مجلة الرسالة/العدد 96/دين البادية
مجلة الرسالة/العدد 96/دين البادية
عن لامرتين
للأستاذ التنوخي
عضو المجمع العلمي العربي وكاتب سره
وأولئك الملاحون السابحون إلى الأبد على بحار من الرمال، قد أكسبهم الاعتياد أخلاقاً متشابهة، بمشاهدة مناظر متشابهة، وسكنى منازل متشابهة، وبنقلهم المستمر لخطوات متشابهة، في طرق ومسالك متشابهة، فسجاياهم على ذلك مشابهة لسجية البادية. أنهم لمتمسكون بدينهم تمسك اللانهاية بهم، وأحرار كحرية الفضاء المكشوف لهم؛ وجوالون تجوال الجواد الذي يقلهم، والناقة التي تحملهم، والقطيع الذي يتبعهم؛ وهم أجاويد مثل الخيمة المفتوحة أبداً لأخي الأسفار، أضلته مجاهل القفار؛ ومغاوير لهم جرأة المدين بحياته لقوة عضلاته، والمضطر للذود عن حريمه ومأواه، والدفاع عن مائة ومرعاه، من غزوات القبائل والغارات المداهمة؛ وهم بحكم العادة ميالون كالوحدة إلى الصمت، ومولعون بالحديث أحياناً شأن الإنسان الذي يلاقى بعد طوال الوحشة أخاه الإنسان فيحدثه عن كل شيء، ويستخبره عن كل شيء؛ وهم مفطورون على الشعر وعلى التأمل فطرة الليل والنهار، والكواكب والآفاق التي يقع عليها أبصارهم أبداً؛ وهم قصاص بارعون لاضطرارهم إلى قضاء ساعات الفراغ الطويلة في سرد الحكايات والأخبار والعجائب إما تحت الخيام أو حول الآبار تسلية للقلب من البلبال، وتزجية لساعات الفراغ والملال
إن من لم يكتحل بمشاهدة غروب الشمس في ضبابة حمراء من الجحيم يعكس نورها ذلك الرمل المنتشر ما بين النهرين، أو بلاد الكلدان، ومن لم يراقب طلوع الكواكب متهادية، ثم هبوطها في ليالي الشتاء على بحر محيط من الأثير الأزرق، اعمق من الفكرة التي تغوص فيه، وأصفى من ماء البحر في رأس الأرض المنتصب الذي يحول دون لآلائه والتجمد، ومن لم يسمع همس تلك النسمات المتوالية من ريح لم يتم في البادية سكونها، وكيف تهينم بصوت رخمه في المسامع مروره على تلك الروابي والهضاب، وعلى عذبات أوراق الاعشاب، ومن لم يطرح طرفه كل مطرحٍ في ذلك الفضاء الذي لا وراء بعده، والذ يغيب في الله افقه الرحيب، ومن لم يبصر في تلك الظلال الجانبية من الجمال الباركة كيف ترتسم صورها في أجواز السماء، وهي جامدة جمود تلك الصور الجانبية من ظلال تماثيل أبي الهول الصخرية على سود تلك الرمال المصرية، من كان هذا شأنه لا يحق له أن يحكم على ذلك العربي المنتجع لمواطن الماء والكلأ، ولا على ذلك السحر الذي يستهويه، وبقضاء الله الذي يرضيه
اجل إن تلك الارتسامات والحساسات، وما يعرو الإنسان في البادية من وساوس وهواجس لبعيدة المصدر بعدا يخيل معه للمرء أنها صادرة عن اللا نهاية نفسها، وان تلك الأنوار المنهمرة أمطاراً من النار على الروابي والبوادي، لم تنهمر قط على سطوح المدن والقرى، ولا تلوثت بالدخان المتصاعد من مداخن المساكن، وفي أناء الليل والنهار لا يحول بين الروح وصانعها حائل، فيشعر الإنسان لذلك بيد خفية لكنها ملموسة، هي يد الخالق على خلقه، ويبصر في كل لمحة تجلي الصانع خلال ذلك البحر من الضياء الذي يغمره، وفي حدود ذلك الأفق الذي يكتنفه من الغموض ما يخيل للمرء أن لا وراء بعده إلا المجهول، وفي ظلال الليالي تجوس الأبصار خلال الكواكب فتلحقها أو تسبقها إلى منازلها، فهي تشهد بدون حجاب ذلك النظام المحكم، بل ذلك الإتقان الناطق بكلمة الإيمان!
إن الدين وهذا الإيمان المستقر في الأرض منشؤه علم النجوم في بوادي كلدة، وإن الحروف التي يتألف منها الاسم الإلهي تقرأ بأبهر مبني واعمق معنى، وهي منقوشة على ألواح السماوات، وان المخيلة لتغتذي برؤى السماء ورقى الأضواء؛ وإن التجليات الخارقة الغيبية مع تجسيم الحقيقة بالأوهام، لا تزال منذ بدء العالم على حالها، والرجل المدثر برداء التقوى والإيمان لا يتأثر إلا بالانفعال الذي هو به جدير: اعني به انفعال اللانهاية والخلود
إن جميع العقائد لمنبعثة من تلك الخلوات منذ عهد الإله (الكوكب) مركز عوالم زرادشت، حتى (الله) رب محمد، ومنذ الإله المشرع (يهوه) موسى، حتى الإله (الكلمة) التي يبحث عنها متى سجا الليل رعاة بيت لحم
فالعربي (وهو السر المكنون كالسكون، والمتأمل كالليل، والمستوحش كالوحدة، والمصدق بالمعجزات كرقية السحر الخالدة يستنزل بها الوحي، ويسترق بها السمع)، له من قوة الحواس ما يدرك بها الله في الصحراء اكثر منا: إن حياته لعبادة أبدية، فهو لا يلهيه عن الخالق شيء، ورحابة البادية التي لا حد لها هي معبده والمحراب، فما كان لهذه الطبيعة أن تلتقي والإلحاد أبدا
أمع مثل هذه الطبيعة يتاح لبدوي أن يلحد يوما؟ خذوا أي زنديق من زنادقة الغرب، واقذفوا به بضع سنين إلى المشرق تجدوه لا يخرج منه إلا معافى من تلك العاهة الروحية: إن الإلحاد لا ينشأ إلا في الظلال، وفي مواطن الحرمان من التأمل والخيال، ومدن الغرب التي يصاب فيها المرء بدوار الرأس والخبال؛ إن الشمس لتستأصل شافة الكفر والإلحاد والشبهات، لان تلك السموم الباردة لا تنمو إلا في الظلمات؛ وإن ذلك الفضاء الرحب، وهو ملك البصر، ليمنح العربي من الشعور بكرامته ما هو اشد من البادية عنجهية، واكثر منها حرية، ذلك إن الجماعة تسحق الأفراد والوحدة تسمو بهم، والمنفرد يشعر بعظمته في كل حين، لأنه إنما يقيس نفسه بالنظر إلى عظمة الطبيعة وسعة سلطانها، لا إلى تلك القيمة العددية الخفية التي يمثلها بكيانه بين ظهراني جمهور لا يحصى من مدينة غاصة بأحيائها، وأمة كبيرة بوفرة أبنائها. إن هذا الشعور بالعظمة الذاتية ليجعل من الإنسان مخلوقا غير خليق بالصغار، وليحمله على آباء الضيم والعبودية؛ اجل إن العربي ليخضع لدينه ولرياسة الأسرة الإلهية، ولعادات السادات شريعة العرف المقدسة؛ ولكنه لا يخضع للقوة الغاشمة أبداً!
التنوخي
عضو المجمع العلمي العربي وكاتب سره