مجلة الرسالة/العدد 96/شاعرنا العالمي

مجلة الرسالة/العدد 96/شاعرنا العالمي

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 05 - 1935


2 - شاعرنا العالمي

أبو العتاهية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

أبو العتاهية وبشار وأبو نواس:

هؤلاء هم الشعراء الثلاثة الذين كانوا أعلام هذه الثورة في الشعر، قضوا فيها على طريقته القديمة التي مضت في عصر بني مروان على جاهليتها العربية، لا تفكر في تجديد، ولا تنظر إلى ما حدث في العرب من أحداث دينية وسياسية واجتماعية، خلقت منهم أمة جديدة، وشعباً يتألف من أجناس مختلفة، وله نظر جديد في الأدب يخالف نظر أولئك العرب الخلص، وذوق أرقى من ذوقهم في الشعر والنثر. وقد بدأت هذه الثورة لينة هادئة في بشار بن برد، شديدة لا تبلغ درجة العنف في الحسن بن هانئ (أبي نواس)، شديدة عنيفة في إسماعيل بن القاسم (أبي العتاهية)

وكان مظهر هذه الثورة في أربع نواح من الشعر:

(1) ألفاظ الشعر التي انتهت ثورتهم فيها إلى نقل الشعر إلى ألفاظ العربية الحضرية، وهجر ألفاظها البدوية الخشنة؛ وإذا قلنا ألفاظ الشعر فإنا نعني بذلك ما يشمل معانيه، لأن التجديد في الألفاظ يستدعي التجديد في المعاني حتما حتى يتلاءم أمرهما، وتتناسب رقة المعاني وجمالها مع رقة الألفاظ وصقلها

(2) طريقة الشعر ومذهبهم في ترتيب القصائد من مطالعها إلى مقاطعها

(3) أغراض الشعر ومقاصده

(4) أوزانه وقوافيه

فأما ألفاظ الشعر فقد اشترك الشعراء الثلاثة في تلك الحركة التي انتهت بنقلها من البداوة إلى الحضارة، وكان بشار أول من بدأ بذلك وفعله عن قصد إليه يحقق فيه معنى تلك الثورة، فإنها لا تكون إلا عن قصد، ولا تثبت بالاعتباط والمصادفة، ولكنه لم يصل في ذلك إلى غاية هذه الحركة، لأنه نشأ متقدماً على أبي العتاهية وأبي نواس، وقضى شطراً كبيراً من عمره يأخذه بطريقته الجديدة وحده، وشعراء العصر المرواني يحيطون به من ه وهناك، ويعيبون عليه تلك الطريقة التي يأخذ بها، ويرمونه بالقصور والعجز عن اللحاق بالفحول، فيؤثر هذا فيه بعض التأثير ويمسكه عن الغلو في طريقته والاندفاع فيها، ويجعله يأخذ أحياناً في تقليد أولئك الفحول، والأخذ بطريقتهم في الغريب، والتشادق بالألفاظ

وقد مدح رُؤبَةُ بن العَجّاج عُقبَةَ بن مسلم بأرجوزة من أراجيزه وبشار حاضر، فاستحسن ذلك من رؤبة. فقال له رؤبة: هذا طراز لا تحسنه أنت يا أبا معاذ. وكان رجزهم في ذلك الوقت غاية ما وصلت إليه طريقتهم البدوية في إيثار الغريب والتشدد في اللفظ، فكان هذا سبباً في إنشاء بشار أرجوزته في مدح عقبة بن مسلم:

يا طَلَلَ الحي بذات الصّمْد ... بالله خبّرْ كيف كنت بعدي

أحسنت من رعد وتِرْبِ رعد ... سقيا لأسماء ابنة الأشد

قامت تُرَائيِ إذا رأتني وحدي ... كالشمس تحت الزِّبرِجِ المنقد

إلى أن قال في مدح عقبة:

أسلم وحييت أبا الْمِلَدّ ... مفتاح باب الحدث المنسد

مشترك النَّيْل ورِيّ الزند ... أغر لَبّاس ثياب الحمد

لله أيامك في مَعَدّ ... وفي بني قحطان غير عد

كل أمرىء رهن بما يُؤَدّي ... ورب ذي تاج كريم الجد

كآل كِسرىَ وكآل بُردٍ ... أنكبُ جاف عن سبيل القصد

فصلته عن ماله والولد

وروى الأصمعي أنه قال: كان أبو عمرو بن العلاء وخلف الأحمر يأتيان بشاراً فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان، فأتياه يوماً فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن قُتيبة؟ قال: هي التي بلغتكما، قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب، قال: نعم، إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أورد عليه مالا يعرف، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ، فأنشدهما:

بَكِّرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير

حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان (إن ذاك النجاح) (بَكِّرا فالنجاح) كان أحسن، فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية، فقلت: (إن ذاك النجاح) كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت (بَكِّرا فالنجاح) كان هذا من كلام المُوَلَّدين ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة، قال: فقام خلف فَقَبَّل بين عينيه. وهذه القصة تعطينا أن طريقة بشار الجديدة (طريقة المولدين) كانت قد تقررت في ذلك الوقت، وصارت واضحة النهج، معروفة الأسلوب واللفظ، وتعطينا أن بشاراً كان لا يعدل عنها إلا لدواع نادرة تجعله يتكلف طريقة الأقدمين، ليثبت لهم قدرته عليها، وأنه يهجرها عن عمد، ويتركها عن اعتقاد بعدم صلاحيتها، بعد انتقال الأمة من البداوة إلى الحضارة، ومن خشونة العيش إلى لينه، ومن ظلمة الأمية إلى نور العلم، ولكنه كما قلنا لم يصل في تلك الطريقة إلى غايتها، ولم يبلغ بها إلى الدرجة التي وصلت إليها في شعر أبي نواس وأبي العتاهية، من تلك السهولة الممتنعة التي تقرب الشعر إلى الناس وتبعده عنهم، وتعتمد في ذلك على القدرة الشعرية الحق، لا على التشدق الذي يخفي وراءه من الضعف الشعري ما يخفي، ويوهم الناس أنهم لا يقدرون عليه، وهم لا يعجزهم منه إلا هذا التشدق وحده

وأما طريقة الشعر فلم يحدث فيها بشار حدثاً، بل مضى على ابتداء القصيد بالنسيب كما مضى عليه من قبله؛ وقد ثار أبو نواس على هذه الطريقة، وأخذ على الشعراء ابتداءهم القصيد بذكر الأطلال في عصر الحضارة والعيش المستقر، وبذكر هندا ودعدا بعد أن امتلأت القصور في عصرهم بمن لا يصح أن يجري معه ذكر لهند ودعد؛ وقد ذكروا لأبي نواس في تنديده بذلك قوله:

صفةُ الطلول بلاغة القِدْمِ ... فاجعل صفاتك لابنة الكرْمِ

وقوله:

لا تَبكِ ليلى ولا تَطرَبْ إلى هِندِ ... واشرب على الوردْ من حمراء كالوَرْدِ

وقوله:

سقياً لغير العلياء فالسّنَدِ ... وغير أطلال مَيّ بالجرَد

وقوله:

يا رَبْعُ شُغلَكَ إني عنك في شُغل ... لا ناقتي فيك لو تدري ولا جملي

وقوله: تبكي على طلل الماضين من أسَد ... لا دَرّ دَرُّكَ قل لي من بنو أسد

لا جَفّ دمع الذي يبكي على حجر ... ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد

وهذه ثورة على القديم حقاً، ثورة تفتن بعض دعاة التجديد في عصرنا، ولكنها عندي ليست هي الثورة الصحيحة التي يجدر بها أسم الثورة، وتستحق أن تدعى تجديداً في الأدب، وإنما هي ثورة شعوبية عابثة، ولا فرق بين ابتداء القصيد بالنسيب وابتدائها بوصف ابنة العنب، بل ربما يكون ابتدائها بالنسيب أروح عند النفس، وأخف في السمع؛ وإنما التجديد في ذلك ما سبق به شاعر بني مروان العظيم: الكميت ابن زيد الأسدي، وهذا في هاشمياته التي أنشأها في مدح بني هاشم والدعاية لهم في ذلك العصر، وكانت أول شعر قاله فسترها ثم جاء الفرزدق فقال له: يا أبا فراس إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسدي، فقال له: صدقت أنت ابن أخي فما حاجتك؟ قال له: نُفِثَ على لساني فقلت شعراً أحببت أن أعرضه عليك، فإن كان حسنا أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً أمرتني بستره، وكنت أولى من ستره عليّ، فقال له الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك فأنشد ماقلت، فأنشده:

طرِبُت وما شوقاً إلى البيض أطرَبُ

قال: فيم تطرب يا ابن أخي؟ قال:

ولا لعباً مني وذو الشوق يلعب

قال: بلى يا ابن أخي - قال:

ولم يُلهني دار ولا رسم منزل ... ولم يتطربني بَنانٌ مُخضَّب

قال: وما يطربك يا ابن أخي؟ قال:

ولكن إلى أهل الفضائل والتقى ... وخير بني حَوّاَء والخير يطلب

قال: ويحك من هؤلاء؟ قال:

إلى النفر البيض الذي بحبهم ... إلى الله فيما نابني أتقرب

قال: أرحني ويحك من هؤلاء؟ قال:

بني هاشم رهط النبي فإنني ... بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب

خفضت لهم مني جناحي مَوَدّةً ... إلى كنفٍ عِطافهُ أهل ومرحب وكنت لهم من هؤلاء وهؤلا ... مِجَنَّا على أني أُذَمُّ وأُقصب

وأُرْمَى وأرْمِي بالعداوة أهلها ... وإني لأْوذَى فيهمُ وأُؤنب

فقال له الفرزدق: يا ابن أخي أذع ثم أذع، فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقى؛ وفي رواية أخرى أنه قال له: قد طربت إلى شئ ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فما نطرب ولا طرب من كان قبلنا إلا ما تركت أنت الطرب إليه

فهذا هو التجديد الصحيح في مطلع القصيد، لا ابتداؤه بوصف الخمر بدل النسيب كما أراد ذلك أبو نواس، فكل منهما غرض مستقل من أغراض الشعر، والتمهيد به لغيره من الأغراض الشعرية تصنع قبيح، وتكلف مسترذل.

وقد سلم أبو العتاهية من هذا العبث في مطلع قصيده بعد أن أقلع فيما يأتي عن سنة شعراء عصره، وأخذ نفسه بالجد في الشعر وترك العبث واللهو فيه.

وأما أغراض الشعر فإن أبا العتاهية هو حامل راية التجديد فيها، وصاحب القدح المعلى في تذليل ذلك الشعر العربي الجامح للآداب الإسلامية العالية، والأخلاق الكريمة السامية، والمواعظ الحسنة النافعة، وما إلى ذلك مما يدخل في نشر الثقافة الإسلامية، واستخدام الشعر في الدعاية إليها، وأخذ الناس جميعاً بها، حتى تعلو كلمة الشعر عليهم أجمعين، ويكون الشعراء الحكام على الملوك والعظماء، ولا يكون الملوك والعظماء الحكام على الشعراء، ولقد نجح أبو العتاهية في ذلك أيما نجاح، وذاع شعره في الشرق والغرب، وطار به صيته عند الأدباء والعلماء والعظماء في سائر الأمم واللغات، وأدى بهذا كله رسالة الشعر في عصره أحسن تأدية. ولم يكن لبشار ولا لأبي نواس في ذلك أثر يصح أن نذكره، اللهم إلا بعض أبيات نادرة تأتي في أثناء القصيد على عادة غيرهما من الشعراء، وإلا قصيدة بشار في الدعاية لابراهيم بن عبد الله بن حسن حينما خرج على المنصور، وكان بشار من أشياعه، وهي قصيدة جليلة نعى فيه على المنصور قيام حكمه على الاستبداد بالرعية، ونصح إبراهيم أن يقيم حكمه على الشورى بأبياته المشهورة فيها:

أبا جعفر ما طول عيش بدائم ... ولا سالم عما قليل بسالم

على الملك الجبار يقتحم الردى ... ويصرعه في المأزق المتلاحم

كأنك لم تسمع بقتل متوج ... عظيم ولم تسمع بفتك الأعاجم تقسم كسرى رهطه بسيوفهم ... وأمسى أبو العباس أحلام نائم

ومروان قد دارت على رأسه الرحى ... وكان لما أجرمت نزر الجرائم

فأصبحت تجرى سادراً في طريقهم ... ولا تتقي أشباه تلك النقائم

تجردت للإسلام تعفو سبيله ... وتعرى مطاه لليوث الضراغم

فما زلت حتى أستنصر الدين أهله ... فعاذوا عليك بالسيوف الصوارم

أقول لبسام عليه جلاله ... غدا أرحياً عاشقاً للمكارم

إذا بلغ الرأي المشورة فأستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم

وما خير كف امسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم

وخل الهوينا للضعيف ولاتكن ... نؤوما فإن الحر ليس بنائم

وقد صرف بشار وأبو نواس شعرهما في العبث والمجون، وهتك الأعراض، والخروج على الدين والآداب، حتى ضج منهما الناس في عصرهما، وساءت في الناس سيرتهما. وأما أوزان الشعر وقوافيه فلم يكن لبشار ولا لأبي نواس أثر يذكر فيها، وأبو العتاهية هو الذي جدد في تلك الناحية أوزاناً ظريفة، واخترع فيها قوافي جديدة، ومضى فيها على نحو لم يسبقه إليه أحد من الأوائل، ولم يكن يدخل في العروض الذي عرف لعهده؛ وقد سئل من بعضهم هل تعرف العروض؟ فقال: أنا أكبر من العروض. وهذا جزاب له قيمته في بيان اعتداد هذا الشاعر بنفسه، وفي الدلالة على أنه كان يذهب في الثورة على القديم مذهباً لم يصل إليه بشار ولا أبو نواس ولا غيرهما من شعراء عصره.

وإنا نسوق له قولًا آخر له دلالته في ذلك أيضاً: روى أنه اجتمع مع سلم الخاسر فأنشده بعض أشعاره ثم قال له: كيف رأيتها؟ قال سلم: لقد جودتها لو لم تكن ألفاظها سوقية، فقال له أبو العتاهية: والله ما يرغبني فيها إلا الذي زهدك فيها.

فإذا قسنا أبا العتاهية إلى بشار وأبي نواس فيما أحدثوه من التجديد في هذه النواحي التي هي أهم نواحي الشعر، وجدناه يربى فيها عليهما، ووجدنا أنه كان موفقاً فيما أحدثه من التجديد فيها كلها، ووجدنا أن بشار وأبا نواس لم يكن لهما تجديد يذكر إلا في الناحية الأولى وحدها، وخرجنا من ذلك كله بأن أبا العتاهية أولى منهما باسم الشاعر المجدد في هذا العصر.

عبد المتعال الصعيدي