مجلة الرسالة/العدد 959/الثورة المصرية

مجلة الرسالة/العدد 959/الثورة المصرية

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 11 - 1951


4 - الثورة المصرية 1919

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

معركة التحرير:

أذاعت وزارة الداخلية في 30 أكتوبر 1951 بياناً باعتداءات الإنجليز في الفترة من 16 أكتوبر إلى 30 منه ويؤخذ منه أن البريطانيين قتلوا أربعة جنود مصريين كما قتلوا 13 رجلاً من المدنيين وامرأة وطفلاً. وبلغ عدد الجرحى من العسكريين والمدنيين 125، وبلغ عدد حوادث النهب والسلب 125 وعدد الجني علهم في هذه الحوادث 2 شخصاً كما بلغ عدد حوادث تعطيل المواصلات 48 حادثة، وحوادث الإتلاف ثمانية، وعدد من ضربوا أو قبض عليهم 38 شخصاً

هذا هو الإحصاء الرسمي الذي أذيع، ولكن هناك إحصاء آخر يعرفه الناس جميعاً: إن منطقة القتال بأسرها تعيش الآن وسط أتون من الضغط والإرهاب البريطاني، وليس هناك مصري واحد في هذه المنطقة آمن على نفسه أو على حريته. إنهم يعيشون تحت أسنة الحراب الإنجليزية، وبلادهم مسرح للعدوان البريطاني

وإني أحب أن أسجل بكل فخار ما قام به العمال الذين كانوا يعملون في المعسكرات البريطانية من عمل وطني رائع، وذلك بامتناعهم عن العمل في تلك المعسكرات، الأمر الذي أقلق الإنجليز وأضجع مضاجعهم؛ كما أخفض قلمي تحية لوطنية عمال شركة قنال السويس وذلك بامتناعهم عن تفريغ أو شحن السفن، مما يهدد بوقف الملاحة في القناة

كذلك يطيب لي أن احيي أولئك الوطنيين من التجار الذين امتنعوا عن توريد الأطعمة والفواكه إلى أعداء الوطن هذا في مصر؛ أما في السودان فقد عقد اجتماع وطني كبير شهد زعماء السودان المخلصون لوطنهم وفيه أعلنوا أن الجمعية التشريعية السودانية لا تعبر عن رأي السودانيين، كما أعلنوا عن عزم السودانيين على الكفاح لإخراج الإنجليز من وادي النيل وإقامة دولة النيل المتحدة تحت تاج الفاروق

إلى الماضي.

هذه صورة من كفاحنا الشعبي في معركة التحرير. . فلنعد إلى الماضي لنرى صورة من كفاح الآباء. . ولنعرف كيف وقفت مصر وشعبها الأعزل في وجه بريطانيا غداة خروجها ظافرة من الحرب العالمية الأولى. . وكيف اضطرت بريطانيا رغم جيشها وأسطوله إلى التسليم بمطالب مصر

طلب سعد ورفيقاه كما رأينا أن يسمح لهم بالسفر إلى أوربا لعرض قضية مصر على مؤتمر الصلح ولكن رفض طلبه؛ ورأينا كذلك كيف ألف سعد الوفد المصري؛ وفي الوقت نفسه طالب حسين رشدي باشا وزميله عدلي أن يسمح لهم بالسفر لمباحثة الحكومة البريطانية في المسألة المصرية، وقد رفض طلبهما أولاً ثم سمح لهما بالسفر؛ ولكنهما طلبا أن يصرح لرجال الوفد بالسفر أيضاً فرفض الطلب مما أدى إلى استقالتهما. وقد وقف المصريون صفاً واحداً فلم يقبل أحد منهم الوزارة، وظلت مصر بلا وزارة في الفترة من ديسمبر 918 إلى مارس 1919

لم ييأس سعد وظل يواصل جهاده، ففي 11 يناير 1919 أرسل إلى كليمنصور رئيس مؤتمر السلام المنعقد بباريس برقية جاء فبها (بأسم الحركة التي أنت نصيرها، وبأسم العدل المجرد عن الهوى، وبأسم الإنسانية التي تأبى أن تكره الأمم على أن تنتقل من يد كما تنتقل ملكية السلع، نناديك من وراء البحر أن لا تتخذ سكوتنا الإكراهي الذي هو نتيجة الطبيعة لحبسنا في حدود بلادنا دليلاً على رضانا بسيادة الغير، وألا تسمح بالحكم في مصيرنا من غير أن تسمع أقوالنا.)

وفي 13 يناير 1919 عقد اجتماع وطني رائع في منزل حمد الباسل باشا خطب سعد باشا فيه فقال:

. . ليست فكرة الاستقلال جديدة في مصر بل هي قديمة يتأجج في قلوب المصريين الشوق إلى تحقيقيها كلما بدت بارقة أمل. . وتخبو ناره كلما استطاعت القوة أن تخمد أنفاس الحق، ولقد كان الوقت الحاضر أنسب فرصة لتحقيق هذه الفكرة. . . إن الاحتلال الفعلي لا يجد فرصة أنسب من هذه الفرصة ليحقق رجاء اللورد سالسبوري الذي قال في 3 نوفمبر 1886 (نحن لا نبحث إلا عن الخروج من مصر بشرف)

قلب هذا الاحتلال الذي لم يكن له حق في البقاء إلى حماية من بادئ رأي الإنجليز ومن غير اتفاق مع مصر. . ولكنها هي أيضا أمر باطل بطلانا أصليا أمام القانون الدولي ومخالف للمبادئ الجديدة التي خرجت بها الإنسانية من هذه الحرب الهائلة. . فنحن أمام القانون الإنساني أصبحنا أحراراً من كل حكم أجنبي. . فلا ينقصنا إلا أن يعترف مؤتمر السلام بهذا الاستقلال فتزول العوائق التي تقف بيننا وبين التمتع به بالفعل. لهذا الغرض السامي المطابق لما في نفوس المصريينجميعا ألفت أنا وأصحابي الوفد المصري للسعي في الوصول إلى الاعتراف بهذا الاستقلال وتشرفنا بتوكيل الأمة إيانا. . .

إن إيماننا بقواعد الحق والعدل هو عدتنا وكفى به عدة، وإن إجماع أمتنا على الاستقلال حجة قائمة، وما ينقصنا إلا أن يسمع مؤتمر السلام صوت الأمة، ولكن سيصله ولو من بعيد، يصله على رغم ما يقال من أن مؤتمر السلام الذي يعقد اليوم أشبه ما يكون بما سبقه من المؤتمرات، هذا هو النحو الذي ننحوه في قضيتنا)

ثم أعلن أن مطالب الوفد تشمل السودان (وإن من الفضلة أن تقرر بأن كل ما نقوله عن مصر ينسحب على السودان لأن مصر والودان كل لا يقبل التجزئة، بل إن السودان كما قال المستشار المالي في تقريره 1914 (ألزم لمصر من الإسكندرية)

ويقول الجود وهو إنجليزي معاصر في كتابه (انتقال مصر) ما ترجمته:

(وفي خلال شهري ديسمبر ويناير كان قلق المعتمد البريطاني يتزايد يوما بعد يوم، فقد كان يشاهد بعيون متعبة العداوة للبريطانيين تنمو يوماً بعد يوم آخر. لم يكن زغلولاً خاملاً، كان أسمه على شفتي كل مصري وأنتخب زعيماً للوفد بإجماع الآراء. لم يكن في مصر إلا حزب واحد، وزعيم، ومنهج واحد)

وفي 21 يناير غادر السير ونجت الأراضي المصرية بناء على استدعاء من لندن

أستمر الوفد في نشاطه، وعزم على عقد اجتماع عام في بيت الأمة في 31 يناير، ولكن قائد القوات البريطانية منعه

مقدمات الثورة:

في أول مارس 1919 قبل السلطان أحمد فؤاد استقالة رشدي باشا التي ظل أمرها معلقا منذ شهر ديسمبر 1918، وطلب إليه الاستمرار في إدارة الأعمال إلى أن يتم تأليف الوزارة الجديدة

تحرجت الحال بقبول استقالة الوزارة وأوجس الوفد خيفة من محاولة تأليف وزارة جديدة، ذلك لأن رشدي باشا كان متعاوناً مع زعماء الوفد. وقد أدى ذلك إلى هياج قي الأفكار والى تحمس في النفوس، وأضطر الوفد إلى أن يلجأ إلى السلطان عاتبا عليه قبول استقالة الوزارة التي وقفت بجانب الأمة تطالب باستقلالها، وطالباً أن يكون السلطان العون الأول للبلاد على نيل استقلالها

وفي 4 مارس أرسل الوفد إلى معتمدي الدول الأجنبية احتجاجاً قوياً على السياسة الإنجليزية التي تمنعه من عرض قضية بلاده أمام مؤتمر الصلح بباريس وأهم ما جاء فيه:

جناب المعتمد:

قضى الأمر وبلغ العسف غايته، لم ينفع مصر أن كانت مشركاً لأقدم مدنية في العالم، ولا أنها ما زالت دائبة يوما بعد يوم من عهد محمد على الكبير إلى الآن على أن تستعيد المركز الذي لها حق الوجود فيه بين الأمم، لم ينفعها تقديمها لقضية الحلفاء أثناء الاقتتال أفيد أنواع المعونة تأثيراً، وقيامها بذلك في نفس الساعة التي افتتحت بريطانيا العظمى فيها الحرب بأشد ضروب التصرفات السياسية ظلماً وهو إعلانها الحماية، لم ينفعها مالها من وحدة العنصر، ونبوغ الطبقة الراقية فيها، وما عليه أهلها من الشغف بالنظام وتعشق الحرية والتسامح العظيم، تلك الخصائص التي تجعلها جديرة بالاستقلال

إذن فكل شيء يجب أن يتواري أمام مطامع الاستعماريين اللامتناهية! إن المصريين دون جميع الأمم التي غيرت الحرب مركزها السياسي هم وحدهم الذين بطشت بهم القوة. .

ها نحن أولاء محكوم علينا بالبكم، نعلك فيه شكيمة الغيظ، وبالحزن المبرح نلبس ثيابه حدادا على حريتنا المسلوبة.

إن الأدلة التي ما زالت تسومنا الخسف ما لبثت أن قررت نهائياً قطع الطريق علينا إلى المؤتمر ساخرة بوعودها. .

إن الوزارة التي اندفعت بوطنيتها إلى إتنهاج ما يوافق القضية المصرية قد اضطرت إلى الاستقالة. . ونحن نعتقد أنه لا يوجد مصري واحد جدير بأن يدعى مصرياً يستطيع أن يؤلف وزارة. . والذي نقصد الآن إنما هو أن نشهدكم على المعاملة الجائرة التي ترزأ بها مصر لكي تقولوا لحكومتكم إنه على رغم العهود التي التزمت بها إنجلترا على رؤوس الأشهاد، وعلى الرغم من المبادئ التي أقرها الحلفاء بالإجماع، لا زال في العالم أمة تتحكم فيها القوة الغاشمة لخدمة مصالح لا اتفاق لها من دواعي المدنية، وهي أقل اتفاقاً مع دواعي العدل والإنصاف

ولم تكن السلطة العسكرية تسمح بنشر هذه النداءات في الجرائد، فكان الوفد يقوم بطبعها وتوزيعها على الأهالي، فأحدثت هياجاً كبيراً في نفوس المصريين وأثارت حماسة وطنية عظيمة

فضاقت بريطانيا من حملات سعد ومن تشهيره بها، ومن نداءات الوفد إلى معتمدي الدول، ومن كتبه إلى السلطان، فقر رأيها على سياسة الشدة في قمع الحركة. وبعد ظهر يوم 6 مارس استدعى قائد القوات البريطانية رئيس الوفد المصري وأعضاءه ووجه إليهم الإنذار التالي:

(علمت أنكم تضعون مسألة الحماية موضع المناقشة، وأنكم تقيمون العقبات في سير الحكومة المصرية تحت الحماية بالسعي في منع تشكيل وزارة جديدة، وحيث أن البلاد تحت الأحكام العسكرية، لذلك يلزمني أن أنذركم أن أي عمل منكم يرمي إلى المعاملة الشديدة بموجب الأحكام العرفية)

وقد أراد أعضاء الوفد التعقيب على هذا الإنذار، ولكن القائد العام رفض سماع أي كلام قائلاً (لا مناقشة)!

أبو الفتوح عطيفة

بمناسبةالذكرىالثانية