهية (بينما على المرء أن يتحلى بالحكمة الإنسانية). وعلى العموم فأن آفاق أر سطو كلها بعيدة الأقطار عالية الأبعاد رفيعة الأهداف، مما جعله ينفرد بالقمة دون السابقين واللاحقين من فلاسفة الشرق والغرب على السواء

وجاء من بعده عشاق اللذة وطلاب المنفعة، وتذرعوابمبدأ (ولك الساعة التي أنت فيها)، وما كان ذلك ليمنع من ظهور أصحاب الأخلاق العالية في شتى العصور، وقد أجمعوا على طلب (المثل الأعلى) والتسامي بالنفس عن سفاسف الأمور، وكان الإسلام كالمنارة بين الخير والشر في ظلمات الحياة، وذلك بقول العلي المتعال (ولله المثل الأعلى)

وقدم الأحيائيون لعلماء النفس ثمرات طيبة أفادت كثيراً في المجال السيكولوجي بل في الأخلاق. وأكثر من هذا كله في النظرة الكونية العامة، فإن أصحاب النشوء والارتقاء إنما يدعون إلى التفاؤل، ويحثون على التقدم

وبناء على نشوء الكائنات الحية وارتقائها في سلم الحياة نراها تهدف إلى تكامل الجهاز العصبي، وذلك لا يتم إلا إذا انتهى هذا الجهاز إلى المراكز العليا للمخ، ومقتض هذا التطور تترتب الكائنات من الدنيا إلى العليا

تأثر السيكولوجيون بهذه الروح التقدمية العامة ففرقوا بين الإدراك والوجدان والنزوع، كما وقفوا على خصائص الغريزة، وقالوا بأنها لا يمكن القضاء عليها، بل الباب مفتوح على مصراعيه للتقدم الإنساني تبعاً لإمكان إعلائها، وتعلية السلوك

ونرى هذه الروح العالية تسود بقية العلوم بما لها من مبادئ عليا، ففي المنطق يعتبر المحسوس سافلاً والمجرد عاليا، وفي المقولات ما هو عال ومنها ما هو سافل وفي علم الفيزيقا تمييز واضح للأشعة فوق البنفسجية. وهناك (ما بعد الطبيعية) وهي الفلسفة العليا، وفي الجغرافيا دراسة للطبقات العليا من الجو

وفي علوم الرياضة اصطلاحات خاصة مثل: الترتيب التصاعدي والتنازلي، والبسط والمقام، وأكبر وأصغر. وكان اليونان قديماً يعتبرون العدد عشرة أكمل الأعداد. على أن البساطة هي غاية الرياضة، لهذا فهي ارتفاع من الأعداد والأشكال إلى الرموز؛ أي من الحساب والهندسة إلى الجبر، ومن ثم إلى الهندسة التحليلية

والفن لن يكون خالداً إلا إذا تلمس معالي الأمور، وعندئذ يسمى (الفن الرفيع)، أليس من ذلك هذا لا لتمثال اليوناني الذي يصور نسراً قص جناحاه كرمز على المجد الذي لا يريدونه أن يغادر بلادهم، ولا شك أن تمثال نهضة مصر إنما يمثل قطعة من طموح مختار حتى لقد أقام أبا الهول على يديه، ونهض بمصر عالياً، إذ جعلها تشرف ببصرها ورأسها، وصدرها إلى العلا

وفي الحرب يعتبر المكان العالي مفتاح الغزو، ولذلك يرفع العلم في ذاره كرمز على النصر المبين. وبخفض كرمز على الذل المهين

وتنطبع هذه النزعة في شتى مواقف الحياة فيقال: المصادر العليا، والقيادة العليا، والرئاسة العليا، والمجلس الأعلى والرئيس الأعلى والقائد الأعلى والمركز العام. وكذلك في الألقاب: صاحب الجلالة، والسمو والمجد والفخامة والمقام الرفيع، وصاحب المعالي وصاحب العزة، وكذلك الباب العالي والجناب العالي والصدر الأعظم. وفي مصر نقول في الوظيفة: ترقية، رتبة، علاوة، وفي العراق يقولون ترفيعة

وإذاً صدق أر سطو في حث الإنسانية على التماس الشرف في التفكير إذ يقول (شرف العقل من شرف موضعه) فهذه دعوة رسول الإنسانية عليه السلام (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) وبهذا كان في الطليعة من (أصحاب المعالي)

ممنوع النقل والنشر والترجمة إلا بأذن من مجلة (الرسالة)

محمد محمود زيتون