مجلة الرسالة/العدد 958/على ضفاف القناة:
مجلة الرسالة/العدد 958/على ضفاف القناة:
4 - على ضفاف القناة:
زفة أللنبي
قد يلفت هذا العنوان نظر القارئ الكريم، ويوقعه في شيء من الحيرة والارتباك، والعجب والدهشة، فمن هو (أللنبي) هذا؟! وما قيمة (زفته) هذي حتى يفرد لها حديث خاص في الرسالة الغراء؟! ولكن سرعان ما يزول هذا الشعور المزيج من الحيرة والعجب والدهشة والارتباك عندما يعمل أن (أللمبي) هو المعتمد البريطاني الذي انزل البلاء بالمصرين عامة أيام الحرب العالمية الأولى. وإن (زفته) هي عادة أصيلة في بور سعيد والإسماعيلية، يدين بها أهل هاتين المدينتين، ويحرصون عليها كل عام حرصا شديدا
والزائر لإحدى هاتين المدينتين ابتداء من منتصف شهر فبراير، يرى نشاطاً عجيباً، ويلفت نظره تماثيل لم يكتمل خلقها بعد، معلقة على أبواب المنازل، أو فوق سطوح البيوت غير المرتفعة، في الأحياء الوطنية بخاصة، وفي الأحياء الأفرنجية كذلك حيث تسكن بعض الأسر المصرية. . تماثيل تكتمل خلقاً يوماً بعد يوم في نظام رتيب وعمل متصل بلا انقطاع. فوق كل بيت تمثال (خواجة) يبدأ جسمة أولاً غفلاً من التصوير، أي بدون رجلين ولا يدين ولا رأس، ولا تكاد تمضي أيام على تعليقه على الأبواب أو فوق سطوح الدور، حتى تصنع له الرأس، ثم تبدو اليدان، ثم الرجلان، ثم توضع القبعة فوق الرأس، ثم توضع في فمه الكبير (بببة) يمسكها بيده كأنما يدخن في نهم وشره، وصفاقة وبرود. . وكلما مر يوم ازداد هذا الخواجة أناقة ووضحت تقاطيع وجهه، وظهر فيه البرود السكسوني المقيت بأجلى صوره، وأوضح معانيه، وبعد مدة يصل الفن المصري (البلدي) إلى رجليه، فيلبسهما حذاء لامعاً، وقد سك في يده مذبة (منشة) وقد يكون واقفا مستندا إلى خشبة خلفه أو بجانبه لئلا يسقط هنا أو هناك، وقد يكون جالسا على كرسي يصنع خصيصاً لهذا الغرض، بحيث يضع رجلاً على رجل، فينبعج كرشه، ويصبح مثال الصلف الوقح، والبرود الحقير. .
وتكون هذه التماثيل في الغالب في حجم الإنسان الطبيعي الذي يميل إلى النحافة قليلاً، حتى إذا جاء يوم شم النسيم تكون هذه التماثيل قد اكتملت خلقاً وزينة، وظهرت معالمها، وبرزت خصائصها، لأن هناك مجالا واسعاً للتفاخر والتباهي بين الأهلين، فمن كان تمثاله أكبر وأضخم، وأدق وأفخم، وأظهر وأعظم، كان بالوطنية أجدر، وبطعن الأجنبي الغاصب أحق وأولى، واستحق بذلك تقدير زملائه وجيرانه، وتهنئة أهله وأحبابه وخلانه، ونال الشرف الذي ليس من السهل أن يناله إنسان، أو يحصل عليه مخلوق كائناً ما كان.!
أما من أي شيء تصنع تماثيل هؤلاء (الخواجات) فهذا موضع العجب والدهشة، أو بمعنى أدق هو الوطنية الحقة، الكامنة في نفوس هذا الشعب المصري العجيب الذي لا تزيده الحوادث مهما اشتدت، والخطوب مهما ادلهمت، إلا شدة وقوة، وصرامة ووطنية. . إن هذه التماثيل تصنع من القماش الرخيص أو الملابس القديمة. وتحشى بأقذار ما في البيوت من ثياب رثة. وملابس مهلهلة، وجمعي ما يستغني عنه الكبير والصغير من أحذية وغيرها، لتحمل معنى الإهانة الصارخة، والسخرية اللاذعة، والاحتقار الشائن، والثورة الحانقة. .
ولا يكاد ينبلج الضوء صبيحة يوم شم النسيم من كل عام، حتى تحمل هذه التماثيل على عربات صغيرة من عربات اليد، وتدفع إلى الأمام في إهانة بالغة، واحتقار كبير. . وبعض الأهليين يفتنون في ذلك، فيحملونها على (نعش) ويسيرون بها في هيئة جناز، إلا أنه غير صامت، بل صاخب ثائر، حيث يردد الكبير والصغير هذه العبارات التقليدية اللاذعة: (يا أللنبي يا بن حلنبوحة. .؟. . أمك، ملآنه ملوحة) ويصاحب ذلك الترديد تصفيق منتظم حاد، يشيع في الجو لوناً رهيباً من ألوان الثأر المكبوت، والعاطفة المكفوفة التي يفرج عنها هذا الهرج والصخب والتشفي، ولا تزال هذه الزفة الصاخبة الحادة، تخرج من كل بيت، وتتلاقى هنا وهناك، طائفة بالشوارع الكبيرة والصغيرة، حتى تصل إلى كل رجا من أرجاء المدينة، فإذا انتهى الأهلون من هذه الزفة، ألقوا بما يحملون من تماثيل، في إهانة صارخة، وثورة جامحة، وأشعلوا فيها النيران التي تندلع ألسنتها في وحشية وجبروت طاغ، يذهب بتماثيل الشر الماحق، ويمحو آثار الطغيان والضلال المبين إلى أعماق الجحيم. .!!
ومرجع هذه الزفة كما أعتقد إلى فكرة وطنية متمكنه، وعقيدة عدائية خالصة، نحو الإنجليز العدو الأول لمصر والمصريين. . ذلك أن اللورد أللمبي كان مندوباً سامياً في مصر أيام الحرب العالمية الأولى، وكان هذا الداهية سوط عذاب على المصريين جميعا، وبخاصة على العمال المصريين، وكان عنوان الصلف الإنجليزي، والطغيان المروع، وتجلي ذلك العداء الصارخ في وضوح وجلاء، حينما ساق العمال المصريين سوق الأنعام إلى بلاد الشام، حيث عاملهم كما تعامل السائمة، لقتال الترك والألمان.
والمصريون في ذلك الحين يحنون حنيناً كبيراً عجيباً إلى الأتراك، ومرجع ذلك الحنين البالغ إلى الصلة الدينية التي تجمع بينهما. . صلة الإسلام التي جمعت بينهما وأدت إلى المصاهرة، حتى لا يكاد يخلو حي من أحياء القاهرة، ولا مدينة من مدن القطر من أسر تركية، أو أسر مصرية تنحدر من أصل تركي، حيث كانت مصاهرة الأتراك في ذلك الوقت من دلائل العظمة، وعنوان التقدم والرقي، وعراقة الأصل، وطيب المحتد. وقد كان الترك كذلك إلى عهد قريب زعماء المسلمين، وقبلة الأنظار في يوم ما، فيهم الخلافة ظل الله في الأرض، وإليهم تتجه القلوب في أرجاء العالم الإسلامي بأسره، ونواحي الوجود بعامة. .
ثم هم - أعني المصريين - يحترمون الألمان، ويحبونهم بالغ الحب، ويرون فيهم مظهراً من مظاهر الرجولة الكاملة، والاستقامة الرائعة، والجد الصارم، والعزم الحازم، كما يرون فيهم صورة حية من صور العبقرية الملهمة، وأنهم أئمة العلم والاختراع في القرن العشرين بلا مراء، ويعتقدون أنهم في حربهم مع الإنجليز وحلفائهم، إنما يحاولون القضاء على الخطر الاستعماري الأكبر، رمز الظلم والعدوان، والغدر والغش، والبرود السكسوني اللعين، وكيف كانوا يستولون على بضاعة الألمان، ثم يضعون عليها علامات تجارية إنجليزية، ويبيعونها على أنها إنتاج إنجليزي بأغلى الأثمان وأفدح الأسعار، ولا يبالون بما يفتضح من أمرهم في السوق المصري بخاصة. .!
ولهذا كان من العسير على نفوس العمال من المصريين أن يساقوا سوق السائمة لحرب من يحبون، وقتال من إليهم يميلون، وإذا كانت الدعاية المارقة قد استغلت مظاهر الحزن والنقمة، حين يجند أبناء المصريين، وجعلت من هذا الحزن والصوت المتعالي دليلاً على عدم الوطنية المصرية، والفرار من ميادين القتال، وأن أمة هذا شأنها لا تستحق الحياة بين غيرها من الأمم عزيزة مرهوبة الجانب، بل تستحق حماية غيرها من الدول القادرة الناهضة، حتى تنهض على ساقين، وتفهم حقيقة الأمور كما يجب أن تفهم. . أقول إذا كانت الدعاية الإنجليزية المغرضة قد استغلت ذلك، فإنما هو استغلال سيئ لأغراض سافلة، والمصريون معذورون في نقمتهم على ذلك التجنيد الذي لم يكن في سبيل مصر والمصريين، وإنما كان لخير الإمبراطورية العجوز الشوهاء، التي تربط مصر والمصريين بعجلتها، وتدفع بالعمال والجنود المصريين إلى أتون الحرب المستعمرة، حيث تلتهمهم خطوط النار الأولى، وتقضي عليهم القضاء الأخير. .
وإن هؤلاء الإنجليز لا يجهلون وطنية المصريين، ولكنهم يتجاهلونها ويشيعون عنهم في المحافل الدولية غير الحق والواقع، ولو أنصف هؤلاء الطغاة لأنصفوا هذا الشعب الذي يقدر العاملين. .!!
هذا هو اللورد أللنبي الذي جند من المصريين جيشا يحارب على غير رغبته الأتراك والألمان، وكانت أكثر المناطق المصرية تضحية بأبنائها وبنيها هي مدن القناة دون ريب، ولطالما فجع أهلوها بفقد من ذهب إلى الميدان. . ومن الغريب أن الظروف ساعدت هذه الدولة العجوز، حيث قامت الثورات في ألمانيا فاضطر الألمان إلى الانسحاب، خشية تفاقم الخطر. . وقد انتهز أللنبي هذه الفرصة. فخرج على رأس جيش لقتال الألمان والأتراك في الشام، وادعى أنه هزمهم وطردهم وتعقبهم، بينما الظروف وحدها هي التي دفعتهم إلى العودة والرحيل. .!!
وإذا كان أللنبي قد فجع كل بيت مصري في عائلة أو أحد أفراده، فإنه هو الذي سيطر على الحياة السياسية المصرية حيناً من الزمن، ولا يجهل أي مصري أن أللنبي هو الذي منع الملك فؤاد عليه رحمة الله أن يلقب بملك مصر والسودان، ضناً باتحاد أبناء الوادي أن يتخذ له كيانا تترتب عليه نتائج لا يرضى عنها الإنجليز وحرصا على تفريق الكلمة، وتوزيع الجهود. .
وأما بعد: فقد آن الأوان لأن يحطم المصريون هؤلاء الإنجليز، ويقضوا عليهم القضاء الأخير، ويتخلصوا نهائياً من هذه التماثيل. . تماثيل الشر والفساد، ليتخلص الوطن من أعدى أعدائه، ويتنفس الجميع في جو من الحرية والاستقلال. .
عبد الحفيظ أبو السعود
المدرس بالمدارس الثانوية الأميرية